ناهد الزيدي
كلما نظرت إلى الجدار، تتسمر عيناي على لوحة لخوان ميرو، هذا القادم من عالم آخر. القادم من منطقة كاتالونيا الإسبانية (20 نيسان/ابريل 1893). ومع كل تركيز في اللوحة تتبدى لي شخصية فنية بالغة الفرادة تتسيد المشهد. كأني أجدد رغبته في الهروب. في مغادرة الأرض والتحليق نحو السماء، نحو اللامنتاهي”. هذا اللامحدود، قاد ميرو إلى إسقاط “أشكالٍ صغيرة” داخل فضاءاتٍ شاسعة وفارغة، وإلى تلخيص مسعاه على النحو الآتي: “ما أبحث عنه هو الحركة الثابتة، شيءٌ معادلٌ لبلاغة الصمت “.!
أفق مترامي الأطراف يغمز لي بعين موريسكية. يذكرني ببريتون. بضرورة “اغتيال فن الرسم“.
ميرو، الذي ورث عن أبيه الصائغ وصانع الساعات، الدقة والصرامة والانضباط، يسحرني على الدوام.. يستفز وعيي.. يضعني في صميم الحيرة.. طيف من الألوان النقية المتضادة والخطوط اللينة المدهشة أتجاوز معها الهاجس الجمالي إلى شعرية منبثقة من الأحلام والعلامات واللاوعي والمصادفات.. إحساس أنجرّ معه مباشرة إلى القلب وبمحبة كبيرة. ربما لأن السريالية بوجه عام هي ثورة في الفنون والآداب والسياسة والمجتمع.
ربما لأنها تقودني إلى اندريه ماسون، وتريستان تزارا، وماكس جاكوب، والى اندريه بريتون، وبول ايلوار، ولوي أراغون، وبنجامين بيريه.. إلى عوالم فضية تأخذ كفايتها من الضوء و الأجنحة والمروج.. حيث التجريد القوي، واختزال اللون والخطوط.
ميرو، وفق سيرته الذاتية، أتقن فن الرسم مبكرا، إذ التحق عام 1907 بأحد معاهد الفنون الجميلة، ليعلن فيما بعد عن أول معارضه، وكان ذلك سنة 1918.
ضم المعرض وفق الأرشفة الاسبانية، لوحات اشتغل من خلالها على الطبيعة المستوحاة من أجواء فنسنت فان خوخ، وبول سيزان، مع اهتمام واضح بالمدرسة التكعيبية التي تجلت معالمها واضحة حسب متتبعي الشأن التشكيلي الاسباني بوجه خاص.
علما انه لا ينكر فضل معلمه خوسيه باسكو، الذي علمه تطويع الألوان ونمى فيه حب النحت .
هنا لا بد من التأكيد على إن خوان ميرون قد عشق الفن الشعبي الاسباني لفطرته وبراءته والقول له .
تلك كانت مرحلة قد خلت؛ لتبرز محطات أخرى غيّرت الكثير من قناعته الفنية خاصة بعد سفره إلى باريس، عاصمة الفن الأولى، متيمنا ببيكاسو، وبثلة من تشكيليي العاصمة الفرنسية الوافدين من مختلف أرجاء العالم.
في باريس المدهشة والمربكة، تفتق وعيه السريالي، وبها وفيها، تعرف إلى أقطابها الرواد متوجا هذا الارتباط بتوقيعه على البيان السريالي الشهير 1924، من ثم شق مجراه الخاص والمميز الحامل لفهمه الخاص للسريالية، مدرسة واعتقادا وتجربة بكثير من الجرأة، ما جعل نقاد المرحلة يجمعون على أن ميرو، نزع إلى التبسيط والاختزال وكسر الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة بين مجايليه.
معروف عنه انه تخلى عن خط الأفق الذي اعتاد الفنانون الكلاسيكيون استخدامه لتقسيم اللوحة إلى مستويين بصريين، كما فسح حيّزا للفراغ الذي يلعب دورا بصريا في إنشاء اللوحة، وانجذب إلى العناوين الطويلة. ولعل أكثر ما يحسب له باستحسان هو تخليه نهائيا عن البعد الثالث، وتماشيا مع ما آمن به من سوريالية كانت أحلام الطفولة وخيالاتها مصدرا مهما لأشكاله البسيطة التي تنضح بالفرح في فضاء العمل الفني دون أي رابط منطقي أو فيزيائي، يشدها إلى الواقع، وتلك شيمة من شيمه.
عن هذه المرحلة تحديدا يقول ميرو: “في كل ما كنت أحققه ،لقيت تشجيعا من أصدقائي، كانوا إخوة لي، معهم تخلصت من أي تأثير تشكيلي سابق، وقطعت صلاتي بالواقعية،وعملت ضمن احتقار مطلق لفن الرسم”.
في سياق الحرية المطلقة التي تمتّع بها، نفهم مواقفه السياسية من الحرب الأهلية الإسبانية ومن الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي تحضر مراجعها بقوة في بعض أعماله.
ورغم انه ظل بعيدا عن هم الشعب الاسباني وقضاياه المصيرية منسجما مع قناعته بنفي الواقع من عالم الفن -وهو في هذا عكس زميله بابلو بيكاسو الذي يكبره بإثنى عشر عاما، الذي ساند الاشتراكيين في تورثهم على الجنرال فرانكو- ظل من خلال سنواته الفنية التي غطت ثلاثة أرباع القرن العشرين تجريديا يُشهد له بالاقتدار والفنية الحقة والرأي لأغلب النقاد الجماليين.
ميرو شاعر اللون والفراغ. والعهدة على الشاعر بيير ريفيردي “كلما كان التباعد بين حقيقتين كبيرا في العمل الفني،كانت الصورة وقوة العاطفة والواقع الشعري أقوى”,ما يجعله ولم يزل معلقا بقلب، بقلوب عابرة للقارات. خوان ميرو شاعر اللون الزئبقي، على الأقل هذا ما تحاول العزيزة روسا ماريا ماليت الخبيرة في أعمال ميرو، ومديرة مؤسسة خوان ميرو في برشلونة، ذات لقاء بهي، ان تنقله عنه، وتزيد: “خلقت ضربات فرشاته الحرة عالما خياليا من الكائنات الغريبة، التي لا تخرج ألوانها عن الأصفر والأحمر والأزرق والأسود “إنه يتمتع بالحرية في اللغة والمواد والتقنيات المختلفة، وهو سيد عليها جميعا”. يكفي أن نعلم انه رغم الغياب لازال حاضرا بيننا بذات التوهج،وأن لوحة النجم الأزرق (Etoile Bleue) التي تعود إلى سنة 1927 بيعت مقابل 23.6 مليون جنيه إسترليني في أشهر مزادات سوثبي.