الرئيسية | بالواضح | على خطى السيدة عائشة | رباب كمال

على خطى السيدة عائشة | رباب كمال

رباب كمال

 

كانت هي فتاة  في ريعان الصبا ، و في ريعان الطموح ، لم تشأ أن يرسم لها أحد الطريق ،أرادت أن تمهد طريقها الوعر و تمهده لنفسها و لمن يتبعها في خطاها .

تخرجت من كلية الحقوق و كانت من أوائل دفعتها ، حملت أوراقها إلى مجلس الدولة ذات يوم بعدما قرأت إعلانا في الصحف عن طلب تعيين خريجين جدد  ، راغبة هي  في التعيين ، قانعة بأن  ترى نفسها في يوم ما قاضية على منصة ، قوبل طلب تعيينها بالرفض ، فرفعت قضية لتصرخ في وجه التمييز ، لقد قالوا لها في مجلس الدولة أن المجتمع المصري  لن يقبل تعيين امرأة في مجلس الدولة و أنه لم ُيهيئ بعد لهذه الخطوة ، فكيف لمجلس الدولة الذي يحكم بتشريعات لصالح الدولة و مواطنيها يميز ضد فتاة لمجرد أن جهازها التناسلي مختلف عن الجهاز التناسلي لأعضاء المجلس الموقر ؟ أن تكون متفوقا طموحًا لا يكفي للتعيين في مجلس الدولة ، التعيين يشترط أن يكون صدرك بلا نهدين !

تعود هذه القصة إلى  عام 1949 ، إنها قصة السيدة عائشة …. عائشة راتب، أول امرأة طالبت بحق النساء في التعيين في مجلس الدولة بمصر    ،إنها عائشة  التي لم تدع التمييز الصارخ الذي مورس ضدها يحطم أحلامها في مسيرة نضال المرأة في نيل فرص متكافئة  كمواطن كامل الأهلية ، لا كمواطن ُخلق من ضلع أعوج كما يروجون .

خاضت عائشة  أول معركة قضائية دفاعا عن حق المرأة في الالتحاق بسلك القضاء، و انتهت المعركة بإصدار السيد عبد الرازق  السنهوري  (  1895-1971)رئيس مجلس الدولة في ذلك الوقت، حكما يؤكد فيه عدم وجود مانع دستوري أو شرعي أو قانوني، يحول دون تعيين المرأة في سلك القضاء، ولكن الدولة هي التي تحدد الوقت المناسب الذي تصبح فيه المرأة قاضية.

الدكتورة عائشة راتب ( 1928 – 2013 )

الدكتورة عائشة راتب ( 1928 – 2013 )

السيدة عائشة راتب اتجهت إلى السلك الأكاديمي و منه تقلدت منصب وزيرة الشئون الاجتماعية عام 1974 و أضحت فيما بعد أول سفيرة لمصر في الخارج عام 1977 في الدنمارك و من بعدها ألمانيا الغربية و قالت السيدة عائشة ” لم أكن أول سفيرة لمصر في أوروبا فقد سبقتني إلي هذه الدول حتشبسوت ونفرتيتي ونفرتاري وهن ملكات مصريات معروفات بالاسم في هذه الدول.

منذ عام 1949 و حتى  لحظات كتابة هذه السطور عام 2016 ( أي بعد مرور 67 عاما )  لازال مجلس الدولة قلعة حصينة ضد المرأة ، فالمرأة أصبحت قاضية  و برلمانية و وزيرة و سفيرة و لازال المجلس يرى أن الظروف ليست مواتية بعد لتطأ المرأة بأقدامها أروقته  و كأن المجلس في كوكب ثان و لا يتابع من نافذته ما يجري حوله .

المرأة في السلك القضائي

بعد تسع سنوات من تعيين المرأة المصرية  في القضاء ( تعيين 30 قاضية عام 2007 ) ، لا يوجد الآن  سوى 69 قاضية من بين حوالي 16 ألف قاضي  في مصر أي حوالي أقل من  نصف بالمئة و هي نسبة هزيلة ، و قد أعدت مؤسسة نظرة للدراسات النسوية  في مصر تقريرًا قارنت فيه بين النسب المئوية للنساء في السلك القضائي في العالم العربي واحتلت لبنان فيه الصدارة حيث تشغل النساء حوالي 50 بالمئة من المناصب القضائية و في تونس 30 بالمئة، و الجزائر 39 بالمئة و ليبيا 39 بالمئة و الأردن 17 بالمئة.

التمييز ضد المرأة في القضاء

تم توزيع هذا العدد الضئيل من القاضيات  المصريات   على  المحاكم المدنية و الأسرة و العمال و الضرائب و التعويضات و الجنح و الجنايات و و هن موزعات على أقاليم مصر ، و هناك حتى هذه اللحظة جهات قضائية تمنع المرأة من الالتحاق بها و من أشهرها النيابة العامة و التي أعلنت عام 2010 عن طلب تعيين وضعت فيه جملة ( لا للفتيات )لتكن سبة على جبين الدولة المدنية  ، و تعد النيابة العامة مرحلة أساسية من مراحل تولى المناصب القضائية و هنا يكمن الرفض الشديد و المقاومة لتعيين المرأة في هذه الجهة ، و حتى العام الماضي( 2015 )  نفت الجهات المسئولة تعيين فتيات في النيابة العامة و أكدت ان التعيينات المعلن عنها للنساء كانت في النيابة الادراية .

النيابة العامة ليست وحدها في هذا التمييز ، فمجلس الدولة ينافسها بجدارة ، و   حتى هذه اللحظة يظل المجلس  منزهًا عن تعيين النساء بالرغم أنه هكذا يخالف نص المادة 11 من دستور 2014 و الذي ينص على على حق المرأة فى تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا فى الدولة والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها و التي انضمت لقائمة الحقوق الدستورية مع وقف التنفيذ .

و يبدو أن المجلس لازال متمسكًا حتى اليوم بقرار جمعيته العمومية  بتاريخ  10 فبراير  2010 الذي رفضت فيه الأغلبية الساحقة للمجلس تعيين المرأة مستندة إلى الأعراف و التقاليد ! أي أعراف و تقاليد التي يتحدث عنها مجلس الدولة و كيف لمؤسسة قضائية رفيعة كهذه أن تمارس تمييزًا فجًا و عنصريًا ضد المرأة ، ضاربة بكل النصوص الدستورية  عرض حائط مجلس الدولة نفسه .هل لنا أن نسأل  كيف يمارس المجلس الذي من المفترض أن يحافظ على حقوق المواطنين هذه الفتونة التشريعية ؟!

في ظل هذه الممارسات ، أطل علينا المستشار مجدي العجاتي وزير الدولة للشئون القانونية في مارس 2016  ، ليعد بدخول المرأة إلى النيابة العامة و مجلس الدولة ، و كأن الأمر في حاجة إلى حسبة برمة ، فهل تحتاج الحقوق الأساسية إلى وعود؟

الخاتمة

كنت أعد تقريرًا إذاعيا عن مسيرة المرأة في القضاء ، و يبدو أنه حتى هذه اللحظة لازالت معركة السيدة عائشة راتب دائرة مع مجلس الدولة بالرغم من رحيلها عن عالمنا عام 2013 عن عمر يناهز الـ 85 سنة ، توفيت السفيرة و  الوزيرة دون أن يتحقق حلمها بأن يتم تعيين المرأة في مجلس الدولة  .

بينما كنت أكتب سطور التقرير الإذاعي عن معركة المرأة في القضاء  ،  تفجرت أزمة ارتداء البوركيني في فرنسا ، و لربما أكون من بين هؤلاء الذين يؤيدون حق الاختيار طالما لا يؤذي اختياري الغير و طالما لا يخفي هذا الاختيار شخصية و هوية الفرد،  بالرغم أن الكثير ( بدون تعميم ) من المدافعين عن ارتداء البوركيني في فرنسا لا يؤمنون بحق المرأة في خلع حجابها في البلاد الإسلامية  ، و هم لا يدركون أن الحرية شارع له اتجاهين.

و لابد أن نتساءل كذلك  لماذا فاق  حجم الاهتمام الاعلامي في مصر  بمسألة ارتداء البوركيني في فرنسا …حجم الاهتمام الاعلامي و الرأي العام بمسألة التمييز الواضح الذي طرحناه في هذا المقال و ما تواجهه الفتيات الطموحات المتفوقات أكاديميا في التقدم للتعيين في مجلس الدولة و النيابة العامة .

هنا طرح الإعلام في مصر مسألة التمييز ضد المرأة  في فرنسا ! و كأن كل الحقوق يتم اختزالها في ارتداء المرأة  المسلمة للبوركيني ، لماذا لم يسأل الاعلام المهتم بحقوق المرأة  عن نسبة القاضيات في فرنسا مثلا ؟ لقد تجاوزت النسبة 64 بالمئة ، حسب تقرير جريدة الجارديان و لا توجد جهة قضائية محرمة على النساء هناك كما هو الحال  في مصر .

مازالت معركة عائشة مستمرة ، مع حفظ الألقاب ، فهي كذلك كانت في يوم ما فتاة طموحة متفوقة ، ُأغلق في وجهها أبواب مجلس الدولة ، يا  ُترى كم سنة تضيع ( 67 سنة حتى الآن )  لمجرد نيل حق واحد،  ثم يمنون على المرأة في مكتساباتها و التي هي من  حقوقها الأساسية .

الاعلام الذي تفرغ لمسألة  قهر المرأة في فرنسا  على خلفية قضية البوركيني  ، تناسى تصنيف مصر ضمن أسوأ 10 دول في مجال المساواة بين الجنسين، وهو ما دفع منظمات نسوية للمطالبة بالإسراع في إنشاء مفوضية مناهضة التمييز التي نص عليها الدستور الصادر عام 2014 .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.