الرئيسية |
فكر ونقد |
النيوكانطية: ماذا نعني عندما نقول انه قد تم التخلي عن ما بعد الحداثة ؟ | أماني أبو رحمة
النيوكانطية: ماذا نعني عندما نقول انه قد تم التخلي عن ما بعد الحداثة ؟ | أماني أبو رحمة
أماني أبو رحمة
لقد أصبح من الشائع أن نبدأ نقاشاتنا عن ما بعد الحداثة بالتأكيد على أنه لم يعد هناك شيء أسمه (ما بعد الحداثة). إذ أن ما بعد الحداثة كانت وقبل كل شيء مجرد مصطلح شائع للتعريف بتعددية الاتجاهات المتناقضة، ووفرة الحساسيات غير المتماسكة. وبالفعل، فإن التباشير الأولى لما بعد الحداثة، كانت على يد تشارلز جينكس، وجان فرنسوا ليوتار، وفريدريك جيمسون، وإيهاب حسن، حيث قام كل واحد منهم بتحليل ظاهرة ثقافية مختلفة هي على التوالي: التحول في المشهد المادي، وانعدام الثقة ثم ما ترتب عليه من هجر للسرديات الكبرى، وظهور الرأسمالية المتأخرة، وتلاشى التاريخية((historicism وانحسار التأثير، والنظام الجديد الفن. ومع ذلك، فإن كل هذه الظواهر تتشارك في معارضتها لأسس الحداثة الممثلة في اليوتوبيا، والتقدم الخطي، والسرديات الكبرى، والعقل، والوظيفية، والصفائية الشكلانية…… الخ. تلك المواقف التي يلخصها خوسيه دي مول بين تهكم ما بعد الحداثة (الذي يشتمل على العدمية، والسخرية، والتشكيك ثم تفكيك السرديات الكبرى، والحقيقة) وحماسة الحداثة (التي تشتمل على اليوتوبيا والإيمان غير المشروط بالعقل). ليس أن كل اتجاهات ما بعد الحداثة قد انتهت، ولكن أن كثيرا منها قد اتخذ شكلا آخر، والأهم، إحساسا ومعنى واتجاهاً جديدا. فمن ناحية استلزمت الأزمات المالية وعدم اليقين المناخي، وعدم الاستقرار الجيو سياسي، استلزمت إصلاح النظام الاقتصادي (عالم جديد أو رأسمالية جديدة) ولكنها أيضا استلزمت التحول من اقتصاد الياقات البيضاء إلى اقتصاد الياقات الخضراء. ومن ناحية أخرى، فقد تطلب، تفكك الوسط السياسي سواء على المستوى الجيوسياسي (نتيجة بروز اقتصاديات الشرق الواعدة) أو على المستوى الوطني (بسبب فشل”الطريق الثالث”، واستقطاب المحليات والأعراق، والطبقات، وتأثير مدونات الإنترنت)، إعادة هيكلة الخطاب السياسي. وبالمثل، فإن الحاجة إلى إنتاج طاقة بديلة بعيداً عن المركزيات، وحل مشكلة هدر الوقت، والمكان، والطاقة التي نتجت عن الانتشار الحضري، ومستقبل حضري مستدام، تطلبت تحولا في طبيعة حياتنا المادية. والأهم ربما، هو أن الصناعة الثقافية قد استجابت عن طريق التخلي بصورة متزايدة عن التكتيكات من قبيل المعارضة الأدبية، والإرداف لصالح استراتيجيات مثل الأسطورة والتعالقات البينية، فضلا عن نبذ السوداوية لصالح الأمل، والاستعراضية لصالح المشاركة. والآن يعمل كبار المديرين التنفيذيين والسياسيين والمهندسين المعماريين والفنانين على حد سواء على صياغة جديدة لسرد طموح عماده وشرطه الأساسي هو الاعتقاد بـ (”نعم يمكننا ”، ” تغيير يمكننا أن نؤمن به ”). سرد كان مقموعا لفترة طويلة لصالح احتمالية (مستقبل أفضل). تلك الاحتمالية التي طواها النسيان. وإذا كان بإمكاننا أن نصف المثالية الحداثية بالتعصب والسذاجة في مقابل وصف العقلية ما بعد الحداثية باللامبالاة والتشكيك، فإن موقف الجيل الحالي هو موقف يمكن إدراكه بوصفه براءة مستنيرة، ومثالية براغماتية. التاريخ أيضا قد تجاوز خط نهايته المزعومة بمراحل. ومن المؤكد أن التاريخ لم ينته أبدا. وعندما أعلن مفكرو ما بعد الحداثة أنهم قد توصلوا إلى هذه النتيجة (موت التاريخ)، فقد كانوا في الواقع يشيرون إلى مفهوم خاص جداً للتاريخ: المثالية الإيجابية الهيغلية. لقد جادل البعض ـ فوكوياما في(نهاية التاريخ والرجل الأخير، 1992: 3) بأن فكرة أن التاريخ يتقدم جدليا نحو نهاية حتمية (predetermined Telos) قد انتهت لأن البشرية قد أدركت أن تلك النهاية قد تحققت [ من خلال عولمة (الليبرالية الديمقراطية الغربية)]. ويقترح آخرون أنها (فكرة نهاية التاريخ) قد وصلت إلى نهايتها لأن الناس أدركوا أن الهدف من التاريخ لن يتحقق أبداً، ذلك أنه وببساطة لا وجود له أصلاً. ولكن الأهم من ذلك أنه يتجه نحوه كما لو كان موجوداً فعلا. وباستلهامه براءة الحداثة، واطلاعه على شكوك ما بعد الحداثة، فإن الخطاب الما بعدي الجديد قد يلزم نفسه عن وعي تام باحتمالية مستحيلة. فإذا كانت الحداثة وما بعد الحداثة مرتبطتان بمثالية هيغل الايجابية ـ على الأقل من الناحية المعرفيةـ فإن الحداثة القادمة تؤيد ”سلبية” كانط المثالية. ويمكن تلخيص فلسفة كانط عن التاريخ بتفكير (كما لو أن as-if). يقول كورتيس بيترز في كتابه (فلسفة الأمل عند كانط، 1993:177) :” إننا ـ ووفقا لكانط ـ نرى التاريخ البشري كما لو أنه سرد حي يصف تحرك الجنس البشري نحو كامل إمكاناته الاجتماعية/العقلانية…. إننا نرى التاريخ كما لو أنه قصة التطور البشري. وفي الواقع، فإن كانط نفسه تبنى مصطلح (كما لو) عندما كتب ـ وقد نقل عنه لويس وايت بيك في كتابة (كانط في التاريخ، 1993:11-12) قوله ـ” كل البشر يسيرون، كما لو أنهم يتبعون سلسلة إرشادية، نحو هدف طبيعي ولكنه غير معروف بالنسبة لكل واحد منهم. وهذا يعني أن البشرية والناس، لا يسيرون في الواقع نحو هدف طبيعي، لكنهم يدعون أنهم يفعلون ذلك بحيث يتمكنون من التقدم أخلاقيا وسياسيا”.
أماني أبو رحمة 2016-08-21