الرئيسية | سرديات | وحيد | ميمون حرش – المغرب

وحيد | ميمون حرش – المغرب

ميمون حرش

تملى وحيد وجهَه في المرآة وصرخ: “أنا وحيد وسعيد بذلك. فما شأن الناس بي!؟”.

لم يكن وحيداً فقط بل ذميم أيضاً، يعرف هذا ويؤرقه، وهو المدمن على مشاهدة الأفلام وقراءة الروايات الطويلة، ولولا هذه أو تلك لكان نسياً منسياً، كانت بجد عونَ وحيد الوحيد.

متوحد مع ذاته، يبني صداقاته مع أناه، صامت إلا مع نفسه، حين يخرج من البيت، إذا خرج، لا أحد يعرف أين يذهب، ولا متى يعود، وحين يمر بمن يعرفونه من الجيران ُيلقي “وحيد” تحيته ويمضي، وكثيراً ما خسر  أقرانه رهان أن يروه صحبة أحد، حتى ظله لا يتشكل لا قُدامه ، ولا وراءه..

يوم مات حكوا أنهم وجدوا على وسادته ورقة رسم عليها رقم “2”.

بعض الظرفاء المتندرين الثقال علق على الأمر قائلاً: “في القبر، والآن فقط، ستكون له رفقة”.

خلال حياته، في كل يوم تقريباً، لم يكن الخروج من البيت يغريه أبداً إلاّ لضرورة ملحة، كان يتشاءم من كثرة العدد في الخارج، الكتب عالمه، وفي حضن الروايات يرتمي، ويغرق في قراءتها، كان يحدث له أحياناً، كما تحكي أمه الثكلى، أن يصرخ ما أوتي من قوة، يذكر أسماء بعينها مثل عادل الخالدي، وطالع العريفي، وجريغور سامسا، وأبي قيس، والطروسي، و بلوم، وهاملت، وأخاب، وسعيد مهران، وسنتياجو، وجان فالجن، ومحمد شكري، وزوربا، وسي السيد ، وعبد الناصر الطلياني ،و(…) ينادي عليها، يحاورها، ويصرخ في وجوهها؛ وأمه ، من كثرة ترديده لهذه الأسماء، ورغم غرابتها بالنسبة إليها ، أصبحت تحفظها هي الأخرى وإن كانت تخطيء كثيراً حين تتهجى بها، ويوم ذكرت بعض هذه الأسماء أمام ولي مجذوب زارته طامعة في بركة تعالج بها ابنها “وحيد” أثار فزعها حين قال لها  جاداً:

“هي أسماء لجن كفرة، إذا أضاف إليها أخرى لن يسلم ولدك، لا بد من تخليصه من الوحل، إنه يغوص ويغرق “.

الفتى يرى في الأسماء التي يذكر مرايا تبث إليه على الدوام صورة تصدعه من الداخل، لذا يظل،بعد الفراغ من قراءة رواية معينة، كل مرة، يتوهم أن امحاء هذه الصورة يكون بتقريع  البطل، ومحاورته، بل وكان يرسم لكل بطل صورة تقريبية “بورتري”  كما يفعل أمهر المحققين في تعقب أخطر المجرمين.. أول رسمٍ له كان لبطل “المسخ” لـ فرانز كافكا أرفقه بتعليق كتب فيه  :

“لو كنتُ مكانك، جريغور سامسا، لتمردت على كافكا خالقك، لم أكن لأختار حشرة لأكونها،بل ذئباً”.

ووحيد في أحايين كثيرة، بالمقابل، يرسم هذه الشخصيات وكله شوق إلى استعداء حياة كل واحد منها على أزماته التي تشتد فلا تنفرج، ولا تخف، ولا تكف أبداً.. حين يقارن بينها وبين نفسه يرتاح مرة، ويرقص أخرى، ويغني ثالثة… وفي كل الأحوال لم يبكِ يوماً حظه العاثر، راضٍ هو بقدره، غريق – يقول عن نفسه- فلمَ الخوف من البلل؟ !.. ومن بين الشخصيات الروائية الكثيرة لم يكن يرى فيها نظيراً له سوى “الطلياني” التونسي  بطل شكري المبخوت، فما صار إليه من تقهقر إنما يعزوه لفتاته التي خانته تماماً كما تركتْ زينة عبد الناصر في وسط الطريق،فضل تماماً.. يا لمكر النساء، ولكم يتشابهن في الأذى!.في كل زمان !.

يتأمل وحيد صور الأبطال التي يرسم ، ويفكر جاداً في  تخصيص مقبرة بهؤلاء، حتى يتمكن محبوهم ، في العالم، من زيارتهم، والترحم عليهم.. ومن حق هؤلاء أن تضمهم مقابر، على كل قبر شاهدة باسمه.. لما أخبر والدته بما عنّ له في شأن شراء قطعة أرض بما ورثه عن أبيه لتكون مقبرة لشخصيات الروايات التي يقرأ تأكد لها ما أخبره بها الفقيه المجذوب الذي تقصده لعلاج ابنها وحيد.. سمعتِ الأم منه هذا “الهذيانَ” كما أسمته ،واعتبرته من علامات الانحدار نحو الهاوية،قاست حرارته، وقرأت المعوذتين، وليس ارتفاع درجة حرارته بشكل مهول ما أثارها، بل ذكر “المقبرة” دمرها من الداخل ،غزاها كما الأرضة، شرب دماء أوصالها، فامتقع لونها، وصارت عوداً أصفرَ يابساً لا حياة فيه، وجدولاً لا ماء فيه، كانت تتشاءم من ذكر المقبرة ، وفي العرف  المكتوب في ربيدة الأجداد، كلما حلم بها  فردٌ منهم أو تحدث عنها،كان الموت مترصداً لهم بالباب، فيحصد واحداً أو واحدة، ولم تشذّ هذه القاعدة في شجرة العائلة أبداً، أبداً ..وسيصدق حدس الأم  تماماً، إذ بعد حديث المقبرة بأسبوع سيموت وحيد دون أن يشكو من مرض سوى هلوساته مع الشخصيات التي كان يكلمها..

في البيت تحكي لي أمه،كان يعرض عن الكل ولا يسمح سوى لها بدخول غرفته، ومعها فقط كان يتكلم مع إنسان من دم ولحم، وحين رجته أن يسمح  لشقيقته الوحيدة بلقائه، وهي التي تجشمت تعب السفر من مسافة بعيدة لأجل ذلك ، رفض بحدة، وقال لأمه : ” لا أحد غيرك أمي.. راغب أنا عن كل الناس، بل عن أعز الناس”.

قبّل رأسها وضمها إليه، مسح دموعها،وقال لها بشكل مفاجئ :

“هل تعرفين أمي، أنت تشبهين أمينة زوجة سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ، لهذا أحبك حُبّيْـن..”

كان ذلك أول مرة تسمعه يذكر اسم أنثى ضمن ما يهذي به من أسماء، فمن تكون أمينة هذه؟ (تساءلت الأم) ..والفقيه الحاذق الذي تقصده لعلاج ابنها من المس أكد لها أن جن الولد ذكر كافر، ولو كان أنثى لوفر عليها مشاوير كثيرة، ولكان العلاج سهلا عليه.

لعنة الأسماء هذه لا بد من أن يبرأ منها الابن، ولا بد من علاجه قبل أن تستفحل حاله ..هذا رهان الأم واظبت عليه، ولم تكن تطال غير بركات العرافين، والمنجمين ممن تثق في عزيمتهم.

حكت لي أم وحيد كل هذا بغصة، والدمع يرفض من عينيها في آخر زيارة لي لبيتهم لتقديم العزاء،كنتُ الوحيدَ من الأقران رفيقاً لوحيد قبل أن أغادر مع العائلة لمدينة أخرى،ففرقت بيننا السبل، وطوحت بنا الأهواء، و شردتنا الأمكنة ، تعطلت، بعد الفراق، لغة التواصل بيننا ، ولكن في القلب حفظت له مودة عصية على النسيان، لطالما أحببته، ويوم كبرت،زرت بيت العائلة لتقديم العزاء في بيته  بعد أن علمت بالخبر من الفيس ، وحكت لي الأم عن المأساة..

سألتُ الأم عن سر رقم (2) الذي وجدوه تحت وسادته يوم وفاته، ردت كما لو كانت تنتظر سؤالي:” كان مُصيباً، ابني وحيد ليس منه اثنان”.

لم أقتنع بالجواب، ودون أن أجزم بشيء كان لي رأي آخر باعتباري طبيباً نفسياً، إذا كان الأول هو “وحيد” فالرقم الآخر هو أحد اثنين إما أنا صديقه الوحيد أو حبيبته التي خانته.

عدتُ إلى دياري ، وذكرى وحيد تسكن مخيالي، وما حكته الأم لي عن قصته مع الشخصيات الروائية شغلني ، وتخصيص مقبرة لهؤلاء بدأت التفكير فيها بجدية، كان يلزمني وقت فقط لتنفيذها، وكانت البداية أن أقرأ الروايات كثيراً.

مضى، الآن، على تشييدي لقبور شخصيات الروايات عامان، أقف أمامها، أحملق في الأجداث، وأتذكر… نسيتُ أن أخبركم.. لم يزر أحد هذه القبور كما كان يحلم وحيد، ولا أنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.