الرئيسية | فكر ونقد | في الفكر الحضاري عند ابن خلدون | إبراهيم إمامي

في الفكر الحضاري عند ابن خلدون | إبراهيم إمامي

إبراهيم إمامي

 

     تعتبر البداوة عند عبد الرحمن بن خلدون حالة الوجود الأصيل للإنسان. ففي حال  البداوة يعيش الإنسان على السّجية و وفق الخصائص الطبيعية المميّزة له باعتباره إنسانا. و إنّما تأتي الحضارة عبر تعاقب أزمنة الوجود عند الإنسان، من منطلق أن في البداوة صفات النقص الأوّلية التي لا يمكن تجاوزها إلا في إطار الحضارة، إن في الحضارة افتراض السير نحو الكمال و الرقيّ الإنساني.

   غير أن الحضارة عند عبد الرحمن بن خلدون ثمرة من ثمار الجهد البشري الموجّه داخل إطار المجتمع، و لذلك فهي خاضعة لمنطق التاريخ و صيروته. و قيام الحضارة و ازدهارها عند ابن خلدون، رهين بقيام الدّولة التي تسير قدما بالحضارة، من طور إلى طور، لتبلغ بها درجاتها القصوى من العطاء.

        و للحديث عن أطوار الحضارة عند ابن خلدون لابد أن نشير إلى المراحل التي تمر منها الدولة عنده، لارتباطهما مع بعضهما. فالدولة  عند ابن خلدون تمر من مراحل شتى و لعل أولاها عنده هي “مرحلة التكوين“، و هي التي عبر عنها ابن خلدون بقوله:”الدولة العامة تحصل بالقبيلة[1] و العصبية”.

      “إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة و التدامر”،ثم أن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالبا [2]“،من كلام ابن خلدون يمكن القول أن الملك و العصبية أمران مهمان في  المرحلة في تكوين الدولة ويكمن دورهما في كون العصبية تمكن من غلبة طرف على أخر.و الملك لا يتم إلا بعد استسلام طرف المغلوب للطرف الغالب يقول” وقل أن يسلمه احد لصاحبه إلا إذا اغلب عليه”.[3]

        و في الطور الثاني من هذه المرحلة تتخلص الدولة من العصبية، لكن شريطة أن تستقر. حيث إن الدولة لا يمكن أن تتخلص من العصبية إلا إذا تمهدت واستقرت و يبدو هذا واضحا في قول العلامة ابن خلدون”إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية”[4]،والسبب في ذلك يقول ابن خلدون”أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من العلب للغرابة وان الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه. فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحد بعد أخر في إعقاب كثيرين و دول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة”.

هكذا بين ابن خلدون انه بمجرد الاستقرار للدولة يصبح الخضوع لها كأنه طاعة كتاب الله لا يبدل و لا يعلم خلافه”[5].

           تم بعد هذا يستحضر ابن خلدون الدين كأحد الركائز في الحضارات والدول،حيث اعتبر الدين أصل الدولة إما من نبوة أو دعوة حق ويستحضر هنا ما ذكرناه أنفا في كون الملك يحصل بالتغلب و التغلب إنما يكون بالعصبية و اتفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب و تأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى”لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم” سورة التوبة.

ويسره أن القلوب آدا تداعت إلى أهواء الباطل و الميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق و رفضت الدنيا و الباطل و أقبلت على الله اتحدت و جهتها فذهب التنافس وقل الخلاف و حسن التعاون و التعاضد و اتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة،[6]

        وهنا يمزج ابن خلدون بين قوة الدعوة الدينية وقوة العصبية مما يزيد للدولة قوة على قوة والسبب قي ذلك كما يقول ابن خلدون”أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس و التحاسد الذي في أهل العصبية و تفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لان الوجهة واحدة و المطلوب متساوي عندهم” وأعطى مثالا بالعرب صدر الإسلام في الفتوحات”[7]

 المرحلة الثانية :مرحلة الازدهار و العيش في الترف يقول وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها و نعمتها فتكتر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش و خشونته إلى نوافله و رقته و زيته و يذهبون إلى إتباع من قبلهم في عوائدهم و أحوالهم…… “[8] .

