الرئيسية | سرديات | أرض الوجوه المتراصة كالأحجار | لؤي حمزة عباس

أرض الوجوه المتراصة كالأحجار | لؤي حمزة عباس

لؤي حمزة عباس ( العراق ):

 

كم تعذّب صديقي زيرفان سيلفاني من أجل كتابة فكرة واحدة، إنها ليست بالفكرة العابرة التي لا تتطلب من صاحبها الكثير من الترقب والانتظار، هي ابنة الحلم وقرينة الإلهام، ذلك ما يمكن أن أكتبه عنها بوضوح وقد قرأتها أول مرّة في صمت ما بعد منتصف الليل. أن تسير وحيداً في طريق شبه معتم، ليس سوى نور الفكرة يقود خطواتك ويسند عثراتها، على الطريق التي قطعها قبلك بعقود طويلة البرتو كاميلليري راهب دير كانتوني الملّقب بالوحيد، الذي يخطيء رهبان الدير أحياناً فينادونه كما ينادون بعضهم بعضاً: يا أخانا، مفكّراً مثلك بالمرايا التي كانت تشير في ذهنه لقوة الزمن، ومدققاً بعلاقتها بالوجه الإنساني الذي أرهقه البحث في طبقاته ومعانيه، فإنك ستُدرك بريق فكرة زيرفان وهو يتأملها مع نفسه كما لو كان يُمنح لقية نادرة، وقتَ كانت يده تمتد خلال سيره في العتمة الخفيفة مواصلة البحث من حولها عن الألفاظ، حتى خُيّل له أن يده لمست يداً حائرة، رقيقة الجلد، مهوّمة ـ ذلك ما لم يقله لأحد ـ وقد أدرك أنها يد الوحيد راهب الوجوه البعيدة التي ما زالت تتلمس الجدران، عندها أخذت الفكرة ترتسم في ذهنه على نحو أكثر وضوحاً، كما لو كان الراهب يردّدها بهمس قريب، احتفظ بها مع نفسه خوف أن تتبدّد أو تزول وواصل طريقه وقتاً ليس بالقصير. في البيت، وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل، جلس أمام جهاز الكمبيوتر، تأمل صفحة الإيميل الفارغة ثم كتب، دونما تحية، جملتين منفيتين تنبثق الثانية من سابقتها، في سطر قصير واحد، تفصل بينهما فارزة، نقرت أصابعه حروفهما نقراتٍ سريعةً متلاحقةً.
كنتُ في شبه إغفاءة وقد أرهقني عمل الليل المتواصل أمام الجهاز، أحاول أن أريح عيني وأثني ذراعيّ عندما نبهتني إشارة رسالة جديدة، لم تحتو صفحتها إلا سطراً مائل الحروف:
ليس لوجهي صورة أمام المرآةِ، ليس للوجه فكرة.
□ □ □
لم يكن قد مرّ على إعدام بينيتو أندريا موسوليني وقت طويل، كانت أصداء إطلاق الرصاص تتردّد في ذهن الراهب كلما أغمض عينيه، على الرغم من أن الدير لم يكن قريباً من فيلا بيلموت حيث اقتيد موسوليني وعشيقته كلارا لتنفيذ الحكم. يسمع الرصاصات تُطلق ويتخيّل انبثاقها السريع من مواسير البنادق المصوّبة ويتابع اندفاعها قبل أن يلتفت بحركة خاطفة إلى الجهة المقابلة، محاولاً أن يسبق الرصاص ليرى وجوه المحكومين وقد صُفوا إلى الجدار.
ـ لم تعد الوجوه وجوههم أبداً.
حدّث الراهب نفسه
ـ إنها وجوه أخرى قد نحتها رعب اللحظة الفاصلة.
كان يفكّر منذ وقت ليس بالقصير بكتابة تاريخ الوجوه، “يمكن لوجه الإنسان أن يحكي متاهة الوجوه، تاريخ تحوّلها في فكرة الزمن”، ذلك ما كتبه خلال ليلة قاسية من ليالي الحرب العالمية الثانية، في دفتر ملاحظاته ذي الجلد البُنّي المقشّر الذي ما يزال محفوظاً مع مخطوطات الرهبان وكتيبات أناشيدهم الشخصيّة في الطابق العلوي من مكتبة الدير. يواصل كتابة ملاحظاته وقد شطر الضوء المتسلل من نافذة الغرفة الضيقة وجهه، أضاء نصفه وأبقى النصف الآخر في الظلام، لم يكن غير نصف وجه يفكّر. كلَّ ليلة يجلس وحيداً في غرفته ويستدعي وجهاً محدّداً من وجوه رجالات الطريق البابوي الطويل، أبناء المجمع المغلق، الكرادلة بطلاّتهم المنعّمة التي رققتها السنوات وعيونهم المراقِبة الضيّقة بارقة الحدقات. يدع الوجه يتحدّث، وينشغل هو بتأمله، لم يكن معنياً تماماً بما يقوله كلُّ وجه، عنايته كانت بالوجوه نفسها وهي تتجلى في ضوء الشموع الخفيف، يدرس ملامحها ليلة بعد ليلة، ويفكُّ ما يُخبأ تحت جلدها من أسرار، يقضي الليل مفكّراً في العلاقة بين الوجه والزمن، “إنهما قريبان من بعضهما إلى درجة مظلّلة”، تلك ملاحظة أخرى كتبها في صفحة مفردة، يمكن أن نفهمها بدقة إذا واصلنا تقليب صفحات الدفتر لنقرأ في صفحة مفردة أخرى فقرة من ثلاثة أسطر تؤكد “إنها الدرجة التي يحافظ فيها كلٌّ منهما على صعوبة تفسيره وهما ينشغلان بفعل كتابة متصل، زمن يُكتب ليل نهار ووجه مثل ورقة من لحم ودم، يتلقى المكتوبات ذاهلاً حتى يُتم الزمن معانيه ويضع نقطته آخر سطر الحياة. النقطة التي لا معنى بعدها ولا كتابة”.
قبل وجوه الكرادلة، أبناء المجمع المغلق، كان قد استقبل كثيراً من الوجوه في ليال طويلة، كلٌّ منها يحكي قصته في ليلة، يرمي بين يدي الراهب حبل خلاصه، إنه يتذكرها جميعاً، كلُّ وجه حلّق في سماء غرفته يتذكّر ملامحه بوضوح، وجوه الرحّالة، وقباطنة السفن، والسلاطين والمحظيات، وجوه الزهاد والمغامرين. توقف أكثر من عام مع وجوه حجيج الأرض الممقدسة، “كانت ملامحهم تلين مع اقترابهم من بيت المقدس، تغسلها مياه العاطفة المقدسة مع مشارفة الرحلة على الانتهاء”. استمع لأصواتهم جميعاً، النبيل يوحنا فون سولمز ممتليء الوجنتين، والفارس فون بيكن سريع الالتفات، والفنان أرهارد رويفيش من أوتريخت، كان وجهه أقرب لوجوه لوحات عصر النهضة، حدّق الراهب مدققاً للتأكد من أن التماعة عينيه ليست زيتية وأن رموشه الأنثوية غير مرسومة بفرشاة، والطباخ يوحنا من ضواحي الراين، كان يهز رأسه مع كل كلمة ثم يميل قليلاً، يصيخ السمع لما تخلّفه كلماته من أصداء، والمترجم كنوص ذي الصوت المعدني كملامحه، كانوا قد وصلوا إلى البندقية “بتكاليف غير قليلة وبطرق ملتوية”، قبل أن ينطلقوا في طريق رحلتهم الطويل. لم يكن قد رافق الحجيج إلى بيت المقدس يوماً، ولم ينشغل بتلقينهم الدروس بعدة لغات والإشراف على راحتهم وتنظيم إقامتهم في المدينة المقدسة، لكنه رأى وجه المخلّص في ليلة بعيدة، قبل أن يتناول عشاءه الأخيرة، راوده شك فور رؤيته يحلّق في فضاء الغرفة، هو الذي رآه طويلاً منذ طفولته حتى عاش ملامحه سنة بعد أخرى، كان بعيد الشبه بوجه مسيح الايقونات الذي يراه ناظراً نحوه كلما رفع رأسه وأينما التفت.
