سعيد الريان:
استمرارا منها، تعمد الموجة، إلى إعادة نشر مجموعة من المقالات الهامة، لمجموعة يسيرة من المفكرين المغاربة والمشارقة، غاية في إعادة تسليط الضوء حول تجربتهم وعطائهم. هنا نقف عند مفكر من العيار الثقيل، من عيار الزمن الصعب، أو صراع لغتين في لسان واحد، كاتب ومفكر يكتب بكلا يديْه اليسرى واليمنى، يكتب صباحا مساءً، ويقرأ صباحا مساء، متنقلا بين لغتين (الفرنسية والعربية)، بين تراثهما ومعاصرتهما، بين قديمهما وجديدهما، محدثا قراءة جديدة للتراث الأدبي العربي عبر مقارنة داخله وخارجه مع الأدب العالمي الفرنسي منه بالخصوص. إنه بهذا يكون من المجددين القلائل الذين يعرفهم تاريخنا الفكري.
إليكم المقال الرابع:
عبدالفتاح كيليطو
من الصعب تصوُّر نص سردي أو مقطع شعري لا ترد فيه إشارة صريحة أو ضمنية إلى السفر. وحتى إن لم يرد ذكر لرحلة ما، تظل هناك تلك التي يقوم بها القارئ من عالمه المألوف إلى عالم غريب تشرع أبوابه بتزامن مع فتح الكتاب. رحلة القراءة تستدعي تكيفاً مع عادات النص وشعائره، وتتطلب بالتالي مجهوداً ذهنياً ليس باليسير، فكثيرة هي المرات التي تخلينا فيها عن السفر وامتنعنا عن الإبحار ! ولهذا يتم في الغالب تفضيل قراءة نص روائي على مجموعة قصصية لأن كل وحدة من وحداتها تتطلب استعداداً متجدداً وعناء مستأنفاً للاندماج في بيئتها والانصهار في أجوائها.
بالرجوع إلى القصيدة التقليدية، نلاحظ أنها تكاد دوماً تصف رحيلاً في أبياتها الافتتاحية، ولعل البيت الأول لمعلقة الأعشى أحسن مثال على ذلك:
وَدِّعْ هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وحسب تعريف ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء»، فإن القصيدة وصف لسفر يقود الشاعر إلى أمير يقوم بمدحه، وهذا ما يبرر في نظره الأبيات المخصصة للحديث عن المطية، وأيضاً عن المفازات الشاسعة التي يقطعها الشاعر قبل أن يصل إلى الممدوح… من هذه الوضعية تولد نوع أدبي جديد هو المقامة، وبطلها كما هو معلوم شاعر متسول يجوب السبل والطرقات ويتنقل من حاضرة إلى أخرى من أجل كسب عيشه. إنه مكدي فصيح، وبما أنه لا يهاب الخروج عن القانون من حين لآخر، يمكن اعتباره امتداداً لصعاليك العصور الغابرة.
ولعل أفضل تجسيد لما سبق أن قلناه قصيدة الشنفرى المشهورة بـ«لامية العرب»، وهي من أجمل قصائد العصر الجاهلي التي وصلتنا. ولا داعي من جديد لأن نثير التساؤل عما إذا كانت حقاً من تلك الفترة أو عما إذا كانت من انتحال خلف الأحمر في القرن الثاني الهجري. فهي تظل رغم كل ذلك فذة فريدة، إلا أن كونها ذات رأسين، سيجعل تأويلها يختلف بحسب نسبتها، كما يجعل مظهرها يتغير فتصير غريبة عن نفسها.
والظاهر أن أولئك الذين يثيرون مسألة إضافة اللامية وإسنادها، يتبينون أن موضوعها يدور بالضبط حول النسبة والانتماء والأبوة. وبالفعل فليست الأصول الأسروية للشنفرى واضحة، ويوجد اختلاف عند أصحاب السير في هذا الأمر، إلا أننا، إذا اقتصرنا على النص، نتبين أن له ولاءين، وينتمي لأسرتين، واحدة إنسية، وثانية حيوانية. يستهل كلامه بالحديث عن فراق وشيك، ويُعلِم ذويه أنه انفصل عنهم وقطع صلاته بهم:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لَأَمْيلَ
ينبذهم لأنهم تنكروا له وجحدوه ولم يشدوا بعضُده. لقد حان وقت الفصل والارتماء في أحضان أسرة جديدة، أسرة الذئاب والضباع.
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ يخذل
اختيار ضروري، ولا مجال للتردد أو التعثر، لا سيما وأن «الليل مقمر». لا يذرف الشنفرى عبرة ولا يعتريه وهو يشد الرحال شعور بالأسف، وإنما حنق شديد تجاه قومه الذين لم يبادروا إلى نصرته.
كتب شيوران أن بيتهوفن أدخل الغضب في الموسيقى، ويبدو لي أن الشنفـرى، من جهته، أدخل الغضب في الشعر العربي… في البدء كان الغضب! ليس في الأدب العربي وحده: لنتذكر غضبة البطل أخيلوس، نقطة انطلاق «الإلياذة»… لا ألمح ورود الغضب في المعلقات العشر، وفي تلك التي أنشأها عمرو بن كلثوم، أصغي بالأحرى إلى نبرة الحماس وهدير الحميَّة الجاهلية، لا فورة الغيظ. وعلى ما يبدو، لن تعاود لهجة الغضب ظهورها إلا مع المتنبي…
لهجة مصحوبة عند الشنفرى بسخرية مريرة، لا سيما حين ينعت قومه بعبارة «بني أمي». لماذا يحيل إلى الأم وليس إلى الأب؟ أحد الشراح، ابن عطاء الله، قدم تعليلاً قد يكون من المفيد إيراده: «أضافهم إلى أمه دون أبيه، ليرميهم بالفضيح، ويسجل عليهم بالقبيح؛ لأن الأم شأنها الحنو والشفقة، وأولادها من شأنهم المحبة والتراحم، وقد خرجوا معه عن حيز التصافي إلى حيز التنافي».
رحيل الشنفرى يكتسي صبغة الفرار، فهو يعرف أنه ملاحق مطارد، وأن أعداءه يتربصون به ويجدّون في طلبه واللحاق به، وأن عليه أن يتوارى ويختفي في البيداء القاحلة ليفلت منهم. وما يسترعي الانتباه أن قصيدته تتألف من مشاهد تومئ إلى فقدان متنام للصفة الإنسية واكتساب تدريجي لطابع التوحش: صعلوك متوحد، أشعث أغبر، حافي القدمين، أطمار ممزقة، عوز مطلق… ويبلغ التحول مداه في الأبيات الأخيرة التي تصور الشنفرى في مرتفع من الأرض، يشرف على ما حوله، وغير بعيد عنه، حيوانات تتحرك بدعة واطمئنان، وفي المساء تتجمع بالقرب منه وتستكين إليه، وكأنه واحد منها. هم الأهل…
بصفة عامة يبدو الشاعر وكأنه يفارق أرضه المألوفة ويسير على غير هدى. كما أن قدر القصيدة ومصيرها إن تنفصل عن ذويها، ومن العبث محاولة ثنيها عن الضياع والتيه، فما إن تنظم حتى تنطلق هائمة على وجهها، ولهذا شبهت فيما مضى بناقة ضالة لا يعرف أين سيبلغ بها المسار ولا عند مَنْ ستحلّ… ليس للشاعر خطاب مشترك مع أهله وذويه. أليس رحيله وفراقه لأسرته وأحبابه، انفصالاً في الواقع عن الكلام العادي المألوف؟ في مركز تفكير عبد القاهر الجرجاني عن الشعر، نجد ما يسميه «الغرابة والبعد من العادة». الانفصال عن الأرض المألوفة ومغادرة تربة النشأة اختيار حتمي يؤسس لشعر أصيل يُحدِث في النفس إحساساً لا عهد لها به، «حالة غريبة»، كما يقول الجرجاني في مقطع مفاجئ من «أسرار البلاغة»، حيث يربط بين الافتتان بالأشعار من جهة، وبين إغواء الأصنام والتصاوير من جهة أخرى.
عن مجلة الدوحة ( العدد58 أغسطس 2012 )