الرئيسية | فكر ونقد | من أجل ثورة فكرية وثقافية | رشيد إيهوم

من أجل ثورة فكرية وثقافية | رشيد إيهوم

رشيد إيهوم

 

رشيد إيهومإن مناسبة هذه المقالة هو هاجس يسكن كل مواطن حق، عرف ذاته وعرف العالم ويتطلع الى تغيير واقعه المجتمعي والخروج من حالة الانسداد التاريخي والتأزم الحضاري لمجتمعه، فأراد أن ينخرط في سيرورة التغيير ولو بكلمة. لأن الانتقال الديموقراطي والتغيير والتطلع نحو مستقبل أفضل، لا يرتبط بجزء فقط من المجتمع، بل على العكس من ذلك، هو ورش مفتوح ينخرط فيه الجميع بدون استثناء. رغم أن من يقود هذا التغيير هو نخبة مستنيرة من المجتمع تتطلع بمهمة قيادة الجماهير نحو أفق التغيير وترسم وجهة محددة للنضال المجتمعي. وإلا أصبح كل حراك مجرد رد فعل لا تعرف مآلاته ولا الوجهة التي تحدده. وللأسف هذا ما وقع مع الانتفاضات التي شهدها العالم العربي. فقد كانت هناك كل الشروط الموضوعية لإنجاح الورش الديموقراطي، لو كانت النخبة المثقفة هي التي قادت هذا التمرد الشعبي، ورسمت له غاياته. فكل حراك بدون نخبة توجهه، هو حتما مجرد فوضى لا أقل ولا أكثر. وهذا ما حدث مع الشعوب العربية، التي تصرفت بدون وعي منها، فكان حراكها مجرد تطبيق لأجندة خارجية واستجابة لصراع جيوبوليتيكي، وتحول لموازين قوى. ولم يكن قط ثورة بمفهومها الكامل، كتلك الثورات التي شهدها تاريخ البشرية، كالثورة الفرنسية خلال القرن الثامن عشر في فرنسا، او الثورة الروسية في بداية القرن العشرين. فمظاهر الاختلاف بين تلك وهذه. هو أن الأولى سبقتها ثورة فكرية نظر لها فلاسفة ومفكرين، وتوفرت لها الشروط الموضوعية والتاريخية والحضارية اللازمة، وحمل شعاراتها سياسيون وقادة وزعماء أطروا المواطنين ولبوا نداء التغيير الجذري، الذي هز أركان الانظمة القديمة المتسلطة، ومظاهر المجتمع التقليدي والثقافة المنحطة، ووضعوا مكانها أنظمة جديدة تناسب العصر قائمة على تعاقد بين الأفراد واقتسام عادل للسلطة والثروة، فتحولت بذلك من وضع متأزم ومتخلف إلى واقع جديد أفضل. أما الثانية فلم تسبقها أية ثورة فكرية ولم تتوفر لها ايديولوجية واضحة المعالم ولا مشروع مجتمعي متكامل الأركان، رغم أن الشروط الموضوعية لنجاحها قد توفرت، كتسلط الحكام وتأزم الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأفراد هذه المجتمعات، لكن رغم ذلك لم يكن هناك مثقفون يلبون نداء التاريخ وينخرطون في التغيير. وحتى إن وجدوا ووجدت مشاريعهم، لا تربطهم بالجماهير أية رابطة مادامت هذه الأخيرة أو غالبيتها أمية لا تقرأ ولا تكتب .فكيف ياترى ستنجح ثورة؟ والثورة تنجح بالفكر والثقافة وليس بالجهل والأمية.

وربما صدق هذا الكلام، تؤكده المؤشرات الموضوعية التي توفرها الوقائع اليومية للبلدان التي أسقطت بعض الأنظمة أو رموزها. فواقع تلك البلدان يشهد فوضى عارمة، بعدما انكشفت القوى الفاعلة التي تحرك الأحداث، بعد أن انتقلت للاشتغال مباشرة نهارا جهارا. حيث كانت في السابق تختبأ وراء ماكينة الاعلام ومنافد أخرى تمرر منها شعاراتها، شعارات “الديموقراطية” و ” التغيير”. لكن  القليل من انتبه إليها في مراحل الحراك الأولى. ولا أدل على ذلك ما يحدث اليوم في المشهد السوري، الذي أصبح مركز صراع دولي واقليمي، ينبأ بانفجار دولي وبالتالي إعلان لحرب عالمية ثالثة، ستكون في نظري حرب طاحنة لا نعرف مآلاتها ولا مصير النوع البشري حينما ستندلع؟ قوى كبرى تتصارع حول النفوذ والسيطرة. ولا يهمها في ذلك مصير الشعوب العربية ولا مستقبلها. وسخرت المال والسلاح للقتلة والمجانين الذين شحنتهم بالفكر الارهابي والتكفيري ليطبقوا خططها على الأرض. وهنا لا بد أن أتوقف عند هذه النقطة قليلا. وأقصد  حقيقة الجماعات الارهابية. فقد انقسمت الأراء حولها: بين قائل بأنها صنيعة الولايات المتحدة وقائل بأنها افراز موضوعي وتطبيق حرفي للاسلام، وهو ما جعل البعض يتبرأ من هذه الجماعات التي تلطخ سمعة الاسلام والمسلمين في العالم. لكن الرأي السديد هو أن في كلا الموقفين شيء من الصحيح، وقدر كبير من عدم الفهم. فالجماعات الارهابية صنيعة الولايات المتحدة، وهي من وحي بنات افكار خبرائها الاستراتيجيين خاصة برجينسكي وبرنار لويس وغيرهم. لكن الذي لا يلتفت اليه  القائلون ببراء الاسلام من هذه الجماعات، هو أن الارهابيين توجههم ايديولوجية دينية متعصبة وعنيفة، وهذه الايديولوجية لم تصنعها الولايات المتحدة، فالتكفير والقتل والسبي وجز الرؤوس …مفاهيم تنتمي الى التراث الفقهي الاسلامي، ولم تصنع في الولايات المتحدة. ففتاوى ابن تيمية وابن حنبل ومحمد عبد الوهاب مثلا والفكر السلفي، الذي يتبناه هؤلاء الارهابيون، هو من وحي تراث الاسلام. وبالتالي فالارهاب له مجموعة من الأبعاد. لعل اهمها الجانب الفكري الايديولوجي. الذي يعتبر المدخل للقضاء على الفكر الارهابي، فالقضاء على الارهابيين، يقتضي القضاء على الفكر الذي يحملونه. و هذه هي الفكرة المحورية  التي يتمحور حولها موضوع هذه المقالة.

