الرئيسية | سرديات | العُيُونُ الغَائِرَةُ تَأبَى الارْتِواء مَشَاهِدٌ فِي دِيوَان الإمَارَاتِيَّةِ خُلُود المعلا | د.بليغ حمدي – مصر

العُيُونُ الغَائِرَةُ تَأبَى الارْتِواء مَشَاهِدٌ فِي دِيوَان الإمَارَاتِيَّةِ خُلُود المعلا | د.بليغ حمدي – مصر

د. بليغ حمدي إسماعيل – جامعة المنيا

 

هناك قاعدة نقدية تفيد أن التحول الأساسي في الشعر العربي المعاصر يشير عادة إلى ما يسمى بالحساسية اللغوية الجديدة ، أو ما يعرف بالحداثة ، وهذه الحداثة هي التي قامت بفصل عالم النص الشعري عن مرجعية عالم الواقع الفيزيقي والاجتماعي المحيط ، بحيث إننا لا نستطيع أن ندعي بأن الشاعر يريد كذا أو يقصد كذا ، كما أن النقد المعاصر دائماً ما يؤكد أن شعراء الحداثة الشعرية بعيدون كمال البعد فيما يسطرونه من كلمات عن صور وتشكيلات الواقع الفعلي.

من ناحية أخرى فإن شعراء الحداثة الشعرية يقيمون عالماً افتراضياً موازياً لعالم الواقع ، وربما ينفصلون عنه انفصالاً تاماً من حيث مواد وأدوات التشكيل ، ومن حيث الاستهداف ، وإذا كان هذا الانفصال غير المبرر بين العالمين ” عالم النص ” و ” عالم الواقع ” كانا يتعانقان منذ المحاولات الأولى لشعر الحداثة ، فإن خلود المعلا في ديوانها ” دون أن أرتوي ” الصادر عن سلسلة كتاب مجلة دبي الثقافية العدد السادس والخمسين تحاول جاهدة قطع حالة الانفصال تلك ، بل وتبدو خطوط الاتصال بين العالمين واضحة لا مجال للشك فيها .

والديوان في مجمله حالة استثنائية رغم إعلان صاحبته أنها شاعرة غير استثنائية ، وهذه الاستثنائية تبدو من خلال تعدد الأصوات والحالات في قصائد الديوان ، وهو ما نحاول الكشف عنه بإيجاز لضيق المساحة والمقام دون رصد العلاقة بين الشاعرة والنص ، إنما الإشارة السريعة إلى العلاقة بين النص ذاته وبين مجتمعه .

فالنص نفسه ” دون أن أرتوي ” يتداخل فيه صوتان رئيسان هما صوت الحضور الجسدي ، وصوت الحضور الأنثوي البارز في قصائد الديوان ، وهذان الصوتان يقيمان علاقة فريدة ومميزة ؛ وهي علاقة التوازي والتحاور في آن واحد ، مثلهما مثل الجوقة والممثلين في عالم النص الشعري المسرحي اليوناني ، حيث تصف الجوقة ما لا يمكن إظهاره بالأداء التمثيلي . وما ينبغي أن نلفات إليه النظر هو أن الحضور الجسدي في النص وظف في أكثر من وظيفة ووضع في أكثر من موضع ، لأنه باختصار ـ الحضور الجسدي ـ قام بأكثر من دور وكل دور تضمن دلالة متعددة ، اختلفت عن سابقتها في شعر الحداثة النسائي الذي كان يصر على جعل الحضور الجسدي للمرأة ظلاً غير واضح المعالم والتشكيل.

لكن الحضور الجسدي عند خلود المعلا في ديوانها ” دون أن أرتوي ” يتجلى لغوياً ، وهي في ذلك تسعى خلود المعلا إلى تكريس وتحقيق رؤيتها للعالم والمجتمع ، وهذا الحضور يمكن رصده من خلال الإشارات الشعرية التالية:

( أنعم في التمدد / عارية من إصاباتي القديمة / أحرك جسداً في الخفاء / فأجدني خارج المكان / توجع القلب / لأنام طويلاً /أستلقي وحيدة / وهذا الجسد ما زال بارداً / لن أتمدد على فراش / أتكور في سريري / أنكمش في قميصي الليلي / أمرن حنجرتي على الصراخ / يصير الجسد نجمة/ يليق بجسدي أن ينام مستسلماً لخواء الحواس ) .

