الرئيسية | أخبار | مذكرات أعمى لحميد ركاطة -الأعمى والرغبة : حدود الذات وعبور العلامات | د. فؤاد أعراب

مذكرات أعمى لحميد ركاطة -الأعمى والرغبة : حدود الذات وعبور العلامات | د. فؤاد أعراب

د. فؤاد أعراب

الرغبة بين مسرح التأويل ومشرحة التحليل النفسي:

تتحول الكتابة، في خضم التجربة الروائية، إلى مختبر لإنتاج الخطاب والذات، وإبداع دلالات متحركة ومتحولة. هذا ما نقرأه في رواية “مذكرات أعمى”، حيث تحظر تيمات الانعطاف والعبور والحدود كمتجهات متحكمة في سلوك الذات ومخلخلة للغة الطبيعية ومبدعة لأدوات جديدة في التدليل[1]. بعبارة أدق، تراهن الرواية على إجراء توزيع جديد للعلاقات بين العوالم الرمزية والخيالية والواقعية، و بين الذاتي والموضوعي.

سنحاول، في هذه القراءة، استجلاء بعض الخلفيات المعرفية والإيديولوجية المتحكمة في الانجاز التطبيقي لرواية “مذكرات”، متوسلين بأدوات تحليلية مستقاة من حقل التحليل النفسي والفينومينولوجيا. يتعلق الأمر بتقديم إضاءة فينومينولوجية لحضور الذات في العالم ‘ماوراء’ التمثلات الاجتماعية، مع استثمار أدوات تحليلنفسية لإجراء تشخيص لواقع الرغبة التي تتقمص وتخترق العلامات. يحذونا طموح منهجي غايته تتبع زمن الحكي واستكشاف مكونات الهوية السردية للرواية والتي تسمح، كما يؤكد ذلك ريكور، بتشخيص واقع الذات وحل ديناميكي للاحراجات القديمة للوعي من خلال طقس الذاكرة كإعادة لتمظهر الواقع اليومي ولفعل الذات داخل عالم النص[2].

تجدر الإشارة إلى أن قراءتنا تتوخى بلورة علاقة رغبة الذات مع ذاتها ومع العالم كما تحضر في الرواية، من خلال مقاربة جدلية تشابك الأشياء والحواس ورغبة الجسد كعناصر متفاعلة في الرواية.  لا يتعلق الأمر، في الرواية، بابتكار لغة توجد على شفا الظواهر ومهيمنة مباشرة على الأشياء، بل كما يقول ميرلوبونتي[3]، بأسلوب يبدو كنتاج لتشابك الصورة والمعنى، كرابط بين تمظهر القول وكيفية الوجود في العالم، و بمسرحة إبداعية روائية لكيفية إقامة الرغبة في العالم، من خلال الحكي عن تجربتها الإنسانية الواقعية والمسكوت عنها. وهذا اللقاء بين الواقعي والمسكوت عنه يصبح ممكنا بفضل الاستعارات والصور الشعرية واللغة الأسطورية التي تمكن الرواية من إنتاج فهم شعري للذات وللعالم.

في هذا الإطار، سنبين كيف أن استكشاف مغارة اللاشعور، كفضاء مشكل من تشابك دوافع الرغبة و نزوعات الهيمنة و الرموز الجنسية، يسعفنا في تتبع تطور سيرورة التذويت subjectivation، مع التقاط تجربة الذات في المتعة والألم و الهلوسة.

كائن المنعطف/ذات العبور

بهذا المنطلق النظري، نقترح قراءتنا لذات الأعمى الذي يحضر في الرواية كشخصية عابرة للفضاءات ومخترقة للعلامات، لا تستقر في موقع جغرافي إلا لتغادره نحو سراب العلامة والرمز. تتوسد ذاكرته عتمة اللاشعور بألوانه الرمادية العصية على الوعي البصري، لتسخر، متوسلة وساطة التأويل، من خيوط الوعي المتسربلة بلغة النسق الرمزي. تفترش الذاكرة بياض الراهن (ص16) وعتمة الحاضر، مستضيفة شخوصها حول مأدبة الرغبة، لتقترف جريمة الحكي عن الحب والجمال والفن.

  يمتطي الأعمى (ص17) صهوة الخيانة (ص21)، للعبور إلى شط الإخلاص وبر الحب. هنا يستوقفنا السؤال التالي: أليست الرواية استنطاقا للنظام الخيالي للواقع للبوح باعترافاته للسجل الرمزي ؟ تقترح الخطاطة التحليلية الفرضية التالية: إن مفارقة الحب والخيانة جرح نرجسي عميق طواه النسيان “الزهايمر” (ص78)، منذ الطفولة الأولى تحت جبروت إسم الأب خلال مرحلة المرآة، حيث الانفصال عن الموضوع الأمومي والحرمان من الرغبة الأصلية كشرط للعبور النكوصي نحو قانون الأخر:”حرصها الشديد علي كطفل مدلل…لقد عرفت في أرذل العمر معنى أن أكون طفلا مدللا ورجلا محبوبا في ان واحد في عيني زوجتي” (حب متجدد ص143).

 يستثمر الراوي فضاء مستشفى الأمراض العقلية (ص67) كموقع بيو-نفسي يسمح بإجراء تشخيص تحليلي لرحلة الأعمى بين الواقع والهذيان. يحضر الأعمى في المتخيل الاجتماعي كصورة لشخص غير واضح، يثير الشبهة و يخلخل التمثلات الاجتماعية التي تطمئن للبداهة وتؤمن بالوضوح، بل و يتخطى حدود الطموحات الابستمولوجية للطب العقلي والنفسي والعصبي بالتحكم في الموضوع الإنساني كموضوع للمعرفة العلمية الإنسانية. يتأرجح الأعمى إذا بين نقاء حقيقة العمى و تشويش عمى الحقيقة، بين واقعة العمى كعطب حسي و مسرحة العمى التي توحي بالجنون(ص68). فأمام هذيان الذات، نكتشف أن الرغبة هي كل شيء، وأن اللغة هي الحامل الأساسي الذي يمكن الذات من إعادة بناء لانهائية لهويتها الهشة والمهددة باستمرار: “تخيلت نفسي أتراس مجلسا بلديا، مكونا من حمقى المدينة، ومنبوذيها. ضحكت كثيرا من استخفافي، ثم استعدت بالله ثلاثا من هلوساتي…”. (مرشح حينا يخاطبكم ص168). وقد ترتدي الرغبة رداء السخرية من الذات ومن العالم: “منظرك مضحك، تبدو بنظارتيك المفرمة ك’قبطان سلفستر’ وقد حط للتو على جزيرة الكنز” (سراب ص125)، وكذلك: “صندالي الجديد، موحى وغروم الذي اشتراه لي أبي بعد معاناة مع الحذاء المطاطي” (حروب صغيرة ص183).

يختار الأعمى مقام الجنون كمنفى اختياري، وهو بذلك يتطابق مع شخصية دون كيشوط في رواية “سيرفانتس” (71)، الذي فضل عمق و حرارة الماضي على سطحية و برودة الحاضر، عبر فن السخرية من الأزمنة الحديثة. فالأعمى ينتصر لقيم النبالة والفروسية (ص203)، لزمن القبيلة والبادية، حيث سحر الطبيعة و لغز الفن و شاعرية الموسيقى وسحر المكان. الأعمى هو آخرنا الذي يرفض الانسياق مع نزوات التحديث، وما بشرت به من متعة وسعادة، ويفضل امتطاء صهوة الماضي و الذاكرة. يحضر الجنون في هذا السياق كعصاب لاينفك يدفع البطل في الرواية نحو ماض شخصي مدفون ونحو قفص الذاكرة الذي يقوده نحو الألم والهلوسة.

 لكن أليست العودة آلية نفسية دفاعية مثيرة للسخرية من خلال المشهد الكرنفالي الذي تقدمة صورة الأعمى المتخيلة وهو يمتطي عصاه مهرولا نحو المجهول؟ أليس العمى الصورة الحقيقية للذات وهي واقفة أمام مرآة التحليل في لعبة تداعي حر تؤشر على وعي شقي أعيته ازدواجية وتضارب القيم وتبصم على البناء الفصامي للنفس التي أضناها سؤال البحث عن الهوية؟

التيه (ص18) علامة على جبين وجود الأعمى، مادام الأخير يرفض على غرار الكائن الهامشي، كما بين لاكان[4]، أن يحتجزه فضاء الكائن الناطق، فحياته سلسلة من الهجرات العابرة للغات: لغة الرغبة والواقع، الفن والعقل، الجسد والفكر، يحضر دائما في وضعية القطيعة، لأنه سجين واقع البؤس حاملا لوشم التيه على جسده بدون قناع، معرض للعري: خمر، نفحة، مخدرات. يتلفظ الأعمى خطابا خارج الخطاب ويتمرد على قوانين الأب، إنه من منظور هاوارد بيكر شخص خارج القانون the outsider، لا يعير اهتماما لخطب مقاولي الأخلاق ولا لمضاربات منعشي المعايير في السوق الدينية النشيطة هذه الأيام. تيه الأعمى ذاتي و نفسي في أماكن أنهكها التيه الاجتماعي الذي أصاب العلاقات الإنسانية بالهشاشة.

يلتقط الأعمى، بحدسه الصوفي وحسه العملي، مفارقات الواقع السوسيو-ثقافي العصي على أفهام العامة. واقع ممزق بين تعالي المثل الأخلاقي الزهدي ومحايثة الرغبة الجامحة. أليست بائعة الحديث (ص21) نموذجا مصغرا  للكائن المشروخ أو للذات المنقسمة بين سحر الرغبة وسلطة القانون الرمزي، بين المدنس (الجسد واستيهاماته الشبقية) والمقدس (المسجد ودلالاته الثيولوجية)؟ ضد الحس المشترك لضحايا النظام الرمزي، ينتصر الأعمى للدنيوي و الزمني le profane/le temporel  ولسلطة الدال “العصا/الحورية”. فهو ليس كائنا أخرويا eschatologique ، أو مرجئا ينتظر مضاجعة مدلوله بعد الموت : “أريدها الليلة رابعة في سريري” (ص23).

الأعمى كائن العبور بامتياز من عالم السطح (الدار الكبيرة كدال على الكرم والجود في الثقافة الاجتماعية) إلى عالم الباطن (دار الدعارة في عملية تحايل الدال على المعنى الاجتماعي) (ص29)، من حقل الفيلولوجيا إلى مجال الفينومينولوجيا، فهو يعوض حاسة البصر التي لا تتجاوز عتبة السطح وفقر المدلولات، بحاسة السمع التي تنفذ إلى الباطن وتفتح المجال أمام قلق الفهم و خصوبة التأويل وتوليد المعنى.

تجربة الحب بمثابة سفر لانهائي أو لعبة نرد مفتوحة على كل الاحتمالات، فهي استعراض لقوة الحواس: اللمس (العشيقة)، السمع (الحديث) والشم (الوردة)، ومغامرة روحية خارج قواعد المنطق الاجتماعي، وهذا ما تؤكده مقولة القديس أوغسطين: “منطق الحب هو الحب بدون منطق”. لكن قدر الحب في تجربة الأعمى هو أن يكون مهدورا: “فطفقت تنزع البتلات…ثم رحلت غاضبة” (ص34) أو محرما “زوجة أبي الصغيرة التي صرت “يوسفها” لم تتورع عن مراودتي باستمرار” (ص186). وهذا مؤشر على أن المرأة تمتلك ما يعبر عن القدرة الخارقة أي سلطة منح الحياة (الحب) والمعنى (الحكي)، فهي تهيمن على الذاكرة و الأدوار والطقوس والصراعات المؤثثة لفضاءات الرواية: “لم استطع حينها تفسير لغز ذلك الحنق بينهما…اكتشفت صدفة أنه كان بسبب حبهما لزميلة لهما في الفصل..” (ص196).

علي الاعمى كائن حدودي لا يستريح في بؤرة زمانية أو مكانية محددة، يكسر نمطية الزمن التراكمي، زمن الوعي الحسي ، ويختار الزمن الدائري، زمن العود الأبدي، ويفضل الانصياع لصوت الرغبة الذي يتوافق مع شكل الحلقة الدائري حيث يتجمهر الناس للترويح عن النفس. عبر الحلقة ينقلنا علي من زمنية المجتمع الفرداني إلى فضاء المجتمع التضامني، وبواسطة الحكي ينقلنا من عقم الزمن الراهن الى خصوبة الأسطورة.

