الرئيسية | فكر ونقد | عن الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة… التسامح، السلام، الكرامة | عبدالرحيم زيكوك

عن الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة… التسامح، السلام، الكرامة | عبدالرحيم زيكوك

عبدالرحيم زيكوك

 

     تعود البدايات الأولى لهذا الطقس الإيجابي، إلى سنة 2002، حينما دعت اليونسكو إلى جعل يوم الخميس الثالث من شهر نونبر من كل سنة يوما للاحتفاء بالفلسفة تكريما لها، وتأكيدا منها على أهمية الفكر النقدي في إدراك تحولات المجتمعات المعاصرة، وتشجيعا لشعوب العالم على تبادل التراث الفلسفي والعمل على تناول مختلف التحديات التي تواجه الإنسان تناولا فلسفيا. خاصة أن اليونسكو تروم من خلال الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة هذه السنة “تعزيز التسامح والسلام”، لكون العالم يعرف ظروفا استثنائية تتميز بالتوتر و الصراع، والعنف المتبادل: العنف والعنف المضاد، كما يتجلى في ظهور حركات متطرفة تهدد وجود الإنسان في أقدس ما يملك: “الحق في الحياة”. كما نلحظ في نفس الاتجاه تنامي الحروب والاغتيالات: اغتيال الإنسان بطرق عدة، تارة بشكل مادي، وتارة بشكل رمزي…

      الفلسفة بكونها بنت زمانها تفكر في قضايا عصرها، وتجعل مركز اهتمامها الإنسان، وذلك ما يبرر قول هيجل “إن الدفاع عن الفلسفة دفاع عن الإنسان”. الدفاع عن الفلسفة نابع من إدراك ذوي العقول السليمة أنها تملك من  التفكير العقلاني والنقدي ما يؤهلها لمعالجة مختلف القضايا التي تقض مضجع هذا الكائن المتميز في سماء الموجودات. الفلسفة هنا كعلاج وشفاء لأسقام الشعوب.

    يمكنني أن أصوغ موضوع هذه الورقة على شكل ثلاثة أسئلة:

1_ما غاية الفلسفة؟ وهل نحن بحاجة إليها؟ 2_ ما واقع الفلسفة في مغربنا؟ 3_ لماذا حوربت عندنا، وعند غيرنا؟

أولا:غاية الفلسفة، وحاجتنا إليها:

   إن سؤال الغاية، سؤال يلازم الانسان باستمرار، والفلسفة بدورها تفكير غائي، لذلك وجب علينا الوقوف عنده، لتبيان حاجتنا إلى الفلسفة، خاصة في الوقت الراهن.

      ولعل أبرز غاية تروم الفلسفة تحقيقها هي تنظيم علاقتنا مع الذات، ومع الغير، ومع الطبيعة.. وذلك عن طريق تربية الانسان على ثقافة الاختلاف و التسامح و السلام. حديثنا هنا عن الإنسان الكوني لتحقيق السلام الدائم بين الأمم كما عبر عن ذلك كانط، كما تروم الفلسفة في نفس الوقت ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان كاحترام حرية و كرامة الأشخاص، و تجاوز العنف وحسن تدبير المشترك، لأن مقتضيات التفكير العقلاني تقتضي السكينة لتعيش الشعوب في ود و اعتراف متبادلين، في وفاق وانسجام وسعادة تامة وليس في توتر وإرهاب …

  كل ذلك، سيمكن الفلسفة من التأسيس لفكر جديد وثقافة جديدة ومجتمع جديد: لبناء وعي مجتمعي جديد قائم على قيم العقلانية والتسامح والتحرر.

        حاجتنا إلى الفلسفة إذن، أضحت ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى، فأمام سيطرة و انتشار الفكر الأحادي الذي يصنع التطرف و الإرهاب، كان لزاما علينا فتح المجال أكثر للتفكير النقدي والعقلاني كآلية تحرر المرء من آفة التقليد والاستقطاب،  وتجعله مسلحا قادرا على  محاربة الأفكار الجاهزة التي تكرس ثقافة الإقصاء بعد أن يخضعها للفحص و النقد أمام محكمة العقل.

ثانيا: واقع الفلسفة في مجتمعنا

    إن الحديث عن واقع الفلسفة بالمغرب، هو حديث ذو شجون، إذ أننا لا نقول أنها في وضع جيد، كما لا نقول أنها في وضع سيئ. فتارة تبدو أنها في مأزق، و تارة أخرى نلحظ عكس ذلك، فحينما ننظر إلى الفكر الفلسفي المغربي الذي أنجب مفكرين و فلاسفة كبار أمثال محمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وعبد السلام بن عبد العالي، وعلي أومليل، و عبد الكبير الخطيبي… لكن هذا كان بالأمس، فما ذا عن اليوم؟ فهل بقيت الفلسفة بالمغرب على توهجها؟ أم أن نورها تعرض للإنطفاء؟

     لمقاربة هذه الأسئلة، سننظر إلى مسار الفلسفة بالمغرب من خلال محطتين أساسيتين:

1_ زمن المنع و التضيق:  كان ذلك في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، حينما حوصرت الفلسفة بدعوى سياسية، وبدعوى أن الدرس الفلسفي يحمل قيما وأفكارا مخالفة لإيديولوجية الدولة؛ إذ يذكي لدى المتعلم روح التمرد…

   في غمرة هذا اللغط، ظهر السياسي المتحكم في التربوي يوجه ضرباته للدرس الفلسفي والتضييق عليه، مخافة أن يكتشف التلميذ إن هو تشبع بالفكر الفلسفي حقيقة السياسي المتمثلة في استغلال الإنسان، وأن همه هو السلطة و ليس خدمة المواطن… هذا الخوف دفع السياسي المتنكر في جلباب الفقيه إلى تأليب العامة ضد الفيلسوف، عن طريق نشر السموم بين مختلف فئات المجتمع، و توجيه تهم مجانية للمشتغل بالفلسفة:  من قبيل كونها مخالفة للدين، وأن من تفلسف تزندق.. ومن تمنطق تهرطق ..  وهذه التهم ليست وليدة تلك المرحلة فقط، بل تعود إلى البدايات الأولى لتعرف المسلمين على الفلسفة اليونانية، وخاصة بعد كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة”؛ وجدير بالذكر أن الغزالي  لا يهمه في ذلك سوى التقرب إلى السلطان وأن يكون ذائع الصيت، وهذا ما صرح به هو نفسه.  مما حذا بابن رشد إلى تفنيد ذلك كما سوف نوضح لاحقا.

2_ زمن الاحتضان: ويعني بداية نهاية الحجب و التضييق على الفلسفة من طرف الدولة. وكان هذا الأمر مرتبطا بالجامعة المغربية إثر فتح شعبة الفلسفة بمراكش، بعد أن اقتصرت على كل من فاس و الرباط فقط. أما على مستوى التعليم الثانوي التأهلي فقد عملت الدولة بعد الأحداث التي عرفتها الدار البيضاء (16 ماي 2003)، اعتماد تدريس الفلسفة بدءا بالجذوع المشتركة لكافة الشعب. وذلك كله لمحاربة التفكير الأحادي بعد أن تبينت _الدولة_ بمعية القوى الحية في المجتمع، أن مغرب المواطنة الذي نراهن عليه لا يمكن أن يتحقق بدون الحق في الفلسفة والتفلسف ودون قيّم التواصل والإيمان بالاختلاف و التسامح، التي هي أس الفلسفة اليوم.

  ورغم كل ذلك، فالفلسفة لازالت في مأزق ووضعها مضطرب وملتبس ، مما يجعل ضرورة العمل أكثر على إعطائها المكانة التي تستحقها، كيف لا و هي معيار تقدم الشعوب، وبها تتميز الأقوام المتحضرة عن المتوحشة حسب ديكارت. وقِس على ذلك تميز الشعوب المنفتحة عن المتطرفة، الأنظمة الديمقراطية عن الأنظمة الاستبدادية…

رابعا: لماذا حوربت الفلسفة؟

    لقد تعرضت الفلسفة لهجومات عدة عبر تاريخها، ومنذ ظهورها، ولعل المحنة الكبرى هي التي تعرض لها سقراط حينما تم إعدامه، وتستمر محن الفلاسفة مع ابن رشد و غاليلي ..لكن، لماذا تحارب الفلسفة و تجابه بهذه القسوة؟

   الجواب بشكل مختصر يمكن تبينه من خلال المؤشرات التالية:

أ_ حوربت الفلسفة لأنها في نظر خصومها تخالف الشريعة: وهذا قول مردود حسب ابن رشد،  لأن  ذلك الحكم الجائر الذي أصدره الغزالي في حق الفلاسفة ليس عادلا. وذلك ما تعرض له قاضي قضاة قرطبة بالتفنيد بالأدلة و البراهين انطلاقا من كتابه “تهافت التهافت” ؛ وبين علاقة الدين بالفلسفة من  خلال كتابه الشهير ” فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” ليتبين أن الفلسفة و الشريعة أختان لا بالنسب بل بالرضاعة، يرضعان من منبع واحد وهو الحق. و الحق في نظره لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له.  ومنه، فالفلسفة ليست في صراع مع الدين، والدين ملك للجميع  وليس لأحد بعينه، كما أن الفلسفة حق من حقوق الانسان، يجب ألا يحرم من التفلسف تحت أي مبرر كان، سواء إيديولوجي أو ديني أو سياسي ..

   ربما لزم التنبيه هنا إلى أن الغزالي لم يكن فيلسوفا بقامة ابن رشد أو الفارابي.. لأنه لا يهمه الانسان، بل هو إيديولوجي بالأساس، إيديولوجي الفئة المستظهرية، فحينما نقرأ كتاب “فضائح الباطنية و فضائل المستظهرية” سوف نستشف المشروع الإيديولوجي للغزالي بتكليف من الخليفة العباسي المنتصر بالله، إذ كان همه أن تنتصر طائفة المستظهرية و الأشاعرية (أهل السنة) على أهل الباطنية .. لأن عصر الغزالي عصر الصراعات الطائفية..

    إلا أن هذا التصور نجده لازال متفشيا بين جمهور كبير من الناس، حتى المتعلمين منهم وعند بعض المحسوبين على المثقفين، لأسباب سياسية إيديولوجية بوعي منهم أو بدونه.

ب_ حوربت الفلسفة لأنها في نظر خصومها تهدد الوجود السياسي للحاكم: وفي الحقيقة الفلسفة ليس همها السلطة، بل هدفها بناء دولة المؤسسات، دولة الحق و القانون وفق أسس العقل و ليس الشهوة و السيطرة. دولة تسع الجميع حريصة على التعايش المشترك وتدبير الاختلاف لأنها تؤمن أن مشاكل الدولة لا يمكن أن يحلها طرف واحد بل على الجميع أن ينخرط انخراطا إيجابيا للمساهمة في بناء المجتمع. كما أن الفلسفة تفكر باستمرار في سبل تدبير الاختلاف داخل الفضاء العام، ومعالجة المشكلات التي قد تعصف بالدولة ككيان ضروري للمواطنين.

د_ حوربت الفلسفة كذلك من طرف التكنوقراط: لأنها في نظره غير إجرائية وعديمة الجدوى في النشاط الاقتصادي، ولا تستجيب لسوق الشغل.. يهدف من خلال كل ذلك توفير الجيش الاحتياطي للعمل والزيادة في الإنتاج عن طريق استغلال الإنسان؛ والحال أن الفلسفة ترفض اتخاذ الكائن العاقل المتمتع بالكرامة كوسيلة لمراكمة الأموال إرضاء لنزوات التكنوقراطي.

   لكن، مهما حوربت الفلسفة فإنها ستبقى حية مستمرة، لكونها مرتبطة بالإنسان، ومن أراد القضاء على الفلسفة عليه أن يقضي على الإنسان !!!  وباختصار فهي الأداة الأساسية للتحرر واستعادة الذات لذاتها بعيدا عن أي تسخير من أي جهة كانت سياسية أو دينية أو عرقية.. فالفلسفة ضرورة للاجتماع الإنساني، فحينما توضع في مأزق تنتعش الحروب و الصراعات، وحينما تحضر ينتفي كل ذلك، لأنها تفسح المجال للعقل ليقود السفينة، وحينما  تغيب يموت العقل، وحينما يموت العقل ينتفي التفكير، وإن انتفى التفكير انتعش التكفير وكثر القتل …

   فاختر أيها الإنسان أي الطريقين أنسب إليك:  الفلسفة والتعبير والتفكير، أم العنف و التقتيل و التكفير؟

2 تعليقان

  1. مقال رائع يستحق الهنويهتحياتي . استاذي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.