أيها الرفاق.. متى تقوم الساعة؟ | شُعيب حَليفي
شُعيب حَليفي
إلى أصدقائي الذي يقاسمونني هذا الزمن
استهلال: أوصيكِ يا نفسُ بالنهر لا البحر، باللحظة التي نحن فيها لا التي ننتظرها.
لا تكتبْ شيئا مُرتّبا أو منظما لأنه سينقلبُ عليك.اكتُبْ ما تشتتَ في خاطرك وتبدّد بين شِغاف مشاعرك. ولا تجعل كل كتاباتك في ذهنك فما في الذهن إلا غيومٌ ترعى. واجْرَعْ من ماءِ وجدانك ومِلح الخيال ونور الأحاسيس التي لا تُخلفُ وعودها.
الفصل الأول :ألسنة الزمن
تجري المصادفات، في تاريخنا القصير والعابر، مثل أقدار تمضي كما تشاء، فلا تترك لنا إلا فرصة تأويل الحكاية.
هل كنّا سنكونُ ،كما الآن، لو عاد بنا الزمن إلى الوراء.. أو تقدّم إلى الأمام في ضربة جِزافية ؟
هذا الزمن الذي نحياه هو بقايا شيء يشبه الدهر، نسبح فيه بالقوة، ونسميه، دون إحساس بالذنب، الزمن، لأنه يختار من أتباعه من يُهدّمُ قِلاعنا فيحوِّلنا إلى أسرى ورهائن وعبيد وسبايا.
أيها الرفاق، منذُ متى ونحن نجوب الأيام والليالي بحثا عن مجتمع فاضل نوزع فيه التوبة والأحلام الكبيرة التي تنتهي بإخفاقات في خيال انتصار متَوهّم؟ وكلما بوّأنا قائدا منا وعلينا قتلوه أو نحن من يقتله ونلوِّح بأشلائه بعيدا .. ومتى لم نفعل يأتي منهم من يخوننا أو يقتلنا أو يصطف في الطابور ليقبض الثمن. كم مرة مِتْنا ومِتنا ثم نعود لنحلم نفس الأحلامَ حتى تعوّدنا إدمانها وذابت في الحقائق التي حفظناها، وصرنا نخشى افتقاد هذا السحرَ وهذا الوهْمَ وهذا القتلَ الذي يأتينا حارقا ممن كانوا ألسنتنا وأقلامنا.
وكلما لـــمْلمْنا زمنا علّه يسَعُنا، فنطرحُ عليه أحلامَنا، مُسرعين، علّنا نستريح قليلا قبل أن يُكفّروا ويطعنوا أو يحرقوا أو يُغرقوا أو يسرقوا وينهبوا… فنعود قلة قليلة نبحث عمن يحمل معنا الصخرة القديمة التي اسودّت بآثام حلمنا العصيّ.
منذ متى توقفنا عن المسير ؟
صِرنا نحن المتفرجون وصاروا “هُمُ” المهرّجون، في أمكنتنا قاعدون أو مُقعدون لا نتحرك حتى يبِسْنا ويَبِسَ كلامنا. أما المهرجون بِلباس الماضي ويبيعوننا صكوك حاضر مزيف بالغفران، إلى جانبهم سادة جُدد ولدوا في ساعة العصر قبل الأصيل.
ماذا نحن فاعلون أيها الرفاق ؟
ألمْ نتعب من التخمين وتقليب الحدوس؟ ألم تنقطع أنفاسُنا من الشتات وشتات الشتات؟ أَلَمْ نَكِلّ من النظر في اتجاهٍ واحد بأكثر من قِناع؟وقد صرنا زمرة من الحالمين .. بعدما مات من مات وقُتل من قُتل وباعنا من باع وفرّ من فر واصطفّ من اصطف…أو اليائسون يأسا عظيما ممن لم يجدوا نهرا أو بحرا فارتموا في التراب.. قطعة واحدة في حجم قبر مجهول هل تكفيكم أم تكفي أحلامنا؟.
من نحن الآن بعد كل هذا ؟ بعدما فقدنا القدرة على الفعل. وبعض من بقيَ منا : اختار مائدة الماضي والبكاء بعد كل وجبة، أو اختار موائد أكل لحومنا نيئة، فهي الأقرب إلى لحوم الطرائد الوحشية التي صارعت بكل ما أوتيت في هذا الغاب الكبير.
