الرئيسية | فكر ونقد | أسئلة النظم والكتابة والتحديث: قراءة في ديوان “إفطوجن ن و-امان/شرارات الماء” للشاعرة الأمازيغة سعيدة الكبير. | علي أوعبيشة

أسئلة النظم والكتابة والتحديث: قراءة في ديوان “إفطوجن ن و-امان/شرارات الماء” للشاعرة الأمازيغة سعيدة الكبير. | علي أوعبيشة

 علي أوعبيشة

 

تمهيد:

   إن ما يمكن الانطلاق منه في هذه القراءة كنقطة ارتكاز أساسية، هو التسليم بأن الشعر الأمازيغي الكلاسيكي (ولو أنني لا أفضل هذه التسمية، لأن الإبداع لا يخضع لمعايير الموضة) ليس مجرد أدب، بل  إنه بشكل أعم وأشمل فن متعدد المكونات السمعية والجمالية والفرجوية، إنه خطاب مندمج بالتلقي، أو لنقل نظم وفرجة في نفس الآن.  لذلك فإن رهان تثويره مختلف تماما عن باقي التجارب الشعرية العالمية، مما يجعل من دعوات تحديثه سواء بتكسير بنيته أو تجديد رؤيته تسقط في فخ مجموعة من المفارقات والإشكاليات التي تجعلنا نقر ولو بشكل نسبي بأن “القصيدة الأمازيغية الحديثة” تعيش نوعا من القلق والصراع الداخلي مفاده؛ صعوبة التخلص من آثار الماضي الشعري، لكون اللغة الأمازيغية ذاتها تعيد إنتاجها من جهة، ومأزق خروجها (أي القصيدة الأمازيغية الحديثة) من لبوس النمط الشعري القديم من دون أن تفقد قيمتها الجمالية من جهة أخرى.

   لكن بالمقابل،  فإن الأصالة الثقافية لا يمكن أن تكون عائقا أمام الانفتاح على التجربة الشعرية العالمية شكلا ومضمونا.  من هنا جاء اختيارنا لديوان الشاعرة سعيد الكبير وبالرغم من أنه حديث النشر ( صدر صيف 2015 عن دار إذكل للنشر)،  إلا أنه يمثل بحق بؤرة توتر وعلامة على الانفصال والاتصال في نفس الآن.

سميأة العنوان:

     ليس العنوان مجرد حدث لسني عابر أو إعلان اعتباطي بالبدء أو وسم الموضوع، يمكن المرور عليه دون أن نستفيد منه شيئا،  إنه على العكس من ذلك طاقة دلالية كبرى ومدخل أساسي لما يحمله من إشارات ويحيل إليه من دلالات، تخص النص بأكمله وكذا امتداداته التأويلية.

   لهذا يكتسي العنوان أهمية قصوى في مختلف الانتاجات الأدبية والفنية،  بهذا المعنى نفهم العناية التي أولتها الشاعرة لصياغة /اختيار عنوان عميق ودال لديوانها هذا، والذي استقر في عبارة”إفطوجن ن وامان” المؤلفة من لفظين أمازيغيين، هما:

إفطوجن:  وهو جمع مفرده (أفطوج) ،  ويقابله في العربية “شرارات- مفردها شرارة” ويعني تلك الجزيئات الصغيرة التي تنشطر عن ألسنة اللهب وتتطاير في الهواء إلى أن تنطفئ، وعموما فهي خاصة بالنار من حيث هي امتداد لها،  وهي في نفس الوقت علامة على سببية بعدية، فرؤية الشرارات تتبدى لنا كعلامة على وجود النار، بالرغم من أن هاته الأخيرة هي سبب أول لتلك الشرارات.

أمان:  وهو لفظ أمازيغي غير قابل للتصريف، يقابله في العربية “الماء”.

