الرئيسية | رأي | حمل مريم بنت عمران : معجزة ام فاحشة؟ ~ سعيد طالبي

حمل مريم بنت عمران : معجزة ام فاحشة؟ ~ سعيد طالبي

سعيد طالبي

 

لما كان علم  مقارنة الاديان ، علما يراد من خلاله تقريب المواقف و نبذ العصبيات، و التجرد من الخلفيات و الآراء و التصورات المسبقة عن الآخر . كان من اللازم فتح الملفات المقفلة، و طرق الابواب المؤصدة ، و العمل على فحص النصوص و نقدها ووضعها على محك العلم بموضوعية.

ذلك أن البشرية إخوة جميعا، كلهم من آدم ، لا فرق بينهم و لا تمايز. و على هذا الاساس وجب جمعهم أو لنقل محاولة جمعهم على كلمة سواء في المختلف فيه، بلغ علمية رصينة، و صدر رحب يتقبل المخالف و نفسية هادئة تستعمل الأحسن من اساليب الحوار بدل الحسن.

من أهم و ابرز الموضوعات التي طالما طرحت للنقاش و البحث من طرف الباحثين و المتخصصين في علم مقارنة الاديان، موضوع مريم أم المسيح عيسى عليهما السلام، حتى إن المتفحص للنصوص التوراتية و الانجيلية و القرآنية ، ليلمس اهمية و مكانة هذا الموضوع و مدى خطورته على مستقبل العلاقات بين الاديان ، و مدى تأثيره في نفوس المتدينين عبر العالم.

إذا قمنا بتجاوز موضوعات ولادة مريم و نشأتها و غير ذلك مما يطلق عليه المتخصصون اسم المريمولوجي او اللاهوت المريمي او علم المريميات ،  قلت : اذا  تجاوزنا هاته الموضوعات الى اخطر موضوع في حياة مريم عليها السلام و أعقده و اكثره حضورا في النقاشات بين الاديان إذ يستمد قوة طرحه من أسبقيته المباشرة على ميلاد نبي و رسول له وزنه في التاريخ البشري، و هو المسيح عيسى عليه السلام.

هذا  الموضوع هو المتعلق بحبل مريم، بين من يؤمن إيمانا جازما لا يعكر صفاءه شك بأن ذلك  معجزة من الله سبحانه ، و بين من يرى أن هناك فاحشة قد ارتكبت إذا  نفيت مسألة الزواج.

إذا  نحن اردنا ان نمسك بالموضوع من كافة  أطرافه العلمية، فلا بد أن  نستدعي نصوص الموضوع المبثوثة في الكتب السماوية، التوراة و الانجيل و القرآن .

وبذلك سنبدأ بنص جاء في انجيل يوحنا يقول:

” قال لهم يسوع: لو كنتم اولاد ابراهيم لكنتم تعملون اعمال ابراهيم، و لكنكم الآن  تطلبون ان تقتلوني و أنا انسان قد كلمهم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعلمه ابراهيم، أنتم تعملون اعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد و هو الله”[1]

هذا  الحوار الدائر بين عيسى و بين رهط من بني اسرائيل يدل دلالة قاطعة على ان اتهام هؤلاء لأم عيسى بالزنا و عدم اعترافهم بالمعجزة في ذلك .

وعلى هذا  الاتهام يرد عيسى قائلا: ” لو كان الله أباكم اكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله و أتيت لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني. لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون ان تسمعوا قولي، انتم من اب هو إبليس، و شهوات أبيكم تريدون أن تعملوا”[2]

وهنا نطرح سؤالا على إخوتنا المسيحيين. لماذا لم يدافع عيسى عليه السلام عن شرف والدته و رد على هؤلاء الناس بدلا من ذلك بالحديث عن بنوته لله؟ و هنا لا يمكن ان تكون الاجابة أن اجابة السيد المسيح ببنوته الله تعالى جواب ورد  على أنه ليس ابن زنا! لماذا؟ لأن السياق لا يمجد البنوة إذ هي صفة يدّعيها الطرف الآخر المقابل لعيسى عليه السلام. و هذ  واضح في قوله: “لو كان الله أباكم”.

في نفس السياق يأتي هذا النص ليقول: ” و قالوا- اليهود- أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه و امه، فكيف يقول هذا: اني نزلت من السماء؟ فأجاب يسوع: لا تتذمروا فيما بينكم لا يقدر أحد أن  يقبل إلي إن لم يجتذبه الأب الذي أرسلني و انا أقيمه في اليوم الأخير”[3]

من جديد لماذا المسيح لا يدافع عن شرف أمه – حسب السياق – و يكتفي بنقل الكلام الى موضوع البنوة؟!