هل كنا على صواب؟ فقد جعلوا الشك سبيلا سريعا إلى قلوبنا.. وقالوا كان زيغا منا، ليبرروا اندماجهم السريع.
كنا ممتلئين أملا فصرنا مجالا فسيحا لليأس. كنا شجرة يَستظل بها الحالمون والثوار والفقراء فصرنا حَطبا لليلٍ بارد وطويل. كنا وجها فصرنا قِناعا.كنا رأسا فصرنا قدمين. كنا هويّة فصرنا هاويّة .
متى تقوم الساعة أيها الرفاق.. فنستعيد زمننا الحقيقي، ونضبط ساعتنا على الحياة كما نشتهيها.
كل واحد منا يحيا في جزيرته سلطانا يسوس الرياح ممتطيا صهوات بروقٍ ورعودٍ وأناشيد تحوّلت إلى حشرجات خانقة.
لا تقاطعوني أرجوكم .. فأنا لم أقاطع فرحكم ويأسكم أبدا.
أنا وأنتم تعرفون الكثير الكثير؛ لا شيء لديَّ لأخسره سوى كلماتي التي تنهض من بئر مهجورة وتسكن كهوفا لها شرفة سرية على الأبد.. سنخرج منها إلى هِجْرات جديدة في رحلة تأخرت طويلا.
لا رغبة لي في شيء سوى ما ملكت كلماتي وأحلامي.إننا نعيش بأقنعة تأكل من وجوهنا. أدعوكم للمرة الأخيرة أنْ تعالوا نرميها في النار ونخرج إلى العالم “فاصْ آ فاصْ”. لا استسلام ولا تفاوض وإنما هي طريق نسيرها بلا تردد حتى النهاية.لا.. لأنصاف الحلول.لا..للاستسلام.فالزمن هو المنتصر الوحيد في كل المعارك .. لذلك أوصيكم أيها الرفاق، بالوضوح والنظر في الشمس والغيوم.
الفصل الثاني :بلا قِناع
ولدتُ وترعرعتُ في مدينة صغيرة على أطراف حقول ودواوير تولد مرة واحدة كل صباح وتموت مرّات في المساء. فترسخت لديّ قناعة التاريخ العابر وأن الحياة غير ما نتصور .. إنها أكبر مما نعتقده أو نُعرِّفه أيها الرفاق.
نحن صورة تتكرر. فأنا من فاوض الرومان وهاجر إلى الشرق لاستعادة إرث الأنبياء وكلامهم غير المدّون وعبرتُ إلى فينيقيا ومنها سافرتُ في سفن عليسا إلى قرطاج أكتبُ سيرتها الهاربة .أنا من جادلتُ يوبا الثاني واختلفتُ معه ولبستُ سلهام بطليموس لأموت بديلا عنه، ثم انخرطتُ محاربا في الصفوف الأولى مع ميسرة، ثم انشققتُ ملتمسا طريقي فكتبتُ كتاب صالح البورغواطي الذي عَدُّوهُ مُصحفا، ثم ارتحلتُ إلى الجنوب أجُوبُه قرونا مع المرابطين والموحدين فكنتُ في كل الجيوش محاربا أحلم باقتطاع مملكة لي ولو على رأس نخلة مُثمرة.. ولم أتعب، فكنتُ في كل زمان منضبطا ضمن صفوف الثوار من رفاقي.. وفي كل مرة أموت وأحيا لأكتب عن موتي وأنا مربوط بحبلين في معصميّ، حبل يجره الغروب الغارب والآخر يجره الفجر الفاجر !.
لا أرى أَصْدَقَ مما سأرويه لكم الآن.
بالأمس، وهو مثل اليوم ولكن ليس مثل باقي الأيام، دعاني صديق لي ( صالح الورّاقي )ممن يحبّ إحياء حفلاته مختلقا لها مناسبات متنوعة وأحيانا عجيبة. لم أشأ خِذلانه هذه المرة كما فعلتُ في كل المرات السابقة، منذ فترة تدنو من أربع سنوات كنتُ انقطعتُ عن حضور حفلاته. ولكني اشترطتُ عليه، بمناسبة استئناف عودتي، استقدام أصدقائي الخمسة معي لاستكمال اجتماع ضروري، ضمن جمعيتنا أو خليّتنا،نريد منه أن يُسفر عن قرارات حاسمة تتعلق برأينا في كل ما يجري دفاعا عن الحياة التي نحبها. وكان علينا استكمال النقاش حتى أتمكن من كتابة البيان الذي تأخر طويلا منذ آخر مفاوضاتنا ذات فجر ماطر من شهر نونبر حينما قرر جدّنا صالح بن طريف الاختفاء،ووعدنا وعدا حقا بعودته لكتابة البيان بالبيان.
