د.بليغ حمدي إسماعيل
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا
سبر أغوار عقول الفائقين في المجرة
ـ دماغ آينشتاين:
ذاعت شهرة ألبرت آينشتاين في العالم واعتبره الكثيرون مخلوقا خارقا للطبيعة يمثل أقصى ما يمكن للعقل البشري أن يصل إليه، كونه عالما شاملا في مجالات الفيزياء والرياضيات وعلوم الفلك، ومنذ أن قلب الاستثنائي ألبرت آينشتاين قوانين الفيزياء بنظريته داحضا مجمل أفكار نيوتن استحال أيقونة للعبقرية ومجالا خصبا لعلماء الدماغ والأعصاب لاكتشاف وسبر أغوار هذا العقل المتدفق، وفي نفس سنة الثورة المصرية في يوليو 1952 عرض عليه الكيان الصهيوني رئاسة إسرائيل خلفا للرئيس حاييم وايزهان، لكنه رفض بشدة معلنا للصهاينة وللعالم أيضا أنه رجل علم، لا رجل دولة .
وبرغم أن ألبرت آينشتاين أوصى صديقه المقرب ” أوتوناثان ” بحرق جثته وإلقاء رمادها في نهر ” ديلاور ” بالولايات المتحدة الأميريكية، إلا أن العلماء تحديدا الطبيب ” توماس هارفي” قرر سرا الاحتفاظ بدماغه من غير معرفة عائلة آينشتاين طمعا في الوصول إلى سر عبقرية هذا العالم المحير الذي أجاب عن سر اكتشافاته الفيزيائية والرياضية بعبارة تبدو بليغة قائلا: ” إن الأفكار تأتي من عند الله “.
والقضية التي تعنيننا ليست أسرار التلافيف الزاوية بدماغ آينشتاين وليست أيضا كون المناطق القذالية الأدنى من نصفي كرة الدماغ التي كانت أعرض بـ 15 في المئة من المعتاد، لاسيما وأن آينشتاين ـ نفسه ـ أعلن نصا: ” ليست لدي مواهب خاصة، أنا فقط أحب الاستطلاع بشغف “. وهذا بالضرورة يتفق مع ما صرح به تشارلز داروين من قبل قائلا: ” ” لقد قلت دوما إنه عدا الأغبياء، فإن الناس لا يختلفون كثيرا في الذكاء، إنهم فقط يختلفون في الحماس والعمل الجاد “.
وكان موت ألبرت آينشتاين وقرار الاحتفاظ بدماغه فتحا جديدا لاستمرار الهوس العلمي صوب استشراف المستقبل ، واعتبار البحث عن أسرار العبقرية دافعا قويا وإيجابيا في معظم الوقت لدى علماء الكرة الأرضية، وهذا بالضبط ما سعى إليه الدكتور جاك جالانت أستاذ الفيزياء بجامعة كاليفورنيا ـ بيركلي، حيث يعمل هو وفريق رائع ومتميز من العلماء المساعدين لمحاولة الوصول إلى قراءة أفكار الآخرين، وفي ضوء ذلك صمم جالانت مختبرا كبيرًا لتصوير أفكار الناس، حتى أمكنه ذلك بأن يصرح قائلا : ” نحن نفتح نافذة على الأفلام في دماغنا ” .
ـ الشيفرة الدماغية السرية:
المهم إن الدكتور البارع جاك جالانت صمم برنامجًا استثنائيا يشبه قصص الخيال العلمي التي نتناولها في بلداننا العربية كأقراص مخدرة من أجل الهروب من مكشلات الحياة اليومية، هذا البرنامج باستطاعته فك شفرة ما ينظر إليه المرء، ويستطيع أيضًا فك الصور الخيالية التي تدور برأس هذا المرء، وبهذه التقنية السحرية يكون من الممكن الحصول على محادثة تحدث بالتخاطر، ليس هذا فحسب، بل إن البرنامج العلمي الخصب يمكِّن المصابين بالسكتة الدماغية المعاقين من الحركة تماما من الحديث والتكلم من خلال ( مخلّق ) صوتي يدرك أنماط الدماغ للكلمات المختلفة .
هذا الهوس العلمي الذي دفع العالم جيري شيه أن يستخدم تقنية ECOG مع مرضى الصرع وليس العاديين ليتعلموا الطباعة بواسطة الدماغ، وهذا ما يخبرنا به الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء الدكتور كاكو بأنه يتم إطلاع المريض على سلسلة من الحروف الهجائية، ثم يكلف هذا المريض بالتركيز ذهنيا على كل حرف، وفي الوقت نفسه يجل جهاز الحاسوب الإشارات التي تصدر من الدماغ وهو يمسح كل حرف، وتصبح طباعة أي حرف ما على الشاشة بمجرد التفكير فيه.
وآخر ما يفكر فيه العلماء هذه الأيام الآنية هو صناعة خوذ لقراءة الأفكار وقت الحروب والمعارك، فباختصار شديد التكثيف يكون الضابط أو الجندي وقت المعركة مشغولا بمهمته العسكرية، وهو أكثر انتباها لأصوات البنادق والمدافع وتنقل عيناه صور القتلى والصرعى، ورغم ذلك لا يستطيع أن يتواصل مع بقية زملائه من الجنود مما تصعب مهمته، لذا فكر العلماء مؤخرا بتزويد خوذته العسكرية بجهاز صغير لقراءة أفكار زملائه للتخاطر عن بعد وسط هذا الضجيج والصخب.
