ينقلنا شيخ النقد المغربي د. نجيب العوفي، عميقا.. عميقا.. إلى عوالم نستكشفها وإياه، داخل تلك المصحة التي يوضب أنيس الرافعي، “قرصان القصة المغربية”، دماها بعناية طبيب ماهر، أو فيزيائي النانوقصة، في هذا النص يعالج د. نجيب العوفي “مصحى الدمى” المرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة العربية.
د. نجيب العوفي
كلّما قرأت جديدا لأنيس الرافعي، تأكّد لي بالقرينة أنه يمثّل مصحّة للقصة القصيرة.
مصحّة إبداعية – إكلينيكية توضع فيها القصة على المشرحة، وتنشب فيها المشارط والمباضع، وتفكّك أوصالها قددا، ثم يعاد خلقها في هيئة جديدة، عجيبة وفريدة.
كأنّي بأنيس فعلا، ينشئ مصحّة قصصية – تجريبية، تحقن القصة بدم جديد، وتحرّرها من طقوسها المألوفة وحدودها الأمنية المرسومة، لتنخرط في طقوس عجائبية، هي أشبه ما تكون وأقرب ما تكون إلى عجائب الوقت.
إنّ ظواهر وأسرار الفانطاستيك التي تحدّث عنها تودوروف، تجد في هذه المصحّة القصصية، مرتعها الخصب. ودور أنيس في هذه المصحّة هو العلاج بالصّدمة، حسب الاصطلاح السيكولوجي المعروف.
وأنيس الرافعي لذلك، يبدو لي كضرورة قصصية للقصة، ضدّا على الجمود على ما هو موجود. يبدو لي كطفل قصصي – مشاغب ومشاكس، يخلط أوراق اللّعب القصصي، ويمارس لعبته القصصية الخاصة، بكل عفوية وبراءة. وليس كالطفل، فاضحا للعالم وشاهدا عليه.
تتداعى إلى ذهني هذه السّوانح، بوحي ودافع من عمله الإبداعي الجديد (مصحّة الدمى)، وباستحضار واستدعاء أيضا، لأعماله السابقة : (فضائح فوق كل الشبهات-
أشياء تمرّ دون أن تحدث فعلا – البرشمان- السيد ريباخا- ثقل الفراشة فوق سطح الجرس- اعتقال الغابة في زجاجة- أريج البستان في تصاريف العميان – الشركة المغربية لنقل الأموات – متحف العاهات…). ولعلّ هذه العناوين، كافية في حدّ ذاتها للإيماء إلى عالمه القصصي.
عالم يقوم على الفانطاستيك (العجائبية) والمفارقة والسوريالية والسخرية، والغوص في دهاليز الشعور واللّاشعور، وتجلية رعب الحياة وعبثيتها.
وتحضرني هنا تلك القولة الشهيرة لمنظّر القصة القصيرة المعروف، فرانك أكونور : (إنّ في كلّ قصة قصيرة شيئا من رعب الحياة وغموضها، على هذه الصورة أو تلك).
والرّعب هو النازل بوقره على عالم أنيس الرافعي القصصي والساري بين سطوره وخلف سطوره. كما تبدو السوريالية والكافكاوية عطفا على ذلك، سمتين مهيمنتين على نصوصه وآخذتين بخناق شخوصه.
تذكّرني دائما محكيات واستيهامات أنيس الرافعي، بالعوالم الحكائية لإدجار ألان بو. وأيضا، بعوالم هيتشكوك السينمائية، وأفلام الرعب الأمريكية الراقية. إنه كاتب الخلفيات المعتمة، والمناطق الملغومة.