وصلنا بعد هبوط الظلام الأول، فانزوينا في ركن قريب من البيت الواسع، نناقش وقد بدأ صوتنا باطنيا مهموسا ثم تحرر فصار شائعا علنيّا، صوتنا بلغة خارج اللغة. كنّا خمسة متحلقين حول مائدة من خشب العرعار الأحمر،لم نترك عليها كؤوس الشاي والقهوة كي لا تندلق فتُبلل أرواحنا المشتتة أما بقية البراح فكان فضاءً واسعا تزينه مربعات رخامية صغيرة ذات ألوان خضراء وزرقاء، يطوف فيه صاحبي صالح المنشغل بخدمتنا وبخدمة سمير وهو صديق آخر، من تلك الجهة،أعرفه مثلما أعرف نفسي، فلاّحٌ ليبرالي منفتح على الحياة وعلى اليقين المطلق. يَعتبر، على عكسنا، أن الزمن هو نحن وقد تشتت وتاه فينا.
فيما كنا نواصل نقاشنا، كان صالح وسمير يجلسان بجوار مجموعة فنية يرأسها شيخ ما زال شابا ولكنه خطير في لعِبه الفني بكمنجته ، يقود ست فنانات شعبيات من بنات القمر، كأنهن كُحلُ الحياة، في مثل سنّ شيخهن الشاب، يلبسن قفاطين مزدوجة، تقليدية ثقيلة ومحلولة، باستثناء واحدة تلبس لباسا عصريا خفيفا بلون السماء في صفائها، يبرز فتنتها المتقدة، اسمها ميرا.
وما أن شرعنا في نقاشنا الثوري حتى انطلق طربهن العُرُوبي يمخر عباب النفوس بعيوط مرساوية.. هي تمهيدات مُغرية لما سيأتي من تشكيلات حصباوية وزعرية. فكُنا في مجموعتين نسير بشكل متوازٍ: نحن في زاويتنا، هناك، نستكمل نقاشنا حول قضايا أمتنا وبلدنا وكأننا نخطط للثورة الأخيرة قبل قيام الساعة، وهم في الجهة الأخرى شرعوا في الطرب، دون انتظارنا؛ يرمون كلامهم من صدورهنَّ الساخنة.. فشعرتُ أن أصواتهن كانت مثل حبّ الرمان.. فتمنى ولد بُويا، في خاطره الخرافي ، لو كان ديكا ليلتقط الحبّات حبة حبة أو يمزق السماء بصرخة.. آه يا ولد بويا ! لو تعرف ما في خاطري.
كل فريق غارق في عالمه بطريقته التي يراها مفيدة في تلك اللحظة بقلب واحد وأصوات مختلفة أو صوت واحد وقلوب مؤتلفة؛فمع رفاقي نخوض نقاشا جِدّيا عن الهاوية التي نحياها بطريقتنا، وكل واحد في هاويته الصغيرة ولا بد من استعادة دورنا التاريخي في المجتمع. ولنكن في البداية مع البروليتاريا العاملة في كفاحها الخرافي ضد الدناصير. وشعرتُ بالقلق ثم بالسعادة في آن حينما حاولتُ تذكر أسماء الدناصير فلم أستطع. ومن حين لآخر كنتُ أسرق النظر والسمع من الحفل الفني المجاور لنا. وفيما ميرا شاردة عن سِربها تُلاعب جسدها بشوق حاسم، كانت الفنانات بناتُ القمر الخمس في خط طولي، حول شيخهن وشيخنا جميعا وصالح وسمير، بقفاطينهن المحلولة على كعوب ساخنة في هذا الجو البارد يُراودْنَ الحياة بتعبيرات يلتقطن ظِلالها مما في خزائن الغيب بعيدا عن حرائق الكلام الذي كان يدور بيننا.. وبعد مرور ساعتين أو أكثر مرتا مثل ثانيتين ، شَرعن في التخلص القفاطين الثقيلة مكتفين بالخفيف فقط؛ فالغناء والرقص والنقاش الحارق ألهب الجو حرارة والليل لباسا فلم نحتمل. وقد رأيتهن فراشات يتحرقن بالشوق فيما كنتُ ورفاقي قد وصلنا إلى هاوية الهاويات، وتذكرت أسماء الدناصير فتعرّقتُ بعرق مختلف مذاقه، وحينما رآني صديقي، صالح، قام ودعاني للغرفة الأخرى لاستبدال ملابسي الرسمية وارتداء الفوقية التي أحملها دائما في أسفاري.