وإذا كان الإنسان ضحية المجتمع الاستهلاكي يفضل الذوبان في التمثل السطحي للحياة، فإن الأعمى يتموقع في الحدود بين الموت كإمكان والحياة كتجربة. وهذا مؤشر على تجذر الموت في الممارسة الوجودية للذات كدليل على الغياب والغيرية والغرابة والنقص، وترجمة لهشاشة الذات التي تستثمر الابداع واللذة والهذيان كأدوات للمقاومة.

الغرابة أو عبور المعنى نحو ذهان اللغة:

الطبيب ذاته يتماهى مع سيكولوجية الأعمى (ص 73)، بتلذذه بالمكنسة (الفالوس)، وارتدائه البذلة العسكرية كرمز  للسلطة، واعتماره خوذة وحمله سيفا خشبيا ومحقنة كما لو كان منخرطا في حرب ضروس. تنقلب بذلك وظيفة الادوار الاجتماعية وتتخلخل بنية السرد وتنشطر منظومة الهوية، فيبدو الطبيب (الأنا الاجتماعي) حاملا لسيكولوجية الأعمى (الآخر)، سيكولوجية مشروخة تحتاج بدورها إلى علاج نفسي، إلى درجة يصعب معها إدراك الحدود بين الصحي والمرضي، المعياري واللامعياري. بل و تصل السخرية إلى مداها الأقصى لحظة الحقن، بانكشاف الجسد في عريه وتحرره من سياجه الثقافي “متجردين من سراويلهم…. نصبوا مؤخراتهم كفوهات مدافع برتغالية قديمة” (ص..). يبدو الوعي هنا مخترقا للحدود، محاولا الهروب من واقع قاسي، وهذا ما سعت الرواية إلى إقراره، حيث أن القطيعة مع الأخر ترجمة للقطيعة مع الذات الني تقود إلى العصاب، بل وتخاطر بالسقوط في نوبات ذهانية، حيث يفقد الوعي الاتصال بالواقع ويترك الباب مشرعا للهذيان.

يصادق الأعمى الغرباء ممن لفظتهم مؤسسات المجتمع، فهو منبوذ في حقل اجتماعي هش يخضع لمعايير أبدع قواعدها المنبوذون (ص45)، الصعاليك، الحازقين (ص193)، لكنه مع ذلك حقل دينامي تنشطه اقتصاديا تجارة المتلاشيات، وفنيا الأغنية الاصيلة “فويتح- الحياني-البلوز” والصناعة اليدوية و مسرحيا كرنفال “الحلقة”. عالم المنبوذين هو عالم السخرية من الثقافة السائدة التي مسخت مكوناتها المسلسلات المدبلجة والأخبار  التمجيدية والأغاني الفلكلورية (ص47).  يعوض الأعمى واقعه المعطوب جسديا واجتماعيا، باستيهامات السلطة التي تؤثث مملكة الهذيان بقواعد الحكم التراتبي المتوسلة بأدوات تؤدي وظائف سردية داخل الرواية: فالعصا وزيرة والوتار ناطق رسمي والطربوش شعار الدولة والصندوق وزير المالية والصحن النحاسي مدير الضرائب (ص66).

في قصر المتخيل الذي يرتاده الأعمى، تمنح المرأة الحياة للوجود، كما لو كان يدور بخلد الاعمى ما قاله ابن عربي: “المكان الذي لايؤنث لا يعول عليه”. إذا لا تنفك المرأة، في الرواية، تمنح الحياة للحكاية و المعنى و الذاكرة. في المقابل، تعد الكتابة وسيلة تحرر الأعمى من شراك الواقع وبؤس اللغة الرمزية، و دليله نحو عالم الوهم والجنون والحيرة ” كتاباتي مجرد أوهام صدقتها حد الجنون” (ص31).

ترتدي شخصيات الرواية، ككائنات عبورية، لبوس الغرابة و تستنجد بالليل مرجعا زمنيا، متوسدة البؤس الاجتماعي ومتسلحة بالأسئلة الرهيبة. تستوطن مساحات المممنوع، وتنتفض على البناء الاجتماعي للعقل والحواس. فهي تحمل رسائل مجهولة كمؤشر على “ورطة الدلالة”(ص88، ص103،ص206)، وكدليل على استفحال الاختلاف وتيه المعنى وانسحاب الدلالة وعصيان العبارة (ص102). يستحيل، في هذا السياق، تحديد الهويات، لان في الكشف عنها قتل للرمز، وتعقيم لخصوبة الدلالة وانتصار  لميتافيزيقا الحضور على سيرورة التأويل. “اليوم ذهب الشخص فيه وبقي الاختلاف يطرز سكينته” (104).

عبر مقهى “مولاي موح”، “جامع البيضاوي”،”مقهى قاسمي”، “مقهى السي عبد السلام”، “الزاوية التيجانية”،”المارشي القديم”، “سينما أطلس” “دكان العربي الحلاق” ترتسم خطاطة القهر “دقات قلوب المنهزمين منهم” (ص116)، الذي يحتجب معه المعنى خلف تشظي كينونة الذات بين التعاطي للممنوعات و التظاهر بالذهاب لأداء الفريضة، وترتسم معالم طقوس متعايشة تتأرجح بين سلوك اللصوصية /تجارة المخدرات/القمار وسلوك المريدين والمصلين والمشاركين في الجنازة (ص116). فالشخصيات داخل الرواية  لائكية القلب والهوى دينية المظهر(ص 164)، قد تحلم بيوتوبيا المدينة الدينية لكنها تنصاع طواعية لصوت الرغبة واللذة الدنيوية “وقار زائف”.

ينشط السلوك الديني وفقا لمبدأ الإرجاء والتناوب مع السلوك الاجتماعي وفي ذلك تجسيد لتراكم طبقات ايديولوجية متعارضة وترسخها في بنية الشخصية القاعدية عبر سيرورة تاريخية طويلة سمحت بتجاور الديني والدنيوي، الزمني والروحي، الممنوع والمباح، إلا أنه يمكن قراءة هذا التجاور بكون الثقافة المحلية خصوصا والمغربية عموما محصنة ضد أمراض التيارات الدينية الانغلاقية التي تحلم بتحويل الجسد إلى آلة صماء تنهكها فيروسات النصوص القروسطية.

تقود العصا/الرغبة الأعمى للبحث عن العشيقة لدى العرافة (ص110)، القادرة في التمثل الاجتماعي للفعل والسلوك على العبور بالقارئ من عالم الضرورة والحتمية إلى عالم اللامتوقع، الصدفة و اللامعقول. تفاجئ صورة العرافة أفق انتظارات القارئ فهي تحقن الأدوات التقليدية للشعوذة من أوراق وبخور بأدوات حديثة من حاسوب وصور ومكتب وموسيقى عبد الحليم. كما تمتزج في تمثل الأعمى الاستيهامي للعشيقة ثنائية القوة السحرية الضاربة للصوطا بالجمال الخارق لجسد المرأة الغربية “مارلين مونرو” (ص113) كموضوع معلمن للدوافع الايروسية. في خلفية هذا المشهد المركب يتجسد واقع مجتمع هجين تتصالح فيه على نحو غريب طقوس السحر والشعوذة مع أدوات التحديث مع استحالة توطين روح الحداثة كتمثل عقلاني للواقع و كأفق قيمي للنفس الحديثة.

تجتاح الاعمى نوستالجيا ارتياد فضاءات الرغبة التي كانت مفتوحة في الماضي، والتي انهكتها رقابة السلطة و طالها النسيان اليوم، فربما هو مؤشر على تصاعد المد الذي تعرفه التيارات الأصولية هذه الأيام وتغول سلطة الدولة.  فشخصية يامنة (ص125) التي رغم اختيارها للكاتارسييس الديني “التوبة”، لاتجد أدنى حرج في إرشاد الأعمى نحو ماخور سري، هي نموذج حي لازدواجية قيمية تتعايش داخل الكيان الاجتماعي الواحد من جهة، لكن الحدث يؤشر على انعطاف هوياتي بين ماضي الرغبة وحاضرها، وعلى قطيعة ثقافية بين ماضي مجتمع منفتح ومتسامح مع أقلياته، وحاضر مجتمع  يطارد غرابتنا واختلافنا في الساحات العمومية من جهة ثانية. ولعل زيارة الأعمى لصديقته القديمة و تعرضها للقتل بعد ذلك إقرار من الراوي بحتمية الوصم الاجتماعي “العاهرة ” الذي ينغرس في بيوغرافية المرأة في المجتمع الذكوري.

لحسن ازايي، باحدة، قيبو، ميروش، بومزبرة المجذوب، عقبة، الكامبو العجمي، اللسيان، بوركابي، حمو لهبيل، ابا مكي، العم زايد، الفقيه، المداح، عمي بلال الكناوي كائنات حدودية اختارت الإقامة في سفرالخيال عبر أجنحة الحكي والغناء والجنون والحب والخيانة، تحمل القارئ خارج سلطة المكان وسطوة الزمان لتطوف به في عوالم السخرية اللاذعة من الذات المنكسرة بفعل قسوة التاريخ ووعورة الجغرافيا، تمنحه الحكي كتعويض سيكولوجي ينسيه افتراضيا ألام الفقر وجروح البؤس التي خلفها جحود المركز. هي شخوص مرحة تفضل السخرية من الموت وتبجيل الحياة، وتجعل من القراءة طقسا يوميا ومن الإدمان على الاستماع للاغاني الخالدة موردا وجوديا. هي كائنات مهاجرة أىت إلا أن تهدي كيانها لبلاد الفن والجمال أرض زيان، بعد أن ضاقت بها بلاد الدنيا “كرنفال المدينة، سباق الحمير، تمثيليات الحرفيين، مسرح الكراكيز” (ص206). لقد وشم الوجود علامة الاختلاف في جسدها، فاختارت خنيفرة مستقرا لنفسها العاشقة للفن والحلم والحياة، لانها مدينة الهامش التي تحتضن المختلف والمهمش والمقصي والمنسي “لن تضيق بك حواشي القلب ولن ادع قصصك تختنق في جيوبك…” (ص224).

العصا: الرغبة المنفلتة بين أصابع اللغة

بين الأعمى والعصا/العشيقة علاقة أوديبية (ص 106) تذكرنا بالعشق الممنوع، المتأرجح بين الرغبة والمنع، بين استيهامات الطفل المخصية و انسحاب جسد الأم تحت وطأة النسيان الذي رسمته ميتافيزيقا الحضور في ذاكرة الطفل وتحولها إلى مفعول للنظام الرمزي و لإنجاب العنف الذكوري الذي تجسده شخصية الجلاد (ص24). ككائن تراجيدي، يستبطن الأعمى المرأة في جوارحه (ص25)، لكن الأخيرة أحرقت أصابعه، وفي ذلك إنكار للرغبة في منفضة الواقع، بل ونسيان وطرد لها من دائرة المتمثل لواقع الرغبة.

ترمز العصا السحرية للفالوس بحيث أنها تؤشر على مدلولات متعددة: فهي من جهة رمز للامتلاء النرجسي (ص33)، وتجسيد للموضوع الانثوي في مملكة السيطرة الذكورية، فالاعمى بامتلاكه للعصا يمتلك اللذة الايروسية ويستبد بجسد المرأة، و هي من جهة ثانية ترمز لامتلاك السلطة، إذ تتماهى مع العنف الرمزي، وامتلاكها يعني السيطرة: “سأصير الآمرة الناهية في مملكة الخوف” (ص26). امتلاك العصا/الفالوس[5] هو تطويع للذة ” بإشارة من أنامله كنت أتراقص” (عصا المايسترو ص27) واستئثار بالسلطة وتثبيت للسيطرة الذكورية.

لا مجال في هذا الإطار لميتافيزيقا للشيء في ذاته، للنومينات، بل للشيء كما يظهر داخل وظيفته الانسانية، للفينومينات. ففي البدء كانت الكلمة/ الاسم، إسم الأب كمؤشر على الانغماس في المجتمع والخضوع لقواعده، فالأعمى هو الطابع الرمزي الذي يمنح للعصا/العشيقة إسما تحت سقف النظام الرمزي “وهبتها إسما/سقفا”، فالعصا تمتلك هويتها من الوظيفة الاجتماعية التي أنيطت بها، علما أن هذه الهوية ليست ثابتة فقد تتحول إلى أداة للاستبداد، كما قد تتحول إلى أداة للغنج والدلال بيد الراقصة….

رمزية العصا لا تمتد في تربة دلالية صلبة، ولاتستند الى جذور انثروبولوجية قوية، ولا تغطي معاني سيكولوجية نهائية، فهي تحيل إلى الفالوس أو القضيب الرمزي بدلالاتها اللامتناهية باقترانها بالحكي وانفتاحها الى عوالمم الحلم والرغبة والخيال، فهي تتماهي مع الجسد الانثوي الفاتن وتتطابق مع سلطة الذكر واستبداد الزعيم وسخرية الفكاهي ومعجزة النبي وورع الزهاد وشطحات الدراويش (ص48).. العصا رمز ميثو-خيالي (اقترانها بالجنون و الأفعى وماتحيل اليه من عوالم تخييلية)  وعلامة انثروبولوجية (العصا اداة للعنف للهيمنة والحكم) و اثر ايروسي (العصا والانثى).

في الرواية صراع بين تمثل الاعمى الذي يحتفظ للعصا ببعدها الوظيفي و رغبة الامبراطور الفارسي الذي شاء تغليب دلالتها الميثولوجية. على غرار نيرفال فيVoyage en orient  الذي استدعى ثقافته الشرقية لتعويض النقص الحاد في معرفته الخاصة، يفضي بنا فصل المقال ما بين الاعمى والعصا من اتصال إلى اعتبار سفر الاعمى الى الشرق (ص50) بمثابة انتقال من عالم التمثل العقلاني الى عالم الرغبة الهرمسي بتجربتها الصوفية وعمقها الزرادشتي، هو احياء للزمن الميثيولوجي لقارة اللاوعي. يتحقق كائن العبور بمجاورته الغرابة في كل ابعادها الجغرافية والثقافية، إذ يصادف رجلا غريبا في الفيافي ويغوص في أسرار المغارة، اليس الغريب كناية عن الآخر الذي يسكن الاعمى على نحو غريب؟ أليس عبور المغارة دليلا على الرغبة في اقتحام منعرجات اللاشعور؟ هو عبور من الغرب بعقلانيته الى الشرق بألغازه، تبرم من جفاف طقوسية الفقه وشوق لشطحات الدروشة (ص52)، ذلك الطقس الباطني الذي يشترط تعويض جمود الكلمة بثورة الترانيم الشعرية كشرط للمصالحة مع غرابتنا الذاتية.

انقياد الأعمى لميولات العصا/الرغبة المثيرة للغريزة فيه تفجير للمكبوت الجنسي وإقرار  بمطالب الجسد، وهي خطاطة سيكو لغوية تمكن من تدنيس السجل الرمزي وتسمح باختراق عوالم اللذة الجنسية والانتشاء الايروسي من خلال توظيف قاموس لغوي مستوحى من سجل الايحاءات الجنسية “تأوهات-مناديل-ورقية-الإثارة-اهتزاز -صوت أجش-الحفاضة-المحارم” (ص114)، “طقس جنسي فاضح” (ص158)، “نحدق في مؤخراتهن المكتنزة وهن منهمكات في تنظيف الملابس” (ص159).

المكان في مختبر الرغبة

المحطة “كراج بكوش” منعطف يربط بين النحن و العابرون، الاهل والغرباء، المدينة والاماكن الاخرى، هي فلتة من فلتات المكان، خيط تائه من خيوط النسيج الاجتماعي، تفضح زيف الممارسات الاجتماعية بوضع الانا أمام محك الاخر، المحطة موقع بيونفسي يسمح بإعادة هيكلة النسق السلطوي للحواس وفق هرمية جديدة يشيد الأعمى أسسها: الشم ثم السمع ثم اللمس ثم العين “استنشاق أريج الرغبة” (ص36)، هي موقع بيو-اجتماعي يخضع العقل لمختبر الرغبة، ويصالح الذات مع طقس الدوافع و وكيمياء اللذة بعيدا عن رقابة القانون.

رحلة الأعمى هي تنسيق رفيع بين طوبوغرافيا الخارج “موقع الذات في خريطة العالم “و استرونوميا الباطن” تحديد معالم نجم السماء طريقا داخليا … النجوم الوهاجة… اشكال هندسية وهاجة” (رؤيا ص54). ولكي تأخذ الرحلة أبعادها الحدودية اللامكانية والعبورية اللازمانية لابد لها من ان تقوم لسنيا على تكسير العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول وتلبيس العبارة الكثافة والتحويل كاليتين نفسيتين مؤسستين لبنية الدلالة اللاشعورية.  فبنية واقع الاعمى تتصدع تحت ثقل كثافة الخيال، وهو مؤشر على تجربة كائن حدودي ينسلخ من رتابة الواقع لينغمس في دينامية وحيوية الخيال.

العصا — عصا موسى تحيل على بعد الخيال

العصا— عصا الاعمى تشير الى بعد الواقع

الحانة موقع حدودي بين الواقع والخيال، القانون والانتشاء، القاعدة والرغبة، فحالة السكر، كبلسم سيكولوجي لجراح الروح، تسمح بالانفصال الهذياني عن عالم القانون و الانصات العميق لصوت الرغبة الذي يتماهى مع لغة الموسيقى المغربية الاصيلة والعبور الخيالي “السفينة” نحو استرجاع ليون الافريقي أو ذاتنا الاخرى التي اغتربت عنا.

تتقاطع في معلم رغبة الاعمى ثلاثة مستويات وجودية تنكشف معها خصوبة الخيال و هشاشة إحدثيات الوعي الشفاف وتفكك بنى الازمنة والامكنة وانشطار هوية الراوي وانصهار الحيواني والانساني والنباتي في تجربة العمى :  المستوى الانثروبومورفي الذي يتجسد في القط “بلوتو” (ص74)، المستوى البينذاتي الذي يتمظهر في المرأة الضريرة والنادل والسكارى ومستوى الرغبة الذي تشكل العصا امتدادا له. تجتمع المستويات الثلاثة في الحانة كموقع حدودي بين الحقيقة والخيال، اللوغوس والميثوس، الواقع والحلم. وإذا كانت الفضاءات التي تحتضن هذه المستويات مواقعا حدودية فإن اندغامها بالعمى كتجربة وجودية تسمح بانجاز مشروع اختراق الحدود بين الانسان (الاعمى) والانسان (المرأة الضريرة) (ص44)، بين الذات الانسانية (الاعمى) والكيان الحيواني (القط)، بين الانسان (الاعمى) وامتداداته الطبيعية (العصا)، بين مكان الحاجة/الهجرة (الرباط) وموطن الرغبة/ الذاكرة (خنيفرة).

