أيام زمان وسيميائيات المدرسين | سعيد بوخليط
سعيد بوخليط
المعرفة مبنى ومعنى، جوهر وشكل، نفس وجسد، عقل وسلوك، اعتقاد وممارسة، قلب وقالب، شكل وتشكل، نظرية وتطبيق. علاقات حدية، اختزلها ربما القول الدارج المغربي، طيلة عقود خلت، وآمن حقا بمضمونها، نظرا لتجليات آثارها على أرض الواقع: ”باينة عليه قرايتو”، هذا من الناحية الاعتبارية، يعني مستويات ودرجات التأنق والكياسة اللتين يكشف عنهما صاحب المعرفة، مقارنة بالمنقطع عن المعرفة. ثم ”بانت عليه قرايتو”، أي الجانب المادي، ومدى انعكاسات التدرج الاجتماعي، الذي منحته المدرسة العمومية المغربية، لأبناء الشعب المجتهدين، والفقراء الفطنين.
هكذا، بقي ورش الذكاء لزمان ليس بالقصير، نبراسا للتنافس الشريف وملكة ناجعة لتحقيقه التحولات النوعية المتصلة بحياة الشخص وكذا محيطه القريب والعام.
حاليا، ونتيجة لسيرورات سلبية عدة، حدثت ارتدادات بخصوص الممكنات الفعالة لمفعولات علاقات من هذا النوع، حافظت سوسيولوجيا على متوالياتها الطبيعية: لم تعد المعرفة قيمة، ولا المدرسة مسلكا نافذا، ولا الذكاء قوة تأسيسية. مقابل ذلك، صارت الحجة المهيمنة والمفهومة، المتواطأ عليها في مجتمعنا كي لا أقول المتوافق عليها، تلك الفهلوة الشاطرة وفق جدليتي الأولى فالأولى، التي تحكم سوق المراهنات. سياق، أفقد المدلولات مضامينها الأصيلة، وأفرغ جوفها من سُمكها الرمزي.
ضمن هذا الإطار، أستحضر بعضا من المحددات السيميائية لمدرسي مدرسة/مركز الصراع المجتمعي، المنتجة للقيم البناءة والمدافعة حتى آخر نَفَس، قصد تكريسها. طبعا، ليس بالضرورة تحديدا لصور نمطية، جاهزة كليا، غير أنها تؤكد على نحو ما، جانبا من التماثل الجلي، بين الحمولة الذهنية وصاحبها، ثم درجات الإشعاع الجارية عبره ومن خلاله.
أنا من جيل، تربى على طقوس جماعية لمتابعة فصول الدراما المصرية، صحبة العائلة والجيران ونفر أو نفرين من الجانب الأخر للحي. كانت أياما جميلة، بطعم مميز، رغم كل شيء. أذكر، دأب المنتوج الفني المصري، على تأطير مدرس اللغة العربية، ضمن الوصفة التالية: شخص بجسم ذي أرطال مترهلة نسبيا، وبطن على قدر من الاحدوداب، يحافظ دائما على ارتداء الزي الرسمي وطربوش فوق الرأس، منساب الكلام، دقيق الملاحظة حتى مع أصغرها، بليغ اللسان وسليطه أيضا إذا استفز، قوي الذاكرة، يجبر محاوره مهما علا شأنه أو دنا، كي يتحدث معه عربية فصحى خالية من اللحن، لا يتوقف عن الاستشهاد أينما حل وارتحل، حسب حيثيات المواقف بكلاسيكيات الشعر العربي، لاسيما الجاهلي والعباسي بالأخص البحتري والمتنبي، وحولياتهم و أخبارهم. صحيح، هي صورة، وظفت غالبا كاريكاتوريا لخلق نوع من المرح، بيد أنها ظلت ملهمة جدا. لاسيما، وأن تقاليد الإخوة المصريين العريقة مع تراث آداب العربية، لا ينكره سوى غافل.
أيضا، بالتحول وجهة مدارسنا وقتها، لم نكن نتخيل البتة قدوم مدرس لغة عربية مرتديا سروال جينز أو حذاء رياضي أو جزمة كوباوي، مثلما كان الأمر مستساغا لدى باقي زملائه، لاسيما مدرسي الفرنسية والانجليزية. في المقابل كذلك، يستحيل تصور الأخيرين مرتديين بطريقة تقليدية أو يكشفان عن حس ديني أو وعظي. باختصار، بقيت موضة مدرس العربية، تقريبا شبيهة بحضور عبد الحليم حافظ، مرتديا سترة وسروال حسب تصميم ما سمته الموضة آنذاك ب: Pattes d’éléphan، الذي يزداد اتساعا من الخصر إلى رؤوس الأصابع. من يجرؤ حاليا على ارتداء هذا، دون تعرضه للهمس والغمز؟ أما تسريحة الشعر، فكانت أيضا على أثر العندليب الأسمر، لكن بزيادة لحية جغرافيتها يسارية من الوهلة الأولى، أو توزعت أساسا بين بورتريه المرحومين العربي باطما وبوجميع، تبعا لنوعية الشعر، أملس هو أم جاف؟ ثم مع موجة الريغي بقيادة بوب مارلي وحركة الهبيين، صار التنافس على الشعر المجعد الكثيف، مع الالتجاء في حالة العجز إلى خلطة الرش بالماء المحلى بالسكر.
طبعا، لم يختلف المستوى العلمي والتربوي، لهذا الأستاذ عن الذي كنت أكتشفه في التلفاز، بحيث لم نكن ننصهر في خضم الحصة قبل تمرين على الإعراب والشكل، لنص أجده وباقي التلاميذ، مكتوبا سلفا على السبورة من ألفها حتى يائها، مما يدل على أن المدرس حضر إلى الفصل، قبل الجميع بمساحة زمنية محترمة. أو استظهار لقصائد شعرية أو سور من القرآن أو موشحات أندلسية لفيروز وصباح فخري.
عرف عن مدرس اللغة العربية، شغفه الموسوعي، ثم قدرته التلقينية داخل المؤسسة، لأغلب المعارف المنتمية إلى حقل العلوم الإنسانية. وقد لعب دورا مشهودا، بخصوص التأطير الإيديولوجي والمذهبي لشباب تلك الحقبة، وتفتيق منظوراتهم نحو معالم أوسع للثقافة.
أذكر أيضا، نعت مدرس الفلسفة بالبوهيمية والكَلَبية، والاجتماعيات بالتحريض الثوري، والرياضيات بالجنون عاجلا أم آجلا-كانت جيوب سراويلهم وقمصانهم محشوة ذهابا وإيابا فقط بحفن من ورق تلفيف مادة الزبدة، كما اشتهرت عندنا وقتها لأنها مخصصة عند بقال الحي لبيع الزبدة والسمن، لا يتأبطون محافظ ولا كراريس. كذلك، يكتفي مدرس الرياضيات لفترة طويلة جدا بسروال جينز شبه متآكل لا يغيره إلا لماما – والفرنسية والانجليزية بتبرجزهما المخملي. ففي الوقت الذي لم أعلم سوى وجبات من جنس صحن بيصارة عند باعمر في سوق الطالعة وخبز الشعير، سأسمع لأول مرة عن مخلوق اسمه ”كرواسون فوري أو شوكولا” عند مدرس اللغة الفرنسية. أما أساتذة التربية البدنية، فاتسم جلهم بأجسام رياضية، بارزة للعيان، وممارسون متخصصون في نوع ما. أستعيد وأنا بصدد الحديث، أطياف بنيس وعبد الرحيم، اللاعبين الماهرين ضمن فريق الكوكب المراكشي، والكزومي العملاق العاشق أكثر لكرة السلة، والشرعي المولع حد التعبد بحركات الرشاقة البدنية والجري، مما جعل اختباراته شاقة….
بالتأكيد، لم تكن النعوت صحيحة واقعيا، بل جراء تأويل وإدراك انسجم فقط مع فتوة أعمارنا، وبساطة حيلتنا المعرفية والحياتية. الصواب، أن كل مدرس تماهى جدا مع خلفياته المعرفية والتربوية. ارتباطا، بوضع مجتمعي لازال فيه بعد هامش الذكاء مقاوما مخطط الضحالة، ولم يبلغ التنميط الشمولي مبلغه الحالي. كانت المدرسة ورشا كبيرا، لإذكاء ذكاء الفرد ومن خلاله المجتمع، وشحذ هممه كي يحافظ يوميا على قدرته للنضال ضد مختلف دواعي التفكير الأحادي.
مع مرور الأيام، وصولا غاية الراهن، تحول مجرى المدرسة كثيرا، لم تعد فضاء للحلم ولا مجالا لتخصيب الأفكار، بل مجرد إعادة إنتاج لبؤسنا المجتمعي. عندما تلج أبوابها، لا تتحسس أي قطيعة تذكر إلا فيما ندر، بين ما يجري خارج أسوارها ثم ما يعتمل داخلها، ولن تسمع بين زواياها، سوى نقاشات تافهة عن ذات الموضوعات المبتذلة: البارصا، الريال، ميسي، رونالدو، صفقات اللاعبين، وشايات مواقع التواصل، الفيديوهات المتداولة ثم “قشب علي نقشب عليك”…
في أفضل حالاتها، لن تتجاوز الأحاديث، لائحة الحصص الزمنية، علامات الفروض، شغب التلاميذ، دفتر النصوص، جاء المفتش، متى يأت لن يأت؟ الانتقال، البقاء، الالتحاق بالزوجة، عدم الالتحاق، الأولاد، الزواج، الطلاق…
أيام زمان وسيميائيات المدرسين سعيد بوخليط سيميائية 2017-07-29