لا أدري ماذا وقع حينما عدتُ وجلستُ لمواصلة الاجتماع. أحسستُ بارتياح كبير كأني نسر رشيق يتحسس مخالبه للانقضاض على طرائد تفوق عدد أصابع اليد الواحد بضربة واحدة. لباسي الواسع بصدرية مفتوحة واتساع كافٍ مَنَحني حرية إضافية. ورغم ذلك ، حينما جلستُ ارتبكتُ وأنا مشدوه من سمير وهو يقوم بعدما اشتدّ عليه الحال ليرقص بجلبابه وسط الفراشات بشكل خفيف في البداية.أو ربما أني أوهمتُ نفسي بالارتباك الذي يُشعرني بمذاق التأهب.
انتبه الرفاق لارتباكي فالتفتوا، ولكنني واصلت تحليل الواقع العميق تحليلا جذريا بحماس أشد. كأنّ الثورة بين يديَّ أتلمس وجهها الساخن بفائض عطفٍ، فخشيتُ أن تفلتَ مني أو تضيعُ كما ضاعت منا، أيها الرفاق، كل الثورات المغدورة السابقة.
وقلتُ بالحماس الذي ألهمتني نظراتي لميرا التي كانت تتلوى :
أيها الرفاق، قد تجدون في الاندماج مع العمال والفلاحين تجربة مؤلمة وشاقة عن تلك الإقامات الأرستقراطية الممنوحة في أوربا من أجل أن تفكروا بأفكار ناعمة الملمس وشبقية، أو في المسافات المفروشة نحو النياشين والجوائز.
إن الارتباط بالجماهير هو التغلب على الانتهازية والتشاؤمية والانبطاح وفقدان تلك الحرارة الطبيعية. ارتباطنا هو ما يمنحنا القدرة على ارتياد منابع الإبداع المتصل بالحياة.
كنتُ أتكلم وأنظر وأسمع وأفكر وأكتب وأحلم وآكل وأشرب وأحيا وأموت وأنام وأستفيق وأقوم وأجلس وأحسم وأتردد في آن واحد.. بينما يزداد رقص سمير اشتعالا وهو يرمي نظراته في كل المكان قبل أن يحس بالعرق يتصبّبُ منه، كما وقع للفراشات، في البداية، فيتخلص من جلبابه، يرميه بجوارنا مواصلا مُراقَصة بنات القمر بشكل فردي وجماعي وهو ينظر إليهن مثل ديك على الأرض أو نسر في السماء .
واصلتُ حديثي بصوت مرتفع لا يعلو على الحفل، بنفس الحماس الذي يواصل فيه سمير نشيده وقد بلغ مقاما عاليا، فشرع يضرب الأرض برجليه عاقدا يديه خلف رأسه، في تناغم غريب مع جرّات الشيخ الامبريالي وأناشيد الفراشات المتحرقات.في نفس الآن واصلت حديثي والضرب بيديّ على الطاولة.
وَيْحَكُم أيها الرفاق ! هذه ساعة أخرى لا مجال فيها للشك.ساعة اليقين بين الأرض والسماء. ساعة لا يُخلف فيها الميعاد . ساعة أن نكون أو لا نكون. ساعة نبحث من كان مختبئا فوق السقيفة أو تحت مائدة العشاء الأخير أو في الجبل. (قلتُ في نفسي وأنا أتحدث إليهم عن صعوبات المرحلة الآنية والقادمة، وأفكر في شيء آخر لا أذكره، وأتأمل صديقي سمير الذي تخالط خاطري بخاطره، وأنظرُ إلى رقص الفراشات وهو يزداد رشاقة وحبورا).