وأفتح هنا قوسا، لشهادتين / إضاءتين دالّتين من خارج الحمى المغربي. وشهادة الأباعد أصحّ من شهادة الأقارب. الأولى للكاتب البحريني أمين صالح، يقول فيها : (والرافعي، لا يقدّم لنا رؤيته لعالمه الخاص بلغة مكشوفة، مباشرة، منظّمة، مصقولة..بل بلغة متوترة، مرتبكة، متعثرة، متشظّية، تتّسم بالتكرار، لكنها بالتأكيد مدروسة بعناية من أجل خلخلة الطرائق التي بها نتلقّى وندرك ونفهم الأشياء ). وهي شهادة مضّمنة في مجموعة (اعتقال الغابة في زجاجة). والشهادة الثانية للكاتب المصري محمد الفخراني، وهي في ظهر مجموعة (مصحّة الدمى)، يقول فيها :
(وأنيس الرافعي، القاص المغربي المجدّد، الشّغوف بالمغامرة الجسورة والتجريب الخلاق، كاتب/ بحّار حصل على لؤلؤته، ورأى جنية البحر/ الكتابة. عندما تقرﺃه للمرة الأولى تحبّه، للأبد تحبّه).
هاتان الشهادتان / الإضاءاتان، تضعان الإصبع على إحدى الشّفرات السرية لمصحّة أنيس الرافعي القصصية، والخصوصية الممّيزة لكتاباته.
ولا أروم في هذه الورقة، أن أتوسّع في الحديث تحليلا وإفاضة، لعالم أنيس الرافعي، وحسبي أن أتأنّي قليلا عند تيمة قصصية حسّاسة وملغومة من تيماته القصصية التي شدّتني وبهرتني شخصيا، وهي تيمة السّاق.
ولا علاقة هنا بساق الذّاكرة والمخيال، كساق بلقيس، مثلا. وإن تكن أقرب إلى الأجواء القيامية للآية الكريمة : (والتفّت الساق بالساق، إلى ربّك يومئذ المساق). بل هي ساق إبداعية رهيبة. بكلّ شعرية الإرهاب القصصي.
ولا بدّ أن أعود هنا إلى مجموعة (اعتقال الغابة في زجاجة)، وتحديدا، إلى قصّة (السّاق)، التي أعتبرها من أجمل النصوص القصصية المغربية – والعربية المنتجة حديثا، والتي ترقى في رأيي وبلا غلو في القول، إلى مستوى القصص – الإنسانية – العالمية.
ولا سبيل هنا إلى تلخيص هذه القصة المكّثفة، ذات اللمسات الشعرية والوصفية والرمزية العميقة، لكن حسبنا أن نقرأ منها الفقرتين التاليتين، لنستجلي هاجسها وعقدتها وصنعتها أيضا.
الفقرة الأولى :
(في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد (هو) و(هي).
في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد (هو) و(هي) حين طلب منها (هو) عربون حب لا يقبل الجدل.
في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد (هو) و(هي) حين طلب منها (هو )عربون حب لا يقبل الجدل فأهدته (هي) بلا تردد ساقها اليمنى.
في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد (هو) و(هي) حين طلب منها (هو) عربون حب لا يقبل الجدل فأهدته (هي) بلا تردد ساقها اليمنى الاصطناعية كي يحتفظ بها (هو) لأسبوع كامل.
(هي) تمضي من الحديقة بعكازين.
و(هو) يمضي إلى المنزل بالسّاق ).
الفقرة الثانية :
(في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد (هي) و(هو).
في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد (هي) و(هو) حين لن ينتظر منها (هو) أن تطلب منه (هي) عربون حب لا يقبل الجدل.
في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد (هي) و(هو) حين لن ينتظر منها (هو) أن تطلب منه (هي) عربون حب لا يقبل الجدل فأهداها (هو) بلا تردد ساقه اليمنى.
في الحديقة سيكون لقاؤهما المعتاد (هي) و(هو) حين لن ينتظر منها (هو) أن تطلب منه (هي) عربون حب لا يقبل الجدل فأهداها (هو) بلا تردد ساقه اليمنى الحيّة التي جزّها بمنشار ووضعها (هو) في الثلاجة طيلة أسبوع كامل كي تحتفظ بها (هي) إلى الأبد.
( هو) يمضي من الحديقة بعكازين.
و(هي) لا تعرف إلى أين ستمضي بهذه السّاق الزائدة!).
لكنّ الساقين معا، الاصطناعية والحية، تمضيان بنا نحو عوالم حكائية وإنسانية عميقة وثرية، مترعة بالفواجع الكتيمة، واللمسات الإبداعية.