ان ما يقع اليوم في اوطاننا ، من قتل وترويع، يترجم مأساتنا الحضارية الكبرى التي استمرت منذ هجوم جحافل الماغول على بغداد خلال القرن الثالث عشر الميلادي، والتي دمرت هذا المركز الحضاري الكبير للحضارة العربية. وبالتالي نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، وبالنظر الى الدلالات الرمزية لهذا الحدث التاريخي، يمكن ان نستشف دلالة تدمير هذه المدينة العظيمة، واتلاف مكتباتها. فالقضاء على المراكز الفكرية، هو قضاء على الذاكرة. وحينما نقضي على الذاكرة فاننا نفقد هويتنا. أشبه مايكون بضرب شخص بعصا حديدية على رأسه فيفقد ذاكرته وبالتالي يفقد هويته ويتحول الى شخص اخبل مجنون. وهو ما حدث فعلا حينما دمرت بغداد التي تشكل مركز الحضارة الاسلامية أنذاك. والتذكير بهذه الاحداث ليس من باب الترف،فقد يتساءل البعض: وما علاقة هذه الاحداث، الضاربة في القدم، بحاضرنا اليوم؟ ولابد للإجابة القول بأن كل أزمة في الحاضر ، تضرب بجذورها في تربة الماضي.

لهذا كان لا بد دائما العودة الى الماضي، ليس من أجل العيش فيه-وهي الدعوة اللاعقلانية للتيارات الدينية، التي تنظر الى خلاص الحضارة الاسلامية في امجاد الماضي- بل من أجل استلهام القيم المنيرة فيه واعادة استنباتها في الحاضر، والقطيعة مع كل ما لن يساهم في تغيير هذا الحاضر. وربما الدعوة الى القطيعة مع التراث التي يؤاخذ عليها كثيرا الاستاذ عبد الله العروي، تعني بالضبط منطوق هذا الكلام، وليست أبدا قطيعة حاسمة مع الماضي كما يفهمها البعض، وهي أصلا عملية غير ممكنة، لأن الماضي يظل دائما حاضرا فينا، فالقطيعة إذن ذهنية وابستمولوجية وليست قطيعة نهائية.

وبالعودة دائما إلى الفكرة التي إنطلقت منها وهي ضرورة الثورة الفكرية، وارتباطا بهذه النقطة حول القطيعة الابستمولوجية مع التراث. فمن المؤكد أن هذه الاخيرة، هي المدخل نحو الثورة الفكرية، التي تعني في ما تعنيه، الثورة على الماضي الذي يسكننا، أو بالأحرى على النظرة التي تعتبر أن العودة إلى الماضي هي السبيل نحو خلاصنا. وفي المقابل الدعوة إلى فكر جديد ورؤية جديدة تناسب العصر الذي نعيشه اليوم. إنها دعوة الى التجديد والعصرنة والحداثة، ومواجهة للتقليد والماضوية والرجعية. إن الثورة الفكرية، هي الانخراط في المجتمع الحديث، بكل وعي ومسؤولية، وإنخراط بالتالي في “المتاح للبشرية جمعاء” كما يسميه الأستاذ العروي ويعني به، الانخراط في التاريخ الكوني، وعدم الانفصال عن العالم. واعتبار أن التقدم المنشود لأوطاننا، لن يتأتى إلا بهذه الطريقة. فالتجديد على مستوى العقل، هو المدخل الاساس نحو الحداثة، بكل تجلياتها، السياسية والثقافية والفلسفية والعلمية.

إن كل نجاح لأي حراك سياسي، لابد له من دعوة مؤطرة ترسم ملامح المستقبل، وتوجه الجماهير نحو غاية جديدة وهي مجتمع جديد حداثي متقدم يتسع للجميع، ويحقق شرط المواطنة الكاملة لأفراده، القائمة على عقد سياسي، بين الشعب وحكامه، وفصل للسلط، واشاعة للحرية والمدنية والاختلاف، وقضاء على كل فكر اقصائي ورجعي.

 

باحث مغربي في الفلسفة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.