أيها الرفاق، متى تقوم الساعة حتى نعيش زمننا أو نموت.
تقدّمت تلك التي لم تكن تلبس لباس الأخريات. رشيقة مثل مُهرة بيضاء ضاع فارسها. صوتها يهتك الحجب كأنه حنّاء ترمي بها آخر الثوار في ساحات آخر معاركنا مع الزمن والموت. كان صوتها يمزق شغاف قلبي وقد ازداد حماسي وأنا أقول بتناوب مع المشهد المركب من صورتنا في الركن، وصورة صاحبي الآخر وهو يرقص في مقامه العالي وصورة الفنانات والشيخ وغنائهن ومن وسطه تصدح الـمُهرة وقد بلّلها رذاذ صوتي المتطاير فتقول:رْجَانَا في العالي. ما يدوم حال آمحبوبي. آالساقي.. كُبْ الكاس .. ما يكون باسْ .. حاجتي في ڴريني.
كانت مني قريبة وهي تُخاطبُ روحي. حَنَتْ عليّ، فأسكرتني أنفاسها وتخيّلتُني مثل ناسك أسقط وَرَعه في النار ليستدفئ به.
استعدتُ صوتي وأنفاسي ثم واصلتُ كلامي مع رفاقي:
أقول : لقد انتهكوا الحرماتْ ونشروا الظلماتْ وقطعوا الأقواتْ وجعلوا الأحياء أمواتْ …. أيها الرفاق نحن وإن طال الزمان لا بد أن ننتصر. كل القيود الظالمة لا بد أن تنكسر.. إنا حلفنا القسم في الأول والأخير ألا نخون هذا هذه الجماهير.
وكانت الـمُهرة النافرة، مثل الجماهير المنطلقة، قد نظرت نحوي وابتسمت، كأنما فهمت قصدي المقصود، وعادت تصيح بأعلى صوتها :آهيا وين آولد بويا ،رْجَانَا في العالي. ما يدوم حال. من زّينو حايك لابسو محبوبي. أمحبوبي طويل الغايبة . واش البكاء يِبَرّدْ نارو. على من عاري . على كْلِيمة خْويت بْلادي.
وبدوري عدتُ أقول بترادف الحافر على الحافر : لا تيأسوا سنحمل الصخرة من جديد ونطلع الجبال لنتطهر. لا يهم أن ننتظر مرة أخرى قرنا أو دهرا ثم نعود.. فنحن وإنْ طال الزمان سننتصر.
وعادت تترنم عاليا وصاحبي سمير يدُكُّ الأرض لتستوي، هذه أرض الخطيئة التي نحب التطهر فيها:هل يستطيع البكاء أن يُبَرِّد ناري وهي تحرق فؤادي. تعال أيها الحبيب ..دثرني حتى أذوب فيك ونصبح واحدا أو لا أحدا.
وزدتُ متحدثا بحماسة لا معهودة بأن الفجر في قلوبنا وبين جفوننا، فلنسرع للوصول إليه.
وفي لحظة، الله وحده يعلم أنها مُقتطعة من تلك الساعة التي ستقوم إثرها القيامة،استبدلنا الأدوار في حركة غائبة عن التفسير، لا أعرف أمِنْ تعبٍ أم هي الحياة هكذا لا فرق في الطريقة التي ننظر منها إليها. هكذا، بدون اتفاق،جلس سمير في الزاوية التي كنا نجتمع فيها، بعدما التقط حايْكه وهو يتصبب عرقا ودهشةً؛ فتحلقتِ الفنانات حوله قُعودا وخُشوعا وصار مباشرةً يحدثهن بكلام أشبه بكلامي الذي كنتُ أحدِّثُ به رفاقي.ها قد استبدلنا الأدوار والأمكنة فقمنا، وقوفا،نرقص ونغني ومعنا المُهرة البيضاء بعينين لهما لون عسل جبل البركان التي استمرت ترقص في سُكرة الحياة، لامبالية بالأدوار المتقلبة.. فهي الوحيدة في هذه الصورة المرئية والظاهرة التي لم تستبدل دورها؛ دنوتُ منها مثلما دَنَت مني، فهَمَمَتُ أرمي يدي اليسرى على كتفها بعدما فقدتُ توازني لولا أن رأيتُني أسمع دويّ سقوطي قبل أن أسقط ( وتلك واحدة من كراماتي الثلاث). في تلك الهنيهة التقطتْ أذني وأنا أضحك من سمير وقد تحول إلى أول الثوار يقول:
قال لهنّ: لقد عمّ الفساد في البر والبحر وفي العباد ولا مُنقذ لنا اليوم، في هذه الدنيا الفانية، مما نحن فيه إلا معجزة. وها زمن المعجزات قد ولى وفات.. ماذا بعد .. وما العمل؟
ثم رأيته يلتفتُ للمهرة البيضاء مُشبها إياها في تأويل سريع وسهل ومباشر وفاضح وقاس وبليغ وعسير وشيق ومفتوح مثل صدورنا ونوايانا وأحلامنا وأكفاننا البيضاء التي ندفنها ليلا ونلبسها نهارا. قال مشبها بدون أداة أو وسيلة بأن المهرة هي الجماهير التي سقطت في شَرَك أهل الإثم والفجور، ورفضت أن تكون من التائبين.