وفكرة الإمساك بشبكة من الكلمات المرتبطة بفعل الجسد وحركته تعتبر نقطة انطلاق لدلالة النص الشعري عند خلود المعلا، فدائما تظهر حركة الجسد الذي يأبى السكون ، لذا فنجد صوت الفعل المضارع بازغاً وواضحاً عندما يقترن بالجسد ، بالإضافة إلى أن حضور الفعل المضارع المقترن بحركة الجسد تغلب عليه صيغة المتكلم وهو الملمح الذي غلب على سياق النص اللغوي في نصفه الأول :

(أغمض / أتكور / أنكمش / أنهض / أخرج / أتوسد / أنكشف / أتفتح / أغسل / أنام / أنتشي / أتلعثم / أركض / أتزين / أنهض / ) .

 إذا يمكننا رصد حالة الجسد في نص خلود المعلا الشعري بأنه يثور دائماً وأنه رفيق اللحظة الآنية لواقعه الحالي لا يجتر ذكريات فائته إلا ليؤكد حالات شديدة الحضور الوقتي وهذه الثنائية لا تمثل ضدية أو نوعاً من التعارض ، وهذه الثنائية تمثلها قصيدة ” أرق ” :

( وحين أدركت المعنى

تحررت

 مارست طقوسي بانعتاق

انطلقت نحو ذاكرتي

بذراعين مفتوحتين

تيقنت أن الصدق وريد المحبة

وأن بمن هم مثلي

يتحقق الكمال ) .

وكما كان للفعل الماضي حضور ، فإن له حضور مماثل لحضور الحدث المضارع الذي يشكل فعل الحركة والاستمرار دون تعقيد أو تركيب لغوي يثير الغموض كما في باقي شعر الحداثة ، وهذان الحضوران يتطلبان متابعة مستمرة لإدراك فعل الجسد الذي يمكن القارئ من فهم وتأويل النص الشعري :

(حاولت أن أحمي مخيلتي

فتحت النوافذ

الكون بدا محيطاً من أرق

ودون أن أنتبه

بدأت أنبش تفاصيلي بحدة

أرسم أسئلة على شكل بيوت).

وهي بذلك تحاول أن تكسر الصورة الصريحة الكلاسيكية في استخدام الفعل الماضي المرتبط بالجسد والذي يشير إلى حالة ومقام السكون ، وذلك عن طريق تزاوج الكلمة الماضية بمفردة مستمرة نشطة : ( حاولت أحمي / بدأت أنبش / أرسم ) .

ومثلما كان صوت الحضور الجسدي ، وحضور التزاوج بين استخدام الفعل في صيغتيه الماضي والحاضر أكثر تميزاً ووضوحاً في نص الشاعرة خلود المعلا ، فإن الصوت الأنثوي أو ما يعرف بالحضور الأنثوي كان على مقربة من هذا الحضور السابق ، فالنص لا يقدم شخصاً غائباً نتلمس أصداءه من مفردات ذات خصوصية ، تتصف بالسرد الرتيب والذي يقمع بدوره كل محاولة لظهور الذات أو إحدى صوره.