النص اعلاه ينسب عيسى عليه السلام الى أب! هذا  الاب هو يوسف النجار، لا يمكن ان يجيب أحدهم فيقول ان الاب هنا لقب احترام! و هذا  لسببين:

الأول: قولهم ” عارفون بابيه و أمه” يمنع ذلك و إلا لأصبحت الأم لقب احترام كذلك! إذن هؤلاء يؤكدون على ارتكاب مريم الفاحشة.

الثاني: إن قلنا انه لقب احترام فقط – و هذا كما قلت ينفيه السياق – فإن العقيدة المسيحية ستنسف من اساسها، إذ البنوة من أركان عقيدتهم.

لا نجد هذا الانتساب في انجيل يوحنا فقط بل نجده ايضا في انجيل لوقا مؤكدا على لسان مريم عليها السلام:

“يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هو ذا أبوك و انا كنا نطلبك معذبين! فقال لهما:  لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلم أنه ينبغي ان اكون في ما لأبي؟ فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما ثم نزل معهما و جاء الى الناصرة و كان خاضعا لهما.”[4]

المتأمل لهذه النصوص يعجب من هذا الغمز لعيسى عليه السلام او بالأحرى لمريم عليها السلام، ولنعزز هذا التصور أكثر بما نقله انجيل متى: ” قالوا اليس هذا ابن النجار؟ أليست امه تدعى مريم و اخوته يعقوب ويوسي و سمعان و يهوذا؟ او ليست أخواته جميعهن عندنا؟” [5]

فبهذا نخلص الى ان موقف اليهود من مريم انها زانية ولا معجزة البتة في حملها. و ما نستشفه كذلك من الأناجيل القانونية – حسب ما وقعت عليه ليدينا – أنها لا تبرأ مريم بقدر ما تعترف ولو بطريقة غير مباشرة بما عليه اليهم. و هذا ليس تقولاً على المسيحيين بل دعوة الى المراجعة و اعادة الفحص و التدقيق.

فنقل ما يقوله اليهود في الانجيل من غير رد يعد تجنيا على مقام مريم. إن نحن وسعنا دائرة البحث و انتقلنا الى بعض نصوص الأبوكريفا، و هي أناجيل غير قانونية او غير معترف بها عند التيار الرسمي او التيارات المسيحية الرسمية، سنجد كلاما آخر عن مريم عليها السلام. يقول عنها: ” هي ممتلئة من حظوة الرب”[6] . ثم يقول : “هناك – اي في الهيكل – في صفاء خادمة الله نهارا و ليلا في اصوام و صلوات فهي سوف تمتنع عن كل ما هو غير طاهر، لن تعرف رجلا. بل وحده بدون مثال، بدون دنس، بدون فساد، بدون اتصال جنسي برجل، هي عذراء سوف تلد ابناً”[7]

هذا النص مقتطف من الكلام الذي توجه به الملاك الى حنة ام مريم بالجبل المقدس.

و تتأكد عفة مريم عليها السلام في الأبوكريفا بقوله:”لآنه باختيارك العفة، انت قد وجدت حظوة لدى الرب، و لذلك انت عذراء، سوف تحبلين بدون خطيئة وتلدين ابناً، هو يكون عظيما”[8]. ثم يستأنف الكلام في موضع آخر ليقول: ” لا تظني يا مريم إنك تحبلين بالطريقالبشرية، لأنه بدون علاقة جنسية برجل. انت عذراء ستحبلين، انتعذراء ستلدين، انت عذراء ترضعين. لأن الروح القدس يحل عليك و قوة العلي تظلك. بدون توقد الشهوة”[9]

الأبوكريفا عموما حاولت تبرأة مريم من الزنا الذي اتهمها به اليهود و الذي لم تحسن الاناجيل القانونية الرد عليه، و لكن بالرغم من هذه المحاولة تظل الأبوكريفا معترفة بزواج مريم بيوسف النجار بعد الولادة.

و بعد ان عرضنا مواقف الديانتين من مريم عليها السلام، و فصلنا في موقف المسيحية من خلال نصوصها القانونية و غير القانونية، ننتقل للتعرف عن موقف القرآن من هذه القضية المهمة.