 وبما أن قدر حركة الاعمى أن تقترن بمنعطفات، فإن نقطة العودة ستنطلق من منعطف “محطة القامرة”  لتشهد جدالا حول تجربة الحواس بين السائق و الاعمى “ربما لا ترى ولكنك تسمع”، على إيقاع آلة الوتار بين الجبال “خنيفرة ماننساك حتى نموت حداك”. الوتار علامة على استئثار اللمس والسمع بسلطة الحواس، واحتجاج ضد سلطة المركز و عود أبدي الى الهامش، و انهيار زيف الفولكلور امام اصالة سلطة السمع على الرؤية، و اغنية رويشة “خنيفرة ما نخطاك” قطعة فنية تقترن بالسفر أو بالعودة الى الذاكرة عبر جبال الاطلس كحامل جغرافي للذاكرة (ص82). وليس صدفة أن تحضر تجربة الموت في الاغنية وحوار السائق والاعمى، مع ما رافق ذلك من استشكال للموت ليس كنهاية طبيعية للحياة بل كاغتيال مأساوي للوجود الانساني في تجربة تنقل مواطن المغرب غير النافع “اننا مسافرون على متن تابوت” وليس على متن حافلة” من جهة، واختيار وجودي في تجربة الفن والجمال والعشق من جهة اخرى.

يتشضى المعنى تحت وقع كثافة الامكنة (بام، حمرية، الروضة، ازلو، ديور الشيوخ، تعلالين، اساكا، بويفولوسن) وسديميتها في الرواية، بحيث تتحول سيولة المكان الى مقلب سيمولاكري يخاتل العبارة و يتلاعب بقدسية المعنى ويفتض بكارة الفهم. تقود العشيقة/ الماكرة في حركة تقهقرية الاعمى من عتبة الرغبة (العشق) الى واقع القانون (باب المسجد “مسجد التوبة”) (ص87) بعد ان كان ضحية استيهاماته الايروسية (ص89)، أي من مدنس الاستيهامات الى مقدس العقل. وستتلقى مغامرة الرغبة في تجلياتها الشمية التي يكثف حضورها “عطر المرأة” وتمظهراتها الجنسية التي تترجم الشعور ب”العطش الشديد” ضربة موجعة وهي تداس تحت اقدام العقل الجمعي الاخلاقي، بل وستنتهي  مخاطرتها بتحولها الى مسخرة من طرف سلطة المنع أو شرطة الاخلاق / أصحاب الحال التي تنتصر للفصل القانوني بين الموقع الاجتماعي “التسول” والرغبة.

في جغرافيا حواس الاعمى، يحتكر الشم واللمس (ص118) بناء المعنى الذي تتشكل عناصره داخل أمكنة العبور: المحطة (بين الحكي والذاكرة) “قرب محطة المسافرين، لا يتورعون عن الاستخفاف كل مساء، برجل ضرير… ويرغمونه أن يحكي لهم” (ص38)، المقاطعة الأمنية (بين حلم الحرية و استبداد السلطة القمعية) والحانة (بين القانون واللذة). والادهى أنه في خضم جيومورفولوجيا حاسة الشم تنتصر رائحة الجسد الانثوي (الرغبة الايروسية) على رائحة الخمر (الرغبة…)، كما انه في سياق عطالة حاسة البصر ينتج خبث الدلالة الذي اسقط الاعمى في ورطة الممنوع أخلاقيا والتي لن يخرجه منها “انعتاق” سوى إهداء المذكرات التي وثقت لميكروفيزيائية السلطة في لحظة حوار مع طبوغرافية الحواس (ص94).

إن كان للمكان أن يتحدث، فخنيفرة “الحفرة” أجدر بشرف تدوين التاريخ لأنها شامخة بتاريخها المجيد الذي تحتفظ ذاكرة المدينة بشذرات من بطولاته الاسطورية، والتي تشهد على طبيعة انسان الاطلس الذي لا يقبل الظلم ابدا. لكن هذا الزمن البطولي تكالبت على حاضره قوى محلية انحازت للتسوية المجانية مع الاستعمار ومع المخزن فيما بعد وفضلت مسخ هوية المدينة وتحويل ذاكرتها الى اشباح بلا حياة.  ولان تقديم التاريخ لابد أن يبتعد عن كل رؤية تقديسية لاحداث الماضي، فان الراوي اجترح رؤية نقدية عملت على تشريح بنية النظام القايدي الذي طبع أجيالا بفضاعته وقساوته، وتركيب بروفايل سيكولوجي لشخصية القائد المزاجية التي تشهد على جرائمها القصبة والنهر (ص131) والبيوت القرمدية (ص202).

تقترن ذاكرة الرواية بسلسلة طويلة من الأحداث الدامية والانتفاضات المجيدة التي تشهد على عنف السلطة خلال مرحلة الستينات والسبعينات “احداث مارس 73” (ص134) والتي ارتبطت بمناطق محددة: خنيفرة، مولاي بوعزة، ايت بوهو، ايت خويا…(ص133) ووقعت على إجهاض أحلام الشباب بسقوط شهداء واعتقالات تعسفية وشتى أصناف التعذيب في المعتقلات السرية… لكن الرواية تتغيى وسم ملحمة خنيفرة التي دونت بالدماء، بالأثر الذي يحمل بين ثناياه جدلية الغياب والحضور، فالفعل التاريخي لاينمحي ابدا بل يضل راسخا في جسد المكان (جبل باموسى، جبل بوازال، ام الربيع) و يتم تاجيله من خلال ربطه حكائيا بجسر الحلقة كموقع حدودي بين الخيال والواقع، الحلم والحقيقة، الحلقة التي تستطيع توظيف سحر الكلمة في لعبة السرد و تفجير عبوة الذاكرة الناسفة بسلاح السخرية (ص135).

