الرئيسية | سرديات | قبعة شتوية تحلم بالمطر | مصطفى النفيسي

قبعة شتوية تحلم بالمطر | مصطفى النفيسي

مصطفى النفيسي ( المغرب):

 

القبعة التي كانت في الدولاب كأرجوحة في بستان مهجور كانت تدعي الرقة والهدوء. لقد مضت أشهر طويلة بشكل بطيء مثلما يمر منشار صدئ في جسد شجرة عجوز:لايهم إن كانت شجرة أرز أو زيزفون، فهي عجوز الآن بجذع بائس بعد أن فقد مفاتن الشباب المحببة لدى الأطفال والسناجب. والآن هاهو المنشار الصدئ يعزف أناشيده الحربية بتلكؤ شديد يشبه عبور سحب متعبة في سماء خريفية.
ظلت القبعة مختبئة – أو ما يفترض أنه اختباء – بدون أن تصدر عنها أية تبرمات أوشكاوى منتظرة المطر سدى، بعد أن تحول إلى ضيف متعجرف بدون معنى كطنين ذباب لم يستسغ نفاذ مداومة الصيف مثلما كانت تنفذ أموال الطفولة التي لم تكن تستقر في جيب كأنها مصابة بلوثة قلق.
القبعة اليتيمة كانت حزينة، بدون حنان، إلا ما كان يتيحه خشب الأرز الذي برع نجار جشع في تليينه بعد أن كان قد فتح بيتا للتو حوله إلى نار مستعرة تريد قضم كل حطب العالم: هو يريد فقط قضم رواتب الآخرين دون أن يعير أي اهتمام لترهات”الأنا الأعلى” التي حرص على تدبيجها العم سيجموند فرويد ذات مطر غزير. لكن السماء أحجمت عن الأمطار، لذلك انتفت أية فرصة أمام القبعة للتخلص من سجن صغير هو مجرد درج في دولاب قديم، والذهاب في نزهة إلى الغابة القريبة، أو إلى مقهى»ناتالي”.المقهى الذي يؤمه كثير من الناس هزمهم الملل فهرولوا إلى لوحاتهم الالكترونية وهواتفهم الذكية يستجدونها هدنة ما. لقد أعيتهم هاته الحروب الداخلية التي يجتازونها: داخل كل نفس بشرية هناك حرب ما. حرب حامية الوطيس تشتد قبل الغروب بقليل أو بعده. القبعة هي الأخرى تبحث عن هدنة ما. تبحث عن رفقة ما. في المقهى سترى قبعات أخرى بألوان مختلفة قد اعتمرتها رؤوس كثيرة بعضها حليق والبعض الآخر نما فيها الشعر حتى أصبح كثا كأجمة صغيرة. ستتبادل كلاما كثيرا مع القبعات الأخريات، ستحكي عن وحدتها، وعن الشجارات التي تتم في المنزل بحيث تكون مضطرة لمتابعتها بشكل حرفي، وعن تذمرات الموظف العجوز الذي أصبح متقاعدا الآن، ومضطرا هو الآخر إلى عدم الاستمتاع بقيلولته، بحيث يبقى مع زوجته مسمرا أمام تلفاز من الطراز القديم يبث طيلة الوقت مسلسلات مكسيكية مدبلجة بشكل ردئ. إنها مجبرة على متابعة الحوار الممل الذي يجري بين بائع السمك وصاحب متجر البقالة. بائع السمك الذي كان يمر باكرا في صباحات يناير الباردة دون مطر، استعصى عليه كساد سلعته بعد أن قاطعه زبناؤه القدماء الذين أبهرتهم أسماك الأسواق الممتازة المنتشرة كغيوم صغيرة في بهو السماء. ستكون القبعة مضطرة أيضا طيلة صباحات بلون الرماد لسماع تذمرات الأطفال وهم يستيقظون بصعوبة كأنهم يفقأون عين إبليس، حالمين بعطل مديدة بعد أن تحولت العطل المدرسية إلى مجرد استراحات محارب. إنها وحيدة الآن في ذلك الدرج الصغير الأشبه بظفر عفريت عملاق تحت رحمة نظرات الجد محمود القابع هو الآخر في ذلك الإطار العاجي كلوحة لفنان مغمور.
القبعة التي أتحدث عنها تفتقد للأصدقاء إلا إذا أسبغنا مجازا على القلادات والجوارب صفة أصدقاء دون اعتبار لخصوصيات الصداقة الأرسطية؛ أقصد صداقة الفضيلة.الصداقة من أجل ذاتها. الصداقة التي تنهي كل الخصومات والأضغان.لكن أية فضيلة سنجد داخل دولاب مصنوع من خشب الأرز؟ وأية خصومات يمكن أن تنشأ مثلا بين الجوارب والقبعات؟
كانت القبعة تفكر وحيدة في القبعات التي استمتعت بجيرتها في منزل المرأة العجوز التي دأبت على سهر الليالي كي تصنع قبعتين شتويتين أو ثلاث تستعين بها على تكاليف البيت الإضافية والطارئة ومصاريف الأحفاد الذين توفي والداهم في حادثة سير في ذلك اليوم الممطر حيث انزلقت بهم السيارة إلى واد سحيق. لكن الأمطار انقطعت الآن. وهاهي الآن مجرد قبعة شتوية حمراء يمكن التخلي عنها بسهولة وهو ما يحزنها بشكل كبير ويجعلها ترتعد من شدة الخوف: من قال أن الأمطار ضرورية فقط للبساتين والحقول؟ أليست الأمطار مهمة أيضا للقبعات الشتوية؟ كم من قبعة مغلوبة على أمرها الآن تعاني الوحدة والإهمال؟
هذا ما كانت تفكر به القبعة الشتوية الحمراء التي كانت تقرفص بدون شأن، وبدون نياشين تضعها على صدرها إلا ما تبقى من رائحة مطر قديم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.