يوسف الخيدر
شاعت ظاهرة الخلط بين الحياة الخاصة والعامة للمسؤولين في وسائل الإعلام، حيث اشتبك الحابل بالنابل، وأصبح كل شيء مباح، المهم هو الضغط لكسب الرهان، حيث أضحت الصحافة في الحوليات الأخيرة لا تميز بين الخاص والعام، المهم هو الفضح والتشهير دون مراعاة أخلاقيات المهنة.
فلكل منا حياته الخاصة والعامة، فالخاص هو ما يتعلق بي أنا، وبأسرتي وكل أفراد عائلتي، ولا علاقة للرأي العام بحميميتي، في ما أحب أو ألبس أو أشرب أو أركب أو أسمع أو أشم أو أنام أو أقرأ أو أكره.. إنها أمور شخصية، وكل منا يمارسها كل يوم بحرية وبضمانة قانونية، إلا أن هذه الأمور أصبحت الصحافة تُقحمها في الحياة العامة.
حيث تُوظف مخبرين ومتجسسين، وتصرف أموال باهظة من أجل هذه المهمة، وذلك لجمع المعلومات من القريب والبعيد، من التاجر والإمام والموظف والحارس والخادمة والبستاني.. وكذا ترصد المستهدف بكاميرات وآلات تسجيل لمراقبة تحركاته المهمة والتافهة منها، إن الحياة الخاصة للناس لا تهمنا، فلكل منا حسناته وسيئاته، سلبياته وايجابياته، نحب، نشرب، نخرج، ندخل، نغضب، نحزن، نفرح ونأكل.. نرتد مسجد أو حانة او أي كان.
فالحياة الخاصة أضحت الفيصل في الحياة العامة، فيكفي أن تدخل المسجد وتصلي في الصف الأول حتى تصبح أنت الصادق، الأمين، الملتزم.. ويكفي أن تدخل الحانة حتى تكون من الفاسقين، الفاجرين، المبدرين، السارقين.. إنها ثنائية الرعب؛ سالب أو موجب، جميل أو قبيح، صادق أو كاذب، وفيّ أو خادع.. إنه تصور نمطي للأشياء.
إن الحياة العامة، هي شغلك لمسؤولية في منصب حساس داخل الدولة، إما رئيس، أو وزير، أو مدير، أو مستشار، تعمل استنادا إلى قوانين ونصوص وبرامج واستراتيجية وأهداف وتخطيطات وما إلى ذلك، الشيء الذي يتطلب “الرجل المناسب في المكان المناسب”، حيث تتوجب الكياسة والخبرة والنباهة، والثبات في تسيير وتدبير الملفات الملقاة على عاتقك من طرف مواطنين وناخبين.
فهنا يجب أن يكون العد والحساب، الضغط والعقاب، وحيث يجب أن تستحضر المتابعة والمراقبة والمحاسبة، وفضح الاختلالات وسوء التدبير والتقدير للمسؤولية والاخلال بالمهمة، وذلك مع الاثبات بالحجة والأدلة الدامغة، وتقديم الوثائق اللازمة لإثبات صحة الخبر أو نفيه من طرف الرأي العام.
إن دوافع الخوض في الحياة الخاصة للناس بيّن هدفها وواضحة معالمها، ترمي إلى الإطاحة بالخصم وإخضاعه للاستسلام وتنحيته من المشهد، وتنجح هذه الخطة مئة بالمائة، حيث تمت إزاحة وزراء، ومسؤولين من مناصبهم، وتم الضرب في مشروعية تصورهم ورؤاهم وأهدافهم، إما لأنهم مزعجين أو أن توجههم الأيديولوجي والفكري لا يروقنا.
الجشع لا يأمن بالقيم الإنسانية، ولا يبالي للعقل أو العاطفة، إنها غريزة الاكتساح والدمار والتخريب، فلكل منا أبناء، وأزواج، وأصدقاء، وعائلة، وأفراد جيران، ومعجبين، ومساندين، وزملاء في العمل، ألا يمكن أن يكون وجهنا مسودا بفضيحة أخلاقية أمام كل هؤلاء الناس، بسبب نشر صورها في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، عندها لا يمكن إلا الاستسلام، والحشمة، والرغبة في قبر الرأس داخل التراب حتى لا يرانا أحد ممن نعرف.
الانسانية، والتسامح، والتدافع الشريف، والمنافسة المحمومة خير من كل شيء، أما التحدي، والانتقام، والضغينة، والمواجهة، لا تولد سوى التفرقة والتطرف والعنف والإرهاب، إنه صراع الانسانية بين الخير والشر، فدول العالم الثالث، لا زالت ترزح في براثين التخلف والأمية والجهل، وصحافتها تكرس التضليل وتحث على العمي وإطفاء ضوء البصيرة، أما الدول الديمقراطية التي تحترم صحافتها نفسها ومواطنيها لا تخوض في مثل هذه الترهات ولا تبالي لأشياء من هذا القبيل.
ثم إن ضعف ثقافة الشخصية العربية، سبب وجيه في تكاثر مثل هذه الفطريات، حيث العقلية العربية دائما منقادة، وتحتاج إلى زعيم، أو شيخ لتوجيهها، لأنها ضعيفة الرؤية والتصور وغير مستقلة التفكير والبنية، ودائما ترى في قائدها النموذج الناجح، وتسعى إلى أن تصبح مثله، لأنها منبهرة في شخصيته من خلال أفعاله وأقواله وأسلوبه في اللباس والكلام، فضلا عن سيارته وقصة شعره..
لذا تعمل الصحافة على طمس تلك الصورة وتدمير ذلك الحاجز القيمي ذي الهيبة للمسؤولين العمومين، لدى المريد والمعجب، العاكف على عبادة تصرفات خاصة به، منتهزة الفرصة للانتقام من الآخرين وحشر كل أحلامهم وأهدافهم.. فالرئيس والوزير والمدير والمستشار.. كالبناء والفلاح والمتصرف والتقني.. كلهم يشتركون في هدف واحد هو تحقيق الربح والنتيجة، فكل ما يتطلب هو الكفاءة، أما الحياة الخاصة فلا شغل لنا بها ولا تهمنا بتاتا.
فلقد اعتاد المتلقي بعربدة بعض الصحفيين، الذين يتلددون بجلد الحياة الخاصة للناس، منصبين أنفسهم قضاة على الآخرين، يحاضرون في الأخلاق والقيم، فللوبيات وأصحاب المصالح امبراطوريات إعلامية تدافع عنها، حيث يتم تجييش صحفيين مختصين في هذا المجال، يتقنون فن التشهير والفضح، عبر كلمات فضفاضة وجمل رنانة وعبارات مطروزة، ناهيك عن صورة ملتقطة ومختارة بعناية.
فالخوض في أغراض الآخرين من خلال التلصص على أفعالهم وممارساتهم وأقوالهم، هو تحرش بحياتهم الخاصة، ثم إنه أمر مذموم وغير محمود ولن يحب أن يقع في شراكه أحد منا، وبالإضافة إلى هذا فإن ثقافة الاستهلاك السائدة اليوم داخل المجتمع للخبر، دون تحليله، و تمحيصه، ولا طرح سؤال وجودي على موضوعه، لانتحار في حق العقل واستهتار بجوهر الانسان، وتزكية لوسائل الإعلام لجلب مثل هذه الأخبار.
يقول مثال عربي فصيح “مر بي ببني نظرة ولا تمر بي ببني نقرة”، فالنظر يعني رؤية الموضوع الممثل أمامنا ريثما يختفي ويحجب عن أعيننا، أما النقر فيدل على الحديث والنقاش والتفاعل والأخذ والعطاء والمرافعة في الأمور السلبية للآخرين وحوائجهم، وتربي فينا سلاطة اللسان، وكل هذا سببه الفراغ وتيهان دردشة لا بوصلة لاتجاهها.
إن الآخر جحيم، لا يرحم، يستفز، يفضح، يفجر، يحتقر، يدمر، يحطم، يحبط، يعذب .. فالصحافة يوما بعد يوم، تنحاز عن وظيفتها الأصل، وتتقمص دور الجلاد الذي يدمي الآخرين بنشر غسيل فضائحهم من عجائب وغرائب على صفحات الجرائد.. فمن التوعية والتثقيف إلى التخدير والتشهير والضرب في أعراض الآخرين.