الكتابة بالجسد

الحكي آخر قلاع المقاومة في التجربة الانسانية للاعمى، فهو عزم على هجر  البناءات الاجتماعية للواقع وتعليق للحكم الحسي الذي راكمته ديكتاتورية العين و إصرار على العودة الى عالم المعيش كتجربة أولى للفهم. الحكي في الرواية عقار تخييلي مضاد للتعرية السيميائية التي خلفها تقويض التراث المحلي بفعل التقنية “عربة الكوتشي…سيارة أجرة صغيرة” (ص210)  و انسحاب جمالية المكان أمام زحف الاسمنت “زحف الاسمنت مسح كل ذرة جمال…” (في مدينة المجاز ص199) “دار العسكري تحولت لرومبوان…هري عمو اختفت ملامحه” (ص208) “تحول السوق القديم لعمارات دكت للابد حكايات المداح…” (ص209)، وعتمة المكان “هذه المدينة مقطوعة الرجاء” (ص227)، هو تمرين سيكولوجي ضد هشاشة الخيال و تآكل الواقع الذي أصبح مفعولا للصورة البصرية، فهو بقدر ما يستثير الداوفع الجنسية، بقدر ما يشحذ يقضة حاسة السمع و يبوئها مرتبة الحارس الأمين لامبراطورية الخيال. وإذا كانت بين السمع والحكاية علاقة جوانية/كيميائية، فإن مجتمع الفرجة كسرها و منح الصورة سلطة ثيوقراطية أرغمت باقي الحواس على التعبد في محرابها الافتراضي، وقضت بمحاكمة صورية لنظام التخييل وادواته من بناء واستعارة وتحليل وتفكيك وتركيب ومقارنة، وفتحت البشرية على “أمراض جديدة للروح”.

جدلية الحدود جلية في سلطة التناص او التفاعل النصي بين كودات مستعارة من سجلات رمزية مختلفة (زري غند ادزريخ tu passses ou je passe ) (ص150).  فرواية الاعمى، كتحويل وتشابك دلالي بين نصوص او كودات مختلفة، وظفت هذا التفاعل والتمازج بين النصوص الميثولوجية و السياسية و الدينية. فعالم الاعمى هو تجربة تناصية تمزج بين كودات مختلفة تترجم التداخل بين الواقع والخيال، الخارج والباطن، التاريخ والاسطورة، القانون والرغبة:

  • الكود الثقافي: يتجلى في استثمار مقاطع من قصائد أمازيغية التي وثقت المذكرات طبيعتها الشعرية والجمالية، فهي مسكن وجود الانسان الامازيغي ومنبع التعبير عن كينونته، لكن بما انها اقترنت بالحياة و الحب والمقاومة فقد طالها التهميش والنسيان.

أَيْمانُو أَمِدَّن مَاني غَر إِيدّا وْسْمُون- أَيْمانُو هَاتِين نَعْما—

أَيْمانُو أَوْن إِغْزان إِصنّال – أوا ربي إيكْ أَنْسا إِ ربعا —

أَيْمانُو أوا أدِيليخ يِلي وسمون- أَيْمانُو أوا دِيمازان سِين أسْلاّنْ (ضد النسيان ص212-213)

  • الكود الغنائي: يحضر مع محمد رويشة، مغني عروب، موحا والحسين، استيتو، الغازي بناصر، نعينيعة، تافولوست، شريفة، الحياني، فويتح… بين زيف الاغنية الصاخبة ومصير الاغنية الهادئة والرقص الجميل الحاملين لكينونة الذات وقلق الوجود.

  • الكود الميثولوجي يحيل الى شخصية عبد القادر الجيلاني ويفجر بنية التاريخ ليسمح بولوج عناصر الاسطورة.

  • الكود الديني مع اهل الكهف كمؤشر على انفصال الداخل عن الخارج، وانتصار للازمنية اللاشعور على زمنية الواقع. وكذلك مع جب يوسف الملقى به في باطن الارض، وهو انفصال عن عالم الاب ومخاطرة بالعودة الى السجل ماقبل الرمزي، والى زمنية الانصهار الفردوسي مع صورة الام المحرمة اجتماعيا والمتجسدة في رغبة العشيقة (موت كاذب ص57).

  • الكود السياسي مع استبداد البوليس السري في اقبية التعذيب، يترجم تجربة الفعل السياسي اليساري الذي آل الى كابوس وانتهى إلى مجرد حلم وغبار يكشف عن فشل فضيع للمشروع الديمقراطي، هو انفصال عن حلم الديمقراطية.

الرواية حابلة بتيمة العبور الزمني والجنسي والجغرافي والثقافي والديني، فجسد العشيقة هو واقعة جنسانية تخضع لرغبة العبور نحو عالم اللذة، كما لو أن هذا الطقس الايروسي عبارة عن تنقيب وتجريح تاريخي للواقعة التاريخية مع  تاريخانية ابن خلدون و استكشاف طوبوغرافي لاحداثيات الشرق مع هيستوغرافية ماركو بولو و اغتراب ثقافي وديني عن الواقعة الحضارية مع هاجيوغرافية ليون الافريقي (الحسن الوزاني) (ص59).  لكن جذوة الرحيل نحو احلام التغيير سرعان ما تنطفئ لتعلن عن انتصار منطق الدولة (البراغماتية السياسية) على منطق الرغية (اليوتوبيا اليسارية) باجتياح طوفان مسلسل (الانتقال الديمقراطي) اللامنتهي للوعي الجماهيري القطيعي “اؤكد لك اننا لم نصل بعد، اليوم لمرتبة اللقالق في اعين جلادينا، لانزال نعيش رعبا يوميا” (ص202).

اندثار كاتب المذكرات خلف بياض الصفحة، مؤشر على موت الراوي “انه شخص ورقي””صمت الاعمى ثم توارى خلف نقطة سوداء” (ص229/230)، واعلان عن اقحام الاخر”القارئ” في تجربة بناء المعنى عبر اعتباطية السرد الذي لايخضع لزمنية الرواية و لا لنسقية الكتابة ولا لنمطية المكان، كما ان حضور الاعمى كمريض في الرواية دليل على الكتابة بالجسد المنكسر الرغبة كمضاد للكتابة البصرية، فالاعمى اسير للعصا/ لسلطة الاستيهامات  يكتب بمنطق الرغبة/الفالوس، ويختار خطواته في سديم المقاهي الشعبية (ص85) التي يستوطنها زبناء يسرحون في احلامهم كانهم خارجون من دياجي بحر الرغبة الى أنوار يابسة القانون في مدينة لاتنام بشوارعها و بأزقتها الساحرة “شارع محمد الخامس، وهران، بئر أنزران” وساحاتها “20 غشت” البهية (ص41).

يشتغل السرد داخل الرواية بلغة الحلم والأسطورة ويتحرر من لغة الوعي المشترك التي أضنتها حراسة الكلمة و عقاب القاعدة.  تترجم العصا الرغبة العارمة في تملك جسد المرأة الفاتنة، لكنها تعكس حدود الحلم والعجز عن اطفاء جذوة الايروس، إذ توجد فجوة نفسية عميقة بين الاعمى والراقصة الفاتنة لا يملؤها سوى صخب الاستعارة و ضجيج المجاز  وقوة الاسطورة.  يصعب تأمين تعاقد رمزي بين الاعمى و العصا/الفالوس، فهذه الاخيرة تشتغل داخل الرواية كدال هارب مفتوح على كل الدلالات، تتراوح هويتها بين السلطة والرغبة، الحضور والغياب، الخضوع والتمرد.

  فلطالما تمردت العصا على صاحبها وعقدت ميثاقا مع المرأة الفاتنة وفي ذلك آية على الفصل القسري بين الرغبة والذات و اعتراف بسطوة التعاقد السوسيو رمزي على الجسد. لكن الفجوة التي يخلفها زلزال الاعتراف الاجتماعي بالذات والتشريح الاخلاقي والسلطوي للجسد سرعان ما سيتم ملؤها بالإعلان عن اختراق جدار الرقابة الاجتماعية وولوج عالم الرغبة المخملية، وسيفضل الاعمى أن يعيش في الواقع بلغة الحلم باستثمار الرموز والنصوص الميثولوجية كتكثيف وتحويل للرغبة الانسانية في تجربة حكائية تكتب بلغة الحلم كدليل على الاسقاط الاستيهامي للرغبة في الواقع المتمنع.

تجربة الابداع عند حميد ركاطة: أو موقعة الكتابة في جسد المعنى

  الاستاذ حميد ركاطة نحات للكلمة في فيزيونوميا الجسد، محترف في اقتفاء أثر المعنى المنشطر وفق متوالية تدليلية الى دوال تولد بدورها معاني متشعبة ومتشابكة تستعصي على الحصر العقلي والضبط الميتافيزيقي. يكتب بلغة الحواس، لغة تنصت لصوت الجسد بحيث يستطيع الناقد تلمس نبضات القلب و حفيف الحواس وضجيج تمرد الاعضاء في معبد العقل. يكتب بدلالة الدرجة الصفر في الكتابة لانه  يؤمن بأن القارئ ينبغي أن يكون منتجا للمعنى،  مساهما في بناء نسق الحكي. بأسلوب شذري ممتع ينقلنا بكيفية متفردة في بنائه الروائي الى عوالم شخوصه التي تشترك في بناء معالم حياة و لغة الهامش.

يسجل تفاصيل المعيش اليومي للغرابة والنبذ والاقصاء بذوق جمالي و أدبي رفيع يجمع بين السخرية السوداء و الادانة القاسية. يحلل بعمق سوسيولوجي متوسلا بأدوات انثروبولوجية منتقاة بعناية التحولات السوسيوثقافية التي طبعت الشخصية المغربية الحديثة وما أفرزته من تداخل قيم التقليد والحداثة. يشخص بحس تحليلنفسي دقيق ملامح البناء النفسي لشخصية الهامش التي أرقها هوس البحث عن الهوية المهدورة في زمن تطلق فيه الصورة صواريخ العلامات العابرة للانساق الرمزية لتستوطن مقامات الرغبة في محراب اللاشعور.

تنعكس الكتابة في الرواية كطبقات جيو-معرفية منصهرة تجمع بين مرجعيات ثقافية متداخلة. ولعل هذه الخلفية النظرية هي التي منحت المبدع ركاطة القدرة على إجراء حفر تاريخي مقترن بتشريح تحليلنفسي للشخوص المؤثثة لفضاءات الرواية التي تشكل الوجه الآخر لغرابتنا الثاوية خلف ستار الوعي الجمعي.  زد على ذلك أن وعي الكاتب بخصوصيات المفهوم المعاصر للذات في حقل الكتابة الفلسفية ومجال الابداع القصصي شكل حافزا قويا له لاستثمار مقاربة بيو-نفسية في استقصاء تجربة العمى كثورة شعرية للحواس في ساحة اللغة، وإجراء قلب للمواقع بين برانية الصورة وجوانية الخيال و تفعيل ثورة أسلوبية للدوافع الايروسية في حقل الابداع الروائي، بحيث يستحيل معه فصل المعنى عن الكود الجنسي والعلامة عن جذرها البيولوجي واللغة عن عمقها الجسدي.

يمكن الاقرار بتحقق هذا الرهان، لان الكاتب عمل على وضع الرواية، كممارسة أدبية، في منعطف الذات والتاريخ، الواقع والاسطورة، القانون والرغبة، و لأنه ترجم العناصر المشكلة للبناء الحكائي كأعراض للتمزق الإيديولوجي للمجتمع وتجسيد لانخراط الواقع اللارمزي في نسيج الكتابة. وإذا كانت الذات في الواقع ضحية الاستلاب اللغوي والحصار التاريخي، فإن رواية “مذكرات أعمى” برهنت، على حد تعبير رولان بارث، على أن الأدب هو الموقع الذي يحبط فيه الاستلاب والحصار، حيث أن الرواية، كممارسة خطابية، حولت تبعية الذات للدال والواقع إلى امتحان لحريته بدلالة الرغبة، و استطاعت بالتالي أن تكشف عن أسئلة حقيقية وعن قضايا أساسية تخص الذات والهوية والكينونة واللغة والمتخيل.

[1] Julia Kristeva, Polylogue, Paris, Ed. Seuil, 1977, p.25.

[2] Paul Ricoeur, Temps et récit III. Le temps raconté, Paris, Seuil, 1991, p.357.

يقول ريكور بهذا الصدد: “لقد اكتسبت الجماعة التاريخية المسماة الشعب اليهودي، هويتها من التلقي من خلال النصوص التي أنتجتها.”

[3] Anne Beyaert-Geslin (dir.), L’image entre sens et signification, Paris, Publications de la Sorbonne, 2007, p.49.

[4] Lacan J., Le séminaire, livre xxi, Les non-dupes errent, leçon du 13 novembre 1973, inédit.

[5]  الفالوس phallus  مصطلح تحليلنفسي يشير إلى الدال الذي يرمز إلى الرغبة أو النقص، كما يدل على الموضوع المفقود في السجل الخيالي كموضوع متماه ومنصهر مع جسد الأم. بالنسبة للاكان، ليس الموضوع المفقود سوى أسطورة متخيلة من أجل تجسيد نقص يفتقد للمرجع.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.