العولمة وأسئلة العصر | رشيد العالم
رشيد العالم
إن تطور التاريخ وصَيرورَته المُشرئبة وارتدَادات المَاضي في الحَاضر يعد في حقيقة الأمر تحديـًّا هامًّا أمَام الوعي الإنساني بالمُستقبل، فالفلسفة التاريخيَّة تقول بأن الحَاضر هُو حصيلة كل الإمكانات التِي تحَققت على أرض الوَاقع، بينما يرَى الآخرُون بأن التـَّاريخ يُعدَّ العَامل الأسَاسِي والمُحرك المُحدِّدَ لطبيعَة المُستقبـَل، ففِي كلا القولين جَانب من الصِّحة، لكن التاريخ الحَديث أثبت أنَّ الإنسَان ووَعي الإنسان في حالة تنصُّل دَائم حتى مِن تراثِه الأصلي بَحثا عن تاريخ أشرقَ وأبهَى من التاريخ الذِي يشمُ ذاكرته، وذلك بسبب المَد الحَدَاثي الذي عَوضَهُ بثقافة أخرَى والتي اجتاحت كلَّ المُجتمعات وكل القوميَّات بدُون استثناء، عَبر الثورة المَعلومَاتيَّـة ووَسائل الاتصَال الحديثة التي يَملكهَا الصَّغير والكبير، إذن فالإنسان أمَام تغيُّر سريع، وَوعي الإنسان أيضًا أمَام تغيُّر حَاسم بفعْل سرعة إنتاج المَعلومَة وسُرعَة تداولهَا.
ففي الماضي كانت المَعلومة تستغرقُ شهورًا إلى سَنوات حتى تصل إلى بلدان و مُجتمعَات وشعوبٍ أخرى، بينما اليوم بفضْل العِلـم الذي طوَّع التقنية لخدمة المَعلومة، تحَوَّلت المُجتمعَات إلى أشبهَ بمُجتمعات رَقمية تعتمد على التقنية في التواصل والتبَادل والتفاعُل كما تعتمد من جهة أخرى على مَصدر وحَيد للمَعلومُة وهُو الشبكة العنكبوتية والفضَاء الرقمي، ففي الوقت الذي اخترقت فيه هذه الثقافة المَعلومَاتيَّة أدمِغـَة الأجيال الحَاليَّة، أنتجت مَا يسمى بـ (الثقافة العَابرَة للقـَارَات) وهَذه الثقافة تعدُّ نتاجـًا لانصهَار أفكـَار وفلسفاتٍ وأديان ورُؤى وعادَات لشُعوب مُختلفـَة شـَكلت شَيئا فشيئا مُجتمعًا جَديدًا ووعْيًا إنسَانيًّا لا يعترفُ بالحدود كما رسَّخت في وعي المُجتمعات فكرًا نقديًـا مُتنورًا قائمًا على مُسَاءَلة كل حُقول المعَارف الابستيمُولوجيَّة باعتبارها مَصادر للمعرفة، و من خلال هَذا المَدِّ الثوري أيضًا انتعشت الدِّرَاسات الأنثروبولوجية والسُوسيُولوجيَّة والاجتماعيَّة والنفسيَّة بَل وبَرز تيَّارُ جديد من علمَاء النفس و الاجتماع، يقوم على إجرَاء دِراسَات حَول المجتمعات إنطلاقـًا ممَّا تفرزُه شبَكات التواصل الاجتماعي دون الحَاجة إلى السفر والتنقل وجَمع المُعطيات وإجراء أبحَاث مَيدانية كما كان عليه الحَال مِن قبل، إلا في الأبحاث الأركيولوجية والأثرية.
غير أن من بين الأزمَات التِي جَادت بها العَولمَة الرَّقميَّة الحديثة، خلق ثقافة مُشوهَة ومَمسُوخة الصِّفات، فمن كثرة المُعطيَات غَير المُتجَانسَة والمُتباعدة زمَانيًّا وجُغرَافيـًّا والتِي شكلت المُجسم المُركب للمُعطيات المَعرفيَّة التي قامت عليها هَذِه الثقافة الإنسانية الجديد، صَار من الصَعبِ تشخيصهَا وتحَليلهَا وتِبيَان مَنافعها من مَضَارِّهَا، وصَالحها من فاسدهَا، وهَذا التعقيد العَميق الذي وسم هَذِه الثقافة في ظل الضَغط والتسارُع المَعلومَاتي لم يتح للمجتمعات الإنسانية أن تأخذهَا برُمتهَا أو تغلق الحُدودَ فى وجههَا لكي لا تلج إلى وَعي أفرادهَا، لأنه إذا أمكن غلق حُدُود البلدان فإنه لا يمكن في هذا العَصر بالذات إغلاق الحُدود في وجه العَولمة والمعرفة الرقمية، بل فِي المقابل، رغم كل المحاولات التي قامت بها بعض الدول من أجل حِمَاية عُقول أفرادها من ثقافة العَولمة عبر برامج تعليمية وبيداغوجية وقنوات إرشادية ودينية وأنشطة مدنية واجتماعيّة، إلا أن الثقافة الجديدة اخترقت العُقـُول ومهَّدت من داخل المُجتمعات إلى قيام وَعي ثقافِيٍّ جَديد، ينظر إلى ترَاثِه ونظامه نظرَة أخرى، وهذا جَليٌّ وَاضِحٌ إذا ما نظرَنا على سبيل المثال إلى المُجتمعَات العربية التي أجبرتها العولمة على تغيير قوَانينهَا ودساتيرها وسياسَاتهَا الخارجية ومقرَّرَاتها الدراسية ومسألة تعَاطيها مع الحُريّة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة و قضيا الاجتهاد الديني والفقهي…
فكل هذه المنظومَات تأثرَت بشكل لافت بسَبب الضَّغط العولمي الذي يَدفعُ الوعي إلى التجَدُّد والتطوُّر من أجل مُسَايرة السياق المُعَاصر ومَا يتمخضُ عنه من مُستجدَّات على كل المُستويات، ويمكن أن نقول بأن العولمَة الجَديدَة، تعدُّ مُحددًّا لمُستقبل هَذِهِ الثقافة العابرة للحدُود التي لا تعترف إلا بالوَعِي المتجدد والتفاعل الرقمي والذوبَان الحَضاري و والانصهار الإنساني.
التاريخ الحَديث سيشهدُ تحديَاتٍ أخرَى وسيطرح أسئلـة عَويصَة ستظل عالقة من بينها:
_ مَا هُو سقف هَذا المَد العَولمِي؟
_ إلى أيِّ حَدٍّ استطاع أن يخلق ثقـَافة بديلـَة؟
_ وهَل يا ترى ستفضِي النزَاعَات بين الدُّوَل الكبرَى إلى صفحة تاريخية جديدة تهُدُّ أركانَ هَذِهِ الثقافـَة، فتنكمش وتعود إلى مَنابعهَا الأولى؟
2016-10-22