      وبجمع المعنيين نكون أمام عبارة “شرارت الماء”  وهي مركب مفارق، لا يمكن تمثل معناه بدون الشعور بنوع من الحيرة والدهشة، ذلك نظرا لكون الماء عادة ما ينظر إليه كضد للنار،  إذ يستحيل تصور وجود مزدوج لهما في نفس المكان، لكون أحدهما يلغي الآخر، فالماء يطفئ النار،  والنار تحول الماء – إن لم يكن كافيا لإطفائها- إلى بخار.

      هكذا إذا،  نكون أمام مفارقة دلالية،  ومن هنا تتولد شعرية العنوان،  من حيث اعتماد سعيدة الكبير في اختياره/صياغته على جماليات التناقض والمفارقة في بناء المعنى. مما يفتح أفاقا متعددة لتأويله وفخ شفرات تدليله، فهو يضمر إمكانية تحقيق المستحيل، أو أن لا شيء مستحيل بإطلاق. كما يدل أيضا على إمكانية الجمع بين الأضداد،  مثلما جمع فيه بين النار والماء.

 

سعيدة الكبير و”أشواق فزاز”

    ليست “أشواق فزاز” مجرد عنوان لإحدى قصائد ديوان سعيدة الكبير بل إنها علامة تضمر اتصالا وثيقا بين هذا الديوان وفزاز، ليس من جهة الجغرافيا فقط بل من جهة كون (فزاز)  مخيالا ثقافيا أيضا.

” مثل طير يرتعد في حضن الجبل”

Gigh tin ttir ittrgiggiyn g ighil n 3ari

“بآهات برد كالصدى، يرجع إلي أنين الأشواق. “

S tikht usmmid nna id ittraran imurag

(من قصيدة” أشواق فزاز/ إيموراك ن فزاز”)

هي سعيدة الكبير،

   شاعر(ة) بتاء التأنيث، سكنت زمور فأبت قصيدتها إلا أن تسكن جبال الأطلس الشامخة، يشهد لها حقا أنها ولجت عالما من المأثور عنه،  أن الرجل وحده (بو إزلي) و(بو ووال)، وأن المرأة إن تمكنت منه،  فتلك معجزة،  تماما مثلما تواترت الذاكرة الشعبية عن الشاعرة العمياء “تاوكرات”.

   ومع ذلك، لم تخذل محبيها ومتتبعيها برنة صوتها المقوقع، المنسجم مع طبيعة الإلقاء الإنشادي لتمديازت (القصيدة الأمازيغية)، وبكلماتها العميقة أيضا والمفعمة بحمق التشظي والآفاق/الشريدة.

من تمديازت وإزلي إلى فضاء شعري “بيني”

     تعددت أشكال الشعر الأمازيغي،  بين القصيدة التامة النسق (تمديازت) والبيت الشعري العميق في بنائه الشكلي والمكثف للمعاني (إزلي)، وتيغونيوين أو الأبيات الشعرية الملغزة وتماوايت …

غير أن ديوان سعيدة الكبير، لا ينتمي إلى القصيدة الأمازيغية المتعارف عليها بتمديازت نظرا لغياب إطار إيقاعي واحد أو وزن موحد يحكم القصائد،  إلى جانب تشتت المعنى وانسيابيته فيها، كما لو أننا أمام نص محكوم عليه بالتحول الدلالي والتشرذم السيميوزي.

ففي القصيدة، والمقصود هنا:(أشواق فزاز) .

نجد حضورا لنفحة القصيدة النسقية،  لكن سرعان ما يطرأ على النظم انعراجات إيقاعية ومضمونية،  بالشكل الذي يجعلنا نقترب أكثر من البيت الشعري المنفرد “أفرادي/إزلي”.

مثال ذلك؛ القصيدة المعنونة (صرخة القلب/تاغوييت ن وول)، إذ استهلتها الشاعرة،  بمقدمة صوفية كما هو مألوف في القصيدة النسقية الأمازيغية.

