احمد الشيخاوي
برغم ضمور لمستها الجمالية في منعطفات سياقية عدّة، تمكث هذه المادة الشعرية أقرب إلى كتلة كلامية متراصة مُلزِمة بفعل تلقّ ذروة في الحساسية ورهين بضرورة أخذها على أنها جملة واحدة غير قابلة للتجزئة والتفتيت، ويتعيّن معاقرة علقمية أحرفها حتى آخر جرعة في دوامة معانيها المحيلة على أجواء غرائبية حدّ ما يمكن أن تجترحه الكتابة من فضح بنكهة الجلد الذاتي، باعتبار الكتابة ها هنا شهادة حية و نابضة بالمواقف المناهضة لانعكاسات عصر الفوضى والدموية والاضطراب.
إنها مجموعة صادمة جدا، حيكت على تشبّع بخبرة حياتية أشبه بفوهة بركان ثائر مهول الحسيس، وحدث أن تشكّلت ملامحها نهلا من المواجهات اليومية الجحيمية وبالتماس المباشر مع خطوط الجريمة والنار.
لعل بعض قيمتها تكمن في نفض الاشتراطات والقيود والتي ــ ربما ــ تحدّ من هضم المشهد الهوليودي في سوداويته ،وتقزّم من حجم الحصاد المعرفي بالخصوص،كعائد أدبي وقيمي وثوري يتضاعف مع تعدد زوايا مقاربة المنجز.
بحيث لا نقطة بدء أو ختم معينة، الشيء الذي يضفي استمتاعا ومِؤانسة مزدوجة تكلل طقس اختيار القراءة.
من الهوامش إلى المتون، أو النقيض لذلك بالتمام، المهم أن تحترم الدورة الكاملة وفق ما يقود إلى المغزى العام ويتيح استنباط الضمني داخل حدود هذه التجربة التي أعتبرها ريادية بامتياز و نادرة و وليدة عصرها الآيل للانقلاب رأسا على عقب.
شأن كوكبة من الأسماء الشابة والواعدة التي أمكنها التأثيث لشعرية ساخطة على اللحظة، حتى لا أقول حاقدة. وهامات ارتقت ببوحها الناري لتوازي أو تركب موجة مليشيا الثقافة الجديدة.
وحدها هذه الخلفية سانحة بتصيد مرامي شاعرنا المتوارية عميقا مع ألوان مجموعة أفلحت إلى حد ما في صياغة مشاعر الرعب والتهيّب من راهن الموت ،كلعبة أو شطحات وأحيانا كجنون عاكس لمدى مشروعية التشبث بالحياة في أسمى تجلياتها.
” من الخوف طرّزنا أجسادنا بحفر عديدة
واحدة تحت الجفن، بعد قلعهم أعيننا، نحمل الدمع ونخرج
منها لزيارة الأهل والأصدقاء، وحفرة في راحة اليد، نملؤها
بالماء،”
أكزيما. عتبة لا تفهم أو تفسّر في غير سياقاتها،وانتباها إلى الدال المستفاد من قول صاحبنا:الموت أكزيما جباههم / كلما تمادوا في الصلاة / نزل الدم /على اللحى/فئرانا ميتة.
إنه الغلو والشذوذ والانزياح في التعبّد والممارسة الروحية ،لذا فالظاهرة على عرى وثيقة ووشائج قوية بآفة العصر المتمثلة في التطرف الديني وتأويل المقدس على المزاجية والأهواء وعلى نحو غير صحي ،ومنطقي أن تكون المحصلة والنتيجة النهائية لذلك، بضع مما بتنا نتحسسه ونعاينه كتداعيات مستجلبة لهذا الكم من الخراب.
“يقشّر الله حنجرة الرضّع بالسعال
ليضحك على ملكوته
أو يجرّب الضحك.”
هو تفجير المواقف يتمّ مع الاستهلال . إن مسرح الرؤوس المتطايرة يولّد هستيريا على قدر غموض متاهة الحكي ،وعلى نحو أخص، لما تغزو الذاكرة تلكم التوأمة المقيتة لشريط استمراء قطاف الرؤوس حسب كيفية رابضة في لا وعي الموروث، وفصول مشابهة بل مكرورة ينقلها المباشر ووعي الحاضر.
وهي مناسبة لاستحضار مقولة شهيرة للحجاج بن يوسف الثقفي/إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها. هو سيناريو يعيد نفسه وإن في هيأة مختلفة.
” كلما قطعوا رأسا، توسّدت عين السمكة التي على الحائط “
إنها خارطة التيه الذي أعلنه شاعرنا ،عبر عنونة سائر خطوط فهرس المجموعة بثيمة الموت ، مضاعفة وتكعيبية وآخذة في سلبية اللانهائي ،التخبط والعشوائية كناية عن سكرة ودوخة جيل بأكمله ، التيه الذي نجح في استقطابنا إليه ،قصد خوض مغامرات تناقضاته ومفارقاته وأوجاعه،بل وتجريبية الموت الكامن فيه.
“الرسالة التي
وصلتني من إبط حبيبتي
كانت فارغة
من الدوالي الملونة
الدوالي حبل غسيل اللحم الضامر
أو منطاد الشحم.”
…………….
” لأن وصيتها في العناية بأخيه الأصغر مازالت ترنّ على الرغم
من رحيلها،غمس أصبعه بدم الانفجار، ودسّه في
أذنه. “
…………….
” عند احتلالهم قريتنا وسبينا،
اجتمعوا
القنّاص، الانتحاري،الذّبّاح،
تقاسمونا،
نعم تقاسمونا، أنا صرت من نصيب الأخير،
كان يسقط حيا منه فيّ إبرا تالفة،
الآن وبعد تحريرنا ترفسني بطني جنينا بألف رقبة.”
لنتأمل عدسة شاعرنا وهي تسري في التفاصيل ،دونما إغفال ترداد زخم التقاطات معجمية جاذبة إلى نصغ ولبّ وجوهر القضية /هدف الحالة قيد تبيئر ومحورة المجموعة على دوالها،الرقبة أو فاكهة السيوف المسلولة على الدوام لتأدية وظيفة موبوءة ألا وهي الضرب والدّقّ والجزّ كمعطى لفبركة إيديولوجية مميعة أو تطرف عقدي أو فكري أو ما ماثل ذلك .
إنها حالة مشوهة وممسوخة مختزلة خطابيا في أبعاد ثلاثة ، إحداثيات الفتك،التقنية القديمة والحديثة إضافة إلى القنابل البشرية.
بيد أن ما يسترعي الاهتمام حقا،ويستحثّ تفاقم الهذيان و يخلق توترا مضاعفا على مستوى الحمولة النفسية،هو عولمة الجرح بشكل قدحي بغرض الاتجار والمساومة والسمسرة.
” تضامنا معنا ، ولكي يمسكوا بخيوط تدلهم علينا
أخبر الجيرانُ الشرطة
المسكينة جدتي سمعت، جاءت بحدبتها الميثولوجية
خبّأت التلفاز بكيس أسود، وذهبت به إلى صديقتها العرّافة
بعد تبخيره بالحرمل، ورشّه بماء “تربة كربلاء
فتحت القرآن، فتبين أن التلفاز يختطفنا ليلا، ليطعم القنوات بنا
طوال النهار.”
خلاصة القول أن ثمة مناخ أنسب لميلاد موجة استثنائية، ترفض شتى أشكال العنف والقتل والاستذءاب وبخس الإنسانية والكرامة.
من ثمّ كانت هذه الصرخة المزلزلة في انتصافها للإنسان والقصيدة وحسن إصغائها لصهيل الدم كلون من التأريخ لانكسارات جيل وانرسام ملامح مرحلة.
شاعر وناقد مغربي