هذه الساق المعطوبة – المبتورة، هي التي تعاود الظهور، على هذا النحو أو ذاك، في العمل الأخير لأنيس الرافعي (مصحّة الدمى )، حيث تنزرع الدمى والجذاذات العتيقة والأسرار، على امتداد نصوصها، كما تنزرع الألغام والكمائن.
هذه الدمى المتناسلة – المتناسخة، هي كوابيس وهواجس السارد، وهي كائنات ومخلوقات مصحّته العجيبة. وليست هذه الدمى المعطوبة – المبتورة في آخر التحليل، سوى نحن. أو امتداد للنحن.
نقرأ في نص (جناح الأورام) :
( الرجل إيّاه، كان يدسّ بالمقلوب ساقا في الجيب الجانبي لمعطفه الشتويّ، الذي تعوّدت أنا أيضا على ارتدائه.
تيقّنوا بأنني لا أهذي أو ﺃختلق ما ﺃحكيه لكم، كما أنه من سابع المستحيلات أن تنطليّ عليّ خدعة الرؤية إلى هذه الدرجة المحرجة من التضليل، حتّى وإن كنت في حقيقة الأمر عاجزا عن تأكيد مزاعمي من حيث أتواجد.
ثقوا بي، لقد كانت ساقا فعلا، عارية، متوسطة الحجم، وبالتأكيد غير آدمية ولا حيّة، بسبب أن جذرها كان موصولا بنابض، حيث لا مناص لي غير أن أرجح بكونها ساق دمية.)
ونقرأ في نص (جناح الفصام) :
( فجسد الدّمية يابس ناشف كنبات شوكي، وإحدى ساقيها محطّمة. وجهها بشع له هيئة جرذ، يعلوه شحوب الموت، وتتوسّطه عينان ضيقتان قميئتان. ملابسها في غاية الرثاثة والإهتراء، وأنوثتها حسيرة توّلاها الذبول بمشيئته.)
هي دمى مسكونة بالأورام، مغمورة بالأشباح.
وفي حضرة (مصحّة الدمى )، يواجهنا بدءا سؤال عن الهوّية الأدبية والنوعية لهذا العمل : هل هو سرد قصصي أم روائي ؟! هل هو قصة قصيرة أم رواية ؟!
في الصفحة 17، من النص الاستهلالي (النسيجة )، يقول السارد : (لذا، خذ حكيا. كثيرا من الحكي ).
وفي (مصحّة الدمى )، يأخذ السارد فعلا بأهداب الحكي. يأخذ كثيرا من الحكي. ومن ثم يصعب تصنيف وتجنيس هذا الحكي. فليس هو قصصا قصيرة، ولا رواية مركّبة..إنه نص طويل وحلزوني. أو هو نصوص متداخلة – متخارجة.
وحسب عبارة الكاتب الدّالة على واجهة الغلاف، هو (فوتوغرام – حكائي )، يجمع في توليفة واحدة وتحت سقف مصحّة عجيبة، بين الصورة الفوتوغرافية والكتابة الأدبية.
يجمع بين الدمى والبشر.
بين الواقع والحلم، والشعور واللّاشعور.
ذلك باختصار، هو عالم أنيس الرافعي الحكائي. عالم عجائبي – غرائبي، لكنه مفعم بالشاعرية والمتعة والدهشة.
لكن، أليس الواقع أحيانا، أغرب وأعجب من الخيال ؟! وبخاصة هذا الواقع العربي الغارق في الوحشية والعبثية والجاهلية ؟!.
أليست الذات الإنسانية، مستودع غرائب وأعاجيب ؟!
ذلك ما يهمس به حكي أنيس الرافعي ويسبر غوره، بلغة شاحذة نافذة، وبحداثة سردية مثقّفة وراقية، على بيّنة من قواعد لعبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
- أنيس الرافعي، اعتقال الغابة في زجاجة، ط 1، 2009، دار أزمنة، عمان / الأردن.
- أنيس الرافعي، مصحّة الدمى، ط 1، 2015، دار العين للنشر، القاهرة/ مصر.