فاهم ما يميز هذه المرحلة حسب ابن خلدون هو العيش في الترف في المأكل  والمشرب و الملابس بأشكالها المتنوعة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الأفول أو الانهيار:

وهي مرحلة متعلقة بالمرحلة الماضية لان الانهيار له أسباب كما للازدهار أسباب إلا أن الغريب هو أن الازدهار هو السبب الرئيسي في انهيار الحضارة و بيان ذلك من أوجوه كما بين ابن خلدون ذلك .

       الوجه الأول:أنها تقتضي الانفراد بالمجد ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا، كانت همهم في التغلب على الغير و الذب عن الحوارأسوة في طموحها و قوه شكائمها، و مرماهم إلى العز جميعا، وهو يستطيبون الموت في بناء مجدهم و يؤثرون الهلكة على فساده. وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبتهم و كبح من أعنتهم، واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو و فشل ريحه و رئموا المذلة والاستبعاد. ثم ربي الجيل الثالث منهم على ذلك، يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السلطان لهم على الحماية و المعونة،لا يجري في عقولهم سواه، وقل أن يستأجر احد نفسه على الموت، فيصير ذلك وهنا في الدولة و تقبل به على مناحي الضعف و الهرم لفساد العصيبة بذهاب اليأس من أهلها.

      الوجه الثاني: إن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم و تزيد نفقاتهم على  أعطياتهم، و لا يفي دخلهم بخرجهم، فالفقير منهم ، يهلك و المترف يستغرق عطاءه بترفه، ثم يزداد ذلك في أجيالهم[9]المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف و عوائده، و تمسهم الحاجة و تطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو و الحرب، فلا يجدون و ليجة عنها فيقعون بهم في العقوبات، و ينزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون  به عليهم، أو يِؤثرون به أبناءهم و صنائع دولتهم، فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم، و يضعف صاحب الدولة بضعفهم، و تسقط الدولة.

      الوجه الثالث: إن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه، و إذا اتخذوا الدعة  و الراحة مألفا و خلقا صار لهم ذلك طبيعة و جبلة شان العوائد كلها وإيلافها، فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف و الدعة، و ينقلب خلق التوحش و ينسون عوائد البداوة التى كان بها الملك من شدة البأس و تعود الافتراس و ركوب البيداء و هداية الفقر…. فتضعف حمايتهم و يذهب بأسهم و تنخضد شوكتهم ويعود بال ذلك على الدولة بما تلبس به من سباب الهرم و لا يزالون على ذلك حتى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم، حتى تسقط دولتهم.

    و انطلاقا مما سبق تحليله و مناقشته يمكن القول إن ابن خلدون كان بحق نبتة طبيعية للثوابت  الإسلامية في مجال دراسة التاريخ و فقه السنن، وقد استمد من القرآن المنهج الكافي في جعله للتاريخ مقاصد وغايات، و نحن اليوم في أمس الحاجة إلى خلدونية جديدة في دراسة تاريخ وفقه الأمة، لخروج من حالة الوهن التي نعيش نحو حالة الرقي الذي ننشد.

1-  مقدمة العلامة ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ و الخبر في تاريخ العرب و البربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الاكبر،دار الطباعة للنشر و التوزيع-بيروت-لبنان ص156

 

-نفسه ص نفسها.[2]

-نفسه ص نفسها.[3]

-نفسه ص نفسها.[4]

-المرجع نفسه ص 158[5]

-المرجع نفسه ص 159.[6]

-المرجع نفسه ص 160.[7]

-المرجع نفسه ص 169.[8]

-المرجع نفسه ص ص 169-170.[9]

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.