□ □ □
ينخفض صوت الوجه كلما أوغل في الليل وتخبو حكايته، حتى إذا انسحب مع بشائر الصباح أخذ الراهب يكتب بسرعة وتركيز مدوّناً ما لم يقله الوجه عن حياة صاحبه. في الليلة التالية لن يستدعي وجهاً، يعود لغرفته مترقّباً أن ينزل وجه ما من سقف الغرفة المقبّب، ما إن يقترب ويبدأ الحديث حتى يعرفه، إنه وجه عدو كاردينال ليلة الأمس، وجه شيطانه، لرجالات المجمع المغلق أعداؤهم وشياطينهم، وجه يُعيد على مسامع الراهب حديث الليلة الماضية جملة بجملة على نحو مقلوب. “يخرج الوجه من طبقة بحركة لا تُحس ليدخل في طبقة، كلُّ حركة تأخذ الوجه بعيداً، تقتلعه من أرض الوجوه المتراصة كالأحجار”، الجملة التي سيعيد الراهب كتابتها فور أن يخبو صوت الوجه وتذبل حكايته، مدوّناً تحتها كلمة عدو أو شيطان.
□ □ □
“هل تُدرك المعنى الخفي وراء ذلك أيها القاريء المبجل؟” يسأل الراهب في أعلى الصفحة الأخيرة، وعلى أسطرها السفلى: “ليس ثمة وجه ولا قناع، ذلك ما يقوله وجهان، كلٌّ منّا وجه ذاته وقناعها، حياتها وموتها، خيرها وشرّها، رحمتها وجبروتها”.
□ □ □
بعد أن ينتهي من كتابة جملته الأخيرة يفتح النافذة، يتنفس هواءً نقياً بارداً وهو يُنصت لأنفاس الدير ويغدو وجهه في ضوء أول الصباح كاملاً وقديماً. قبل أن يسلّم جسده للنوم على السرير المنخفض، يتأمل المنشور الذي ألقت به الطائرات القليلة المتبقية من سلاح الجو، تقلّبت أوراقه مثل طيور بيضاء في سماء روما متناثرة الغيوم قبل أن تستقر على سطوح بناياتها وتتناثر في شوارعها القديمة الضيقة، وقد طُبعت في وسطه، من دون أية كلمة، صورة الجثث الخمس المعلّقة من أرجلها في محطة بنزين مدينة ميلانو، أيديها طليقة متدلية ـ ما زالت النسخة محفوظة بين أوراق الدفتر، مطوية طية واحدة ـ ينظر لجثة موسوليني، إنها الثانية من اليسار، ما يزال مرتدياً جزمته الطويلة اللامعة، فمه مفتوح كما لو كان يحاول أن يعبّ آخر نفحة من الهواء وعيناه مغمضتان، إلى جواره يرى جثة عشيقته كلارا، ويرى وجوه الناس الغفيرة تحتها هادئة تواصل النظر.
□ □ □
اقترب الليل من أخرياته وما زلتُ بمواجهة الجهاز، أتامل على شاشته المضيئة جملة زيرفان قبل أن أسمع إشارة الرسالة من جديد، صفحة أخرى لم تكن تحمل غير جملة مائلة الحروف بفارزة واحدة. كان صوت زيرفان يتردد في رأسي مستفهماً:
من يرى وجهه، في زحام الصور؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.