كان جسدي الفاقد لتوازنه قد تدلى وأنا ذُهلٌ مما سمعتُ، فرميتُ يدي متشبثا بهذه الجماهير ذات العيون المقتطعة من آخر شفق للإنسانية، فعانقتها بحرارة ولامست يسرايَ جسدها فتقطع بعضٌ من ثوبها الخفيف والشفاف من جهة الكتف، آنذاك برز نهدها الأيمن، الشديد البياض، وقد رسمت عليه صورة لي بلون حنين استعار وهجه من لون حايك بطليموس. عدتُ أرى المشهد فأخفيتُ وجهي الأسمر على البياض البض بكفي وقد مسّني ما مسّ الحياة قبل هبوط آدم ،فاستنهضتُ نفسي من نفسها وشرعتُ في الرقص مع الجماهير، وكانت تتلوى بين روحي وأنفاسي مثل نشيد ثوري كاسح للمشاعر،ونحن في تشابكِ التّقيّ بتقواه، فلم أعُد أبصر أو أسمع أحدا، فقط نفسي ونفسها، رقصي ورقصها لوني ولونها… وبعد زمن نظرتْ إليَّ، مندهشة من شلال العرق الهابط مني ومن رؤيتها كيف خلعتُ الدنيا الفانية من نفسي ورميتها ورائي… فقلت لها وأنا أسحبها إليّ… دعيني أغتسل على أرض الخطيئة..هذا ليلنا طويل وأبدي.
في زاويتهم استمروا يناقشون الزمن وهم لا يعرفون جوابا عن سؤال كل جيل : هل يُقاس زمننا بالأيام والسنوات أم بالدم والحسرات؟ تركتهم وقد تبددت أصواتهم فلم أعد أسمع إلا رقصي ورقصها على أرض امتلأت بالخوف والهزائم.آن لي أن أستريح الآن وتستريح هزائمي من صمت الانتصارات القاتل، فهذا زمني قد فقد ألسنته وبصيرته وأقنعته. آن لي أن أدفن كل شيء وألتفتُ إلى الجماهير الحرون وقد هزّت الأرض من تحتها بضربات الحنين البشري إلى التراب. آن لي الاستمتاع بصوتها القاهر وهو يتلو عليّ من الفجر إلى العصر نشيدنا الدامي : لنا لقاءٌ غدا/ سنأتي ولن نخلف الموعدا.
تململتُ قليلا. رفعتُ يدي فأبصرت نهر أم الربيع منسابا، كعادته، على كفي اليمنى، فيما نهر أبي رقراق يجري على كفي اليسري.. فقلت للجماهير التي ارتمت إلى جواري تسبح تطهُّرا:ميرا يا ابنة النهرين، أبْشِري :”فوالله ما شرقت شمس ولا غربت / إلا وذكرك مقرون بأنفاسي / ولا شربت لذيذ الماء من ظمأ / إلا رأيت خيالا منك في الكأس / ولا جلست إلى قوم أحدثهم / إلا وكنت حديثي بين جلاّسي “..فلا تتطهري إلا بالألم فأنا شاويّ فقدتُ قَدَري وملكتُ روحي. وتذكري قبل أن نقوم قومتنا الموالية أننا وإن طال الزمن لا بد يوما سننتصر.
أيها الرفاق.. متى تقوم الساعة؟ شُعيب حَليفي 2016-05-11