جاء في القرآن قوله: “ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدّقت بكلمات ربها و كتابه و كانت من القانتين.”[10]

وقال عز وجل: ” ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صدِّيقة”[11]

و قال سبحانه: ” يا اخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا”[12]

هذه النصوص على سبيل التمثيل لا الحصر، حيث إن القرآن يعد السماوي الوحيد الذي اكثر من الدفاع عن مريم عليها السلام ، فالآيات المستشهد بها أعلاه تتضمن عفة السيدة مريم و ايمانها المطلق بما اوحاه اليها ربها. لم يقف القرآن عند تبرأة مريم بل وصفها بالصدِّيقةاشارة الى بشريتها باعتبارها أنها و ابنها كانا يأكلان الطعام . دفاع القرآن على عفة مريم عليها السلام وصل الى تسمية سورة باسمها، و هي السورة الوحيدة في القرآن التي حملت اسم امرأة تكريما و تخليدا لقصتها، و قد تناولت أطوارا من حياة مريم و كذا ميلاد المسيح عيسى عليه السلام، الى جانب مجموعة من القصص المتعلقة بأنبياء و رسل كزكرياء و ابراهيم و يحيى و يعقوب و هارون و موسى…

بعد ان حدد القرآن موقعه من قضية حمل مريم عليها السلام لم يتوقف كما فعلت الأبوكريفا المسيحية، بل بدأ بتقريع من يحمل الضغينة على مريم و ينعتها بما هو معروف و قد ذٌكر.

يقول تعالى: ” و بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما”[13]

الآية في سياق الحديث عن بني اسرائيل و جرائمهم في حق الانبياء و الرسل و جحودهم بآيات الله البينات… ورغم ان الآية تناولت مسائل عظيمة كالكفر و القتل و الخيانة إلا انها لم تغفل موضوع مريم لأهميته كذلك، فردت على هؤلاء بأن ما يقولون انما بهتوا به مريم بهتانا و ظلموها به حقدا وزوراً، بل وصفت الآية هذا البهتان بالعظم لفحش ما أجرموه في حق السيدة مريم عليها السلام.

فضلا عن هذا فان القرآن قد أضاف بعد التبرأة و الدفاع بالرد على الظالمين فعلا آخر ومقاما رفيعا وهو الاصطفاء الإلهي لمريم على نساء العالمين و كرر كلمة الاصطفاء مرتين في نفس الآية دلالة على صفاء سيدتنا مريم و طهارتها و تميزها. فقد قال تعالى: ” و إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين”[14]

ولكي يحسم القرآن مسألة الاستقامة و العفة، نسب مريم الى اسرتها ثم مدح هذه الاسرة الصالحة، و في ذلك اشارة جلية لما تتحلى به هذه الاسرة من فضل وورع وتقوى، يقول سبحانه: ” إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل ابراهيم و آل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم”[15]

ختاما، بعد هذا التحليل المختصر لمسألة حمل مريم عليها السلام يتبين لنا أن اليهود قد اتخذوا من ذلك موقفا معاديا معتبرين إياه فاحشة، في حين ان الاناجيل القانونية ظلت مكتوفة الأيدي، باستثناء الاناجيل الغير القانونية التي حاولت الى حد ما رد التهمة الا انها لم تدافع بل اكتفت بوصفها بما يفيد طهرانيتها و براءتها من الفاحشة.

القرآن جاء مصدقا لما في الأبوكريفا من اوصاف حسنة بالنسبة لمريم كالطهر و الإيمان و خدمة المعبد… إلا أنه اكمل ما لم تكمله المصادر المسيحية غير القانونية، فاثبت بشرية مريم و بشرية ابنها عيسى عليهما السلام، و مدح نسبها و ميزها بالاصطفاء، هذه اضافات نوعية قدمها القرآن الى المسيحيين. أمَّا بالنسبة لليهود فقد كان رده عليهم ببيان ما أراده الظالمون منهم أن يظل مخفيا لعدم رغبتهم الاعتراف بمعجزة الحمل و بنبوة المسيح عيسى رسول الله. لهذا كان القرآن مصدقا لما قبله و مكملا له و منبها مصححا الى ما وقع فيه التحريف او الإخفاء، و مهيمنا عليه.

متخصص في علم الأديان

 

إنجيل يوحنا : الإصحاح :8 : الآيات :41.40.39[1]

 المصدر نفسه: الإصحاح  :8 : الآيات: 45.44.43.42 [2]

 المصدر نفسه: الإصحاح  :6 : الآيات: 45.44.43.42  [3]

 إنجيل يوقا : الإصحاح :2 : الآيات :52.51.50.49.48 [4]

 إنجيل متى : الإصحاح :13 : الآيات: 56.55 [5]

 إنجيل ميلاد مريم : الإصحاح:  4 : الآية 3 [6]

 المصدر نفسه : : الإصحاح:  4 : الآية 5  [7]

 إنجيل ميلاد مريم : الإصحاح:  9: الآيات: 6.5  [8]

المصدر نفسه: الإصحاح:  9: الآية:8 [9]

 سورة التحريم: الآية : 12[10]

 سور المائدة: الآية: 77[11]

 سورة مريم:الآية: 28[12]

سورةالنساء: الآية: 155[13]

 سورة آلعمران: الآية :42[14]

سورة آلعمران: الآية :34 [15]

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.