ولكن يبدو الحضور الأنثوي في النص واضحاً ومجسداً لمراحل التطور السردي غير الرتيب والذي أصبح ـ السرد ـ ملمحاً رئيساً لقصيدة النثر المعاصرة ، وعادة ما تحاول الشاعرة ـ أية شاعرة ـ أن تعيد صياغة الشكل الهرمي لعلاقة المرأة بمجتمعها وغالباً ما تكون صورة هذه العلاقة مستترة غير واضحة مستخدمة فيها لسان امرأة أخرى غير لسان الشاعرة نفسها، بل لعل النصوص الشعرية النسائية المعاصرة تتستر خلف أقنعة وهي تحارب المد الذكوري في المجتمع ، أما النص الشعري عند خلود المعلا فهو ليس في حرب شرسة مع هذه الذكورية الطاغية والتي تمارس قمعاً ثقافياً داخل النص ، ويبرهن على ذلك حرص الشاعرة على وجود صيغة المتكلم بشكل صريح ، مع قوة الكلمات التي تفيد محو التبعية وحالة القمعية تلك :

( هكذا حرة تماما/ أجتاز الحدود التي يرتبها الآخرون / أتحرر من محارتي / سأخرج من هذا العالم بجناحين شفيفين / أحب الأشياء التي أبتدع أسماءها لأنها تشبهني ) . وهذا الحضور أيضاً يظهر في اختيارعناوين القصائد نفسها والتي تؤكد تحقق الذات الأنثوية بلا منازع أي بلا غياب لتلك الذات فنجد قصائد تحمل أسماء مثل : (حرة تماما / مسيرتي الجديدة / محبتي دائماً / هزيمة تليق بقلبي / لا يسمعني أحد / البيت كما عاهدناه / وهكذا افترقنا / كل عام وأنا / حين أقرر النهاية / هكذا أحيا أسطورتي / لأنني / مدفوعة بمحبتي ) .

بقي إلى أن نشير إلى الملمح الرئيس في نص الشاعرة خلود المعلا والذي أسهب بعض النقاد في التنويه عنه وربما محاولين رصد هذا الملمح الذي نقصده بالمعجم الصوفي ، وليست الحالة أو المقام . فالنص الشعري يؤكد بطول قصائده المتعددة على استنطاق المفردات اللغوية التي عادة لا تخرج عن المعجم الصوفي ، وهي في استخدامها لهذه المفردات ربما تحاول أن تنأى قليلاً عن المشهد الاجتماعي الذي يبدو واضحا من أول قصائد الديوان وأن الشاعرة ليست بمنأى عن واقعها ومجتمعها ولا ترتدي أقنعة وهمية تواجه به مجتمعها .

ولأن خلود المعلا تملك حضوراً ذاتياً سواء على مستوى الاستخدام الجسدي للمفردات ، أو من حيث حضورها الأنثوي والأفعال التي ترصد حركتها فهي تجنح إلى عالم متصوف يسمح من جديد بإعادة ظهورها بغير تستر أو غياب ، فنجد ألفاظ وعبارات شعرية تعود إلى معجمعها الصوفي مثل : ( والزمن سرقك من غرفتي / تطفو الروح / سأرفع أسدال كعبتي / هكذا أكشفني / وهذا الفجر فاتحة أمري / أجمع فضائل الوجود / حاملة مشكاة فيها نوايا سماوية / أصعد إلى السماء أتباهى في صعودي / إنه العدم السرمدي ) .

وهذا ونستطيع أن نجمل قراءتنا غير الاستثنائية لشاعرة تبدو بنصها الشعر استثنائية أنها مهتمة جد الاهتمام بصورة المرأة والإعلان عن بوحها الصامت منذ سنوات ضاربة في الأزل ، وهي تدعي عبر الديوان القيام بدور البطولة متجنبة القمع الذكوري الذي يبدو باهتاً لا نلتمسه إلا في لحيظات شعرية بسيطة وسريعة ، وكأن الشاعرة أرادت أن تهرب بعيداً عن سجن القصيدة النسائية المعاصرة والتي تجعل استهداف القصيدة موجهاً نحو الرجل الذي يقاصمها المجتمع بل يقتنص الجزء الأكبر منه ، كما أن النص الشعري عند خلود المعلا يدعو القارئ دائما لكي يكون واعياً بقيمة الوعي تجاه المفردات التي تشكله ـ النص ـ وأن استخدامها يقيم علاقة متقاربة بين الشاعر والمجتمع بخلاف النصوص المعاصرة التي تفصل عالم النص عن عالم الواقع .

ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.