وبالفعل قدم الجيش الأميركي منحة تقدر بقيمة 6,3 مليون دولار إلى العالم جيروين شولك الذي يعمل بكلية ألباني الطبية من أجل تصميم خوذة تعمل بتقنية ECOG تسمح بوضع شبكة من الأقطاب فوق المخ المفتوح مباشرة، وبهذه التقنية تتمكن الحاسبات المخزنة من إدراك أحرف صوتية و 36 كلمة منفردة داخل العقل المفكر تمكن الجندي من التخاطر عن بعد مع زملائه من الجنود وقت اشتعال المعركة.
ـ العقول الفائقة:
ومن أحدث الكتب التي تناولت أسرار العبقرية وكيفية عمل الدماغ من الزاوية الفيزيائية بعيدا عن طروحات علم النفس التقليدية كتاب (مستقبل العقل.. الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته) للعالم الفيزيائي ميشيو كاكو الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، ويعمل حاليا أستاذا للفيزياء النظرية بجامعة سيتي في نيويورك، ومؤلف العديد من الكتب العلمية ذائعة الشهرة والانتشار مثل كتب (الفضاء المفرط)، و(ما بعد آينشتاين)، و (فيزياء المستحيل)، و (فيزياء المستقبل). ويشير كاكو إلى أن العقل والكون هما أعظم سرين من أسرار الطبيعة كلها، ومع التقدم الواسع والمتسارع في تقنيات العلم تمكن العلماء من تصوير مجرات تبعد عنا مليارات السنوات الضوئية، والتصرف بالجينات التي تتحكم في الحياة، وتفحُّص المسار الداخلي للذرة، لكن يفجؤنا كاكو بحقيقة أن العقل والكون مازالا يفلتان منا، ومازالا يثيران دهشتنا، مؤكدا أنهما ـ العقل والكونـ الجبهتان الأكثر غموضًا وإثارة في العلم.
والأكثر إثارة ودهشة هو ما حير العلماء من صعوبة إيجاد تفسير لأصحاب العقول الفائقة التي تنفذ عمليات عقليا استثنائية لاتزال ترهق عقول هؤلاء العلماء لدرجة أنهم قرروا ـ ربما حيرة ـ بأن أصحاب هذه العقول يعانون من التوحد وخصوصا ” متلازمة أسبيرغر “كحالة نفسية مميزة للتوحد، ومنهم من أوصى بأن هؤلاء يعانون من “متلازمة العارف المكتسبة” ومنهم من استقر به الأمر للإعلان بأن ذوي هذه العقول الاستثنائية من أصحاب المرض العقلي والاضطراب الذهني.
لكن المهم في هذا الصدد هو حجم التحديات الذهنية التي تعرض لها أصحاب العقول النافذة الفائقة، فالدكتور بينجامين راش درس شخصا باعتبار أنه معاق عقليا، لكنه اندهش تماما حينما طلب من مريضه حساب عدد الثواني التي يعيشها إنسان يبلغ من العمر سبعين عاما وسبعة عشر يوما واثنتي عشرة ساعة، فكانت إجابته التي استغرقت فقط تسعين ثانية 2210500800 ثانية.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك طبيبا آخر هو الدكتور ” دونالد تريفيرت ” حاول دراسة عمل عقل هؤلاء العارفين الفائقين بشكل أكثر دقة، فجاء بعارف فائق كفيف سئل سؤالا بسيطا في أول الأمر: ” لو وضعت حبة قمح واحدة في المربع الأول لقطعة شطرنج، وحبتان في القطعة الثانية وأربعة في التالية ثم تابعت مضاعفة عدد الحبات بعد ذلك، فكم حبة قمح ستكون لديك على أربعة وستين مربعا؟. واستغرق أمر معالجة العمليات الذهنية للإجابة عن هذا الؤال خمسا وأربعين ثانية فكانت 18446744073709551616.
ولم ينته الهوس العلمي لدى العلماء الفيزيائيين عند هذا الحد فحسب، بل إن ” كيم بيك ” فاجأ العالم بأنه يحفظ غيبا اثني عشر أل كتاب، ويستطيع تسميع سطر سطر منه بل كلمة كلمة وفقا لأي صفحة بهذه الكتب، واستطاع حفظ كتاب بنصه في غضون نصف ساعة، هل هذا مدهشا فقط؟ لا فالدهشة الحقيقية أنه يقرأ صفحتين في وقت واحدة مستخدما كل عين في قراءة صفحة مختلفة في نفس الوقت.
ـ استشراف الأنظمة التعليمية العربية:
هذا يدفعنا مرة أخرى إلى ألبرت آينشتاين الذي استحال أيقونة للعبقرية والذكاء الخارق من أجل إلقاء سؤال يمثل حجرا في المياه الراكدة: هل يمكن تعليم العبقرية ؟ الإجابة تعول على الأنظمة التعليمية التي ينبغي عليها أن تطبق بفاعلية مقاييس جديدة للذكاء غير الاعتيادية الرتيبة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ضرورة اهتمام القائمين على الأنظمة التعليمية العربية بتنمية مهارات التفكير مثل الناقد والإبداعي والابتكاري، وتكريس ثقافة ما وراء المعرفة من أجل اللحاق بهذا الهوس العلمي المحمود صوب سبر أغوار المستقبل.