Zzurxc awnna d iwcan aman il3wri

Iga uxlijj urtan ur tyagh irifi

Ikker ujejjig awragh ammas n ttrsiwat

Ghrighac arbbi g i lxir amzi taghuyyitt

(P:27)

لكنها لم تترك للقصيدة أن تنمو نموا نسقيا بل استحدثت فيها بيتا شعريا شبه منفرد (نسبة إلى أفرادي/إزلي) في بنائه النظمي وعمقه المضموني.

تمديازت بوزن أخف، وبقافية متشظية تستلهم إيقاعها من مضمون القريض،  ل من بنائه الشكلي. لتجعل من الأبيات الشعرية عصية على التجنيس فهي بلغة الحداثة الشعرية. شعر حر ولكنها قريبة من فن الومضة أو الشذرة ومن قصيدة النثر أيضا،  كما أنها كذلك،  لكن وبدرجة أقل،  قريبة من القصة القصيرة جدا.

بين الخصوصية والكونية

     إن أهم ما يمكن أن نستخلصه من قراءة ديوان”إفطوجن ن وامان=شرارات الماء”،  كون القصائد المدرجة في الديوان لهن مرجعية مزدوجة تتراوح بين البعد التراثي المتمثل في القصيدة الأمازيغية التقليدية (تمديازت) المعروفة بخصوصيتها الثقافية، والبعد الحداثي الكوني المتمثل في قيم التحول والتثوير التي لحقت بنى ونظم الخطابات الأدبية التقليدية.

 مما يجعل من هذا الديوان،  سجالا بنيويا داخليا بين نمطين من النظم بمرجعياتهما المختلفة،  وصراعا جماليا بين خلفيتين ثقافيتين،  الأولى تحيلنا على الصوت،  بتداخلاته وتمفصلاته الموسيقية من إيقاع ورنة صوتية ووزن نغمي وتمثل نزعة شبه تراثية في اتجاه الماضي، ومشددة على الكلمة ذات الحمولة السوسيو-ثقافية الخاصة بالمجتمع الأمازيغي . والثانية تحيلنا على الكتابة بمكوناتها وعناصرها اللسانية وكذا جماليات تلقيها السيميائية والتأويلية عموما، وتشير بكل ما تصرح به وما تضمره إلى الكونية كرهان استيتيقي للمنتج الأدبي،  اعتمادا على مؤشرات ذات طابع صوري متعالي على الانتماء اللغوي والثقافي والتوسد على مفاعيل معاصرة في صياغة المعنى وخلق إمكانيات متعددة للفهم.

إذ يمكن التمييز مثلا بين حقلين ثقافيين من خلال معجم القصائد هما:

– الحقل الثقافي الدال على الخصوصية(رموز وعلامات خاصة/ثقافة المجتمع المنغلق)

من المؤشرات الدالة عليه:

  • إنيان/الأثافي.

  • إشميل

  • أونامير/ ميتولوجية أمازيغية تحيل أيضا في دلالاتها العامة للكونية.

  • فزاز/الاسم التاريخي للأطلس المتوسط

  • عاري/ الجبل وهو عند الأمازيغ غير منفصل عن الغابة

  • تيزوين/ الأوتار

  • أقشمير/ مرتفع صخري

  •  الحقل الثقافي الدال على الكونية (رموز وعلامات كونية/ثقافة المجتمع المنفتح) من المؤشرات الدالة عليه

  • سيزيف

  • تافوكت/ الشمس

  • أججيك/الزهرة

مفارقات الصوت والكلمة

يطرح ديوان الشاعرة سعيدة الكبير جملة من الأسئلة أبرزها:

– هل يمكن تصور شعر أمازيغي بدون إلقاء؟

هنا إذا نكون أمام إشكالية مفارقة -شبيهة من حيث الكيف بمفارقات جاك دريدا المعروفة- مفادها:

هل يمكن تدوين ما لا يمكن تدوينه؟

 وبالمثل، نتساءل؛ هل يمكن ترجمة ما لا يمكن ترجمته؟

     فالانتقال من الشفهي إلي المكتوب، ليس بالأمر السهل بالنسبة للقصيدة الأمازيغية،  ذلك لأن الإلقاء جزء من تركيبتها النظمية وميكانيزم رئيسي بالنسبة لقيمتها الأدبية كذلك. فنبرة الصوت في قصيدة “فاظمة حوسى تمحجوبيث” للشاعر الكبير “موحى ألحاج” مكون أساسي وليس مجرد عامل مساعد. هذا ما يدفعنا إلى التساؤل التالي: أليس الشعر الأمازيغي التقليدي عملا فنا يظم تشكيلات لسانية وجمالية وفرجوية مختلفة وليس مجرد منتج أدبي؟

 تأسيسا على هذا، نكون بصدد ديوان الشاعرة سعيد الكبير أمام معضلتين،  الأولى صعوبة معايشة القصائد من دون استحضار غيابي للإلقاء،  كأثر مقلق يذكرنا بالزواج الكاثوليكي بين الكلمة والصوت في الشعر الأمازيغي. والثانية صعوبة ترجمة نصوصها ذات المنزع التراثي لنفس الأسباب التي ذكرناها.

أسئلة النظم والكتابة

 حينما نحول الشعر الأمازيغي من نظم شفهي إلى كتابة أدبية،  فإن معايير الحكم تتغير،  ذلك لأن أسئلة الكتابة ورهاناتها مختلفة تماما عن أسئلة النظم ورهاناته. ومن هنا لا يجوز الحكم على الأولى من خلال الثانية أو إسقاط مقولات ومفاهيم ومحددات الثانية على الأولى،  لأنهما عالمين متمايزين، ولكل واحد منهما مقوماته الخاصة.

   غير أن المشكل الذي يقف عائقا أمام هذا الفصل المنهجي في هذا الديوان،  كونه شعر ينظم بيدين؛  يد تراثية تنسج بمغزل النظم التقليدي. ويد حداثية تراهن على الكونية والانخراط في الأسئلة المعاصرة للكتابة.

 وصعوبة الفصل هاته،  تضعنا أماما عالم مزدوج ومتداخل،  ومنه صعوبة إقامة نقد ذو خلوصة معرفية، من دون الوقوع في هجنة إبستمولوجية قوامها؛ البينية.

خاتمة:

   عكس فيرا لينهارتوفا، تلك الشاعرة السلوفاكية المعروفة بنثرها التأملي والغير القابل للتصنيف، كما وصفه ميلان كونديرا، والتي لم تعد إلى بلدها بعد نهاية الشيوعية (سقوط الاتحاد السوفياتي) وظلت تكتب باللغة الفرنسية معتقدة أن المنفى بتجلياته المكانية واللغوية والأدبية يحرر، وأن الكتابة بلغة الآخرين أمر يعادل في جماليته حياة الرحل، حيث الترحال الدائم من معنى إلى معنى. فإن سعيدة الكبير؛ هاته الشاعرة الزمورية (المأوى) والأطلسية (المنزع والأصل) في ديوانها “شرارات الماء”، حاولت أن تتحرر جماليا أو أن تتذوق متعة حياة مضاعفة، دون أن تخرج من بلدها(جغرافية ولغة) ، وأن تتنفس أوكسجين حياة الرحل دون أن تتكلم لغة أخرى /وفي وسعها ذلك.

مختارات من الديوان:

ترجمة لقصيدة “إفطوجن ن و-وال/شرارات الكلام”.

 

شرارات الكلام.

 

من قلب الصمت انتحر،

تطايرت منه الشرارات

صرخ… انكسر… مات

مخلفا في المكان نهضة

نهضة… نهضة… نهضة

فنبت العشب في ذاكرة الإنسان.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.