الرئيسية | بالواضح | القاهرة منورة بأهلها. | محمد رمضان-مصر

القاهرة منورة بأهلها. | محمد رمضان-مصر

محمد رمضان-مصر

 

لم يعد هذا التسكع في طرقات المدينة العتيقة التي قارب عمرها  على الألف وخمسين عاما باعثا على الأمل، فإنذارات 3 مليون سيارة قد تصيبك بالصمم كما أن حالة الوجوم التي تشاهدها على وجوة أهلها قد يصيبك باكتئاب نفسى حاد، في الأربعينات قالوا أن تلك المدينة كوزموبولتانية كما يطلق عليها المثقفون، كان يمكنك أن ترى تفاعلات كبرى بين حضارات وثقافات مختلفة يتعايش كل منها مع الأخر، حتى هذا الوجه الكوزموبوليتانى اختفى أو أنه أخفى تحت قناعات “الأسلمة” و”القومجة ” فيما تلى يوليو 1952، حتى الجزء الأكثر جمالا  فيها في القاهرة الفاطمية أصابه الإحباط .. لم يعد يعبر عن تلك النزعة الحضارية بقدر ما يعبر عن نزعات الدروشة .. على هوامشها تقع الكثير من علب الصفيح التي يطلقون عليها اصطلاحا عشوائيات، نمطا معماريا غريبا، تجده غالبا في دول كثيرة، لكن في القاهرة هو الأسوأ على الاطلاق.. في ميادينها الكبرى  سمحت السلطة فيها لأكثر من مليوني  بائع متجول بالبحث عن لقمة عيش تتقاسمها السلطة معهم في نهاية اليوم  . لم يبقى منها غير تلك المنطقة الثقافوية في ( وسط البلد ) والتي تعج بمقاهي يجلس عليها أبناء الطبقة الوسطى الباحثين عن الثقافة البرجوازية في أبشع صورها والتحرر في أسوأ مظاهرة . تبدو فعلا كئيبة، حتى أنك حينما تسير فيها لترى الحفر التي صنعها الزمن في الأسفلت تقول لنفسك لو أن تلك الحفر اتسعت لتغرق تلك المدينة الصماء وتبدل  عاليها سافلها فهذا سوف يكون خلاصا من جحيم وجودها الإنساني المتسلط الذى يجعلها تلفظ كل ما هو مختلف عنها.  تلك المدينة صارت مألا للموت ومعبرا حقيقيا عن الظلم الاجتماعي الذى يجعل بعض من يعيشون في أحد أحيائها الراقية لا يدركون أن على الجانب الأخر من النيل تقع مساكن الصفيح، أو لعلهم يدركون ذلك، لكنهم يحتقرون تلك العلب لدرجة إقناع وعيهم الداخلي بأنها غير موجودة ..  كانوا يقولون أنها في القدم كانت مقبرة للغزاة، أعتقد أنها اعتادت أن تكون مقبرة حتى أنها لم تعد تفرق بين الغزاة وبين أهلها.

مع إدراكك لتلك الحقيقة المفجعة للمدينة العتيقة لا تكف عن حبها، تماما كما العاهرة القبيحة  الكبيرة السن التي تدرك كل ألاعيب الجنس فيصبح ممارسة الجنس معها ليس بحثا عن المتعة بل بحثا عن دهشة من كل ألعوبة سوف تمارسها عليك، وتماما كما العاهرات القبيحات تحب القاهرة، فأنت تجد نفسك منجذبا نحو وجودها الإنساني باحثا  عن الدهشة  والمتعة في كل ركن فيها حتى ولو كانت تلك الدهشة سوف تصيبك بحزن عميق بعد دقائق قليلة . يتراءى لك منظر المقاهي المكتظة بالبشر كل منهم يبحث عن شيء ما، وما عليك إلا أن تجلس وتراقب القاهرة وهى تحاول أن تمارس الاعيبها السحرية عليهم .

يوسف شاهين يبدو أنه فهمها جيدا في الفيلم التسجيلي (القاهرة منورة بأهلها)، هذا الإسكندرإني الذى أحب باريس وكان عليه ان يجسد القاهرة في أفلامه، تجده يجسد معضلة الجمال الذى مل من ذاته فأعتقد أن القبح جمالا، أعتقد أن هناك مظهرا جماليا في آلاف العمال (الفواعلية) الذين يفترشون الميادين بحثا عن يوم عمل وعشرة أيام بدون عمل، لا يمكن أن يكون البؤس جمالا، البؤس قبيح، لكن يبدو أننا تعودنا على البؤس لدرجة أننا نرى فيه تمظهر للجمال .. او من الممكن أن يكون كذلك. ويبدو أن (هز البطن في كبارية بالميرا) من الممكن أن ينسيك كل هذا البؤس، أو أن كأس خمر في أحد (بارات) وسط البلد قادر على ذلك  أو حتى جلسة (تحشيش) مع أصدقائك قادرة على  ذلك .. أعتقد أن هذا ما يجعل القاهرة فريدة، فهي تمد يدها إليك بالبؤس الذى لا مفر من ان تأخذه من يدها – فلا أحد يرد يد القاهرة – وباليد الأخرى تعطيك المسكن كي تتناسى هذا البؤس، ويبدو تأثير الألف مئذنة حينئذ لا يقارن بتأثير كاس (براندى) في أحد باراتها.
كثيرون من الكتاب كتبوا عنها، وكثير من الأفلام عن تلك المدينة، عادة ما يكون رأيهم أنها كانت جميلة في الماضي لكن التحولات الاجتماعية هي ما جعلتها كذلك، لا أعتقد في هذا كله، بل أعتقد أنها منذ لحظة التأسيس كانت كذلك، عاهرة قبيحة قادرة على أن تمارس عليك الاعيبها لتجعلك تقع في غرامها رغم أنك تعرف أنه من سابع المستحيلات أن تحبك تلك العاهرة، أو أنها كما عبر ( يوسف إدريس ) عنها بأنها مثل” النداهة”، لقد كانت دائما “نداهة ” لكن يبدو أن صوتها في الماضي كان جميلا ووقع لحنها جيدا، أو أن الجنازة كانت بمظاهر ارستقراطية قادرة على أن تعطيك بهجة واحتراما خاصا لتلك المدينة التي تحتضر منذ ولادتها .

نيرون استطاع أن يحرق روما، لكنني أراهن أنه لو كان حيا ما تجرأ على أن يحرق القاهرة، فالعذاب المقيم التي تذيقه المدينة لأهلها سوف يجعل هذا السادي يتلذذ ويؤجل الحريق لوقت آخر، ومع ذلك لا أحد يستطيع أن يقول أنها سادية، قبيحة كما العاهرات. فهى بالنسبة لمن لا يسكنونها جميلة وحلم الذهاب إليها يراوض خيالات الجميع، وبالنسبة لمن يسكنوها جميلة أيضا لكنها ليست لنا، هى للأغنياء الذين استطاعوا الهروب على أطرافها ليبنوا ” كومبدوندات ” تحيطها أسوار حتى يمنعوا بؤس المدينة العتيقة من التغلغل إلى داخل حياتهم .. يمكن أن يكون الحل في أن نقطع أوصال تلك المدينة، لكنها بلا أوصال .هي كتلة مصمتة من البؤس الذى يجعلك تسمتع وهى تذيقك كل عذاباتها، لا أحد يقدر على ان يكرهها بالرغم من قبحها، الكل يمدح فيها ويسوق في ذلك مبررات كثيرة، لا تعرف هل هذا المدح هو من قبيل الحب أم من قبيل الخوف .

تعليق واحد

  1. القاهرة مدينة عظيمة رغم ضربات الزمن عليها من كل صوب وحدب. لازلت أتذكرها وأشتاق إليها وأكيد سأزورها مرة ثانية، وربما ثالثة، فرابعة.. إنها مصر خان الخليلي، والعابدين والجيزة، والأهرامات الشامخة، والكبري، وجامعة القاهرة.. وميريلاند.. و.. إنها باختصار مصر “أولاد حارتنا”، و”زقاق المدق”، و”الكرنك” وروايات أخرى من صميم المجتمع المصري. لقد وحشتني مصر وأهلها الطيبين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.