-
توطئة
بالعودة إلى مفهوم الكتابة النسائية، نجد ان المقصود به هو أن تقدم المرأة الكاتبة نصا إبداعيا من إنتاجها رواية كان أو قصة أو شعرا، بوصفها ذاتا مستقلة، وصاحبة مبادرة. في حين أن الكتابة النسوية تركز على ان تقدم المرأة الكاتبة عملا أدبيا تكون المرأة موضوعا له من خلال استعراض تجاربها وهمومها، فيصبح العمل الأدبي الإبداعي مجالا للتعبير عن هوية المرأة.
-
نظرة عن الكتابة النسائية بالمغرب:
يمكن القول إن المرأة المغربية المبدعة ظلت موضوع سجال لزمن طويل، ذلك أنها حاولت أن تغير الصورة النمطية التي التصقت بها، وأن تشيد لنفسها عالما يحفز على النظر إليها كفاعلة اجتماعية منتجة لأعمال أدبية تَسْتضضْمِر انكسارات الشخصية الإنسانية، وتبوح بالجروحات الثاوية خلف المسكوت عنه، وتضعه على مقصلة التشريح مُسْتَغْوِرَة دواخل الذوات عبر متاهة السرد، ومُسْتَدْرِجَة إليها القارئ حيث يصبح العمل الإبداعي نقطة التحام بينها ككاتبة امرأة، وبينه كقارئ متلقي، وبين النص المكتوب.
باستقراء تاريخ الكتابة النسائية بالمغرب، نجزم أنها عرفت تطورا تدريجيا وكبيرا، رغم الإكراهات التي عانتها المرأة الكاتبة من تهميش وإقصاء، ونظرة ذكورية دونية مجحفة في حقها، وهو ما جعل الكثير من الكاتبات المغربيات في ممارستهن لفعل الكتابة، تتخفين خلف أسماء مستعارة بهدف التمكن من التعبير عن القضايا الوطنية والمجتمعية. ونذكر أن أسماء كاتبات من الرعيل الأول ناضلن لطرح قضايا شائكة، وتعرية واقع موبوء من منطلق مرجعيات متعددة، توزعت بين ما هو وطني، وقومي، وسياسي، وعمالي نقابي، ومجتمعي فئوي، حيث انتقدن السلطة والمؤسسات، ورصدن العلاقات والمعيش اليومي عبر فعل الكتابة أمثال زينب فهمي (رفقية الطبيعة)، ومليكة العاصمي، وليلى أبو زيد، وفاطمة الراوي، وخناثة بنونة، وثريا السقاط، وأمينة اللوه، وفاطمة المرنيسي… لتتوالى الكتابات الإبداعية بالموازاة مع ما تم تحقيقه إثر نضالات الحركة الوطنية النسائية، إذ أنه مع بداية الألفية الثالثة، سيعرف المغرب تحولات انطلاقا من الانتقال الديمقراطي، وعقد مصالحة مع الماضي من خلال خلق هيئة الإنصاف والمُصالحة لمساعدة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، والانفتاح على التجارب السياسية الغربية، والدفع بالجامعة المغربية إلى الانخراط في الحركة الإبداعية النسائية…
إن كل هذه التراكمات وغيرها ستمكن المرأة الكاتبة من تعبيد الطريق نحو الجنس الأدبي الأكثر احتواء لقلق السؤال، وهو الرواية باللغتين العربية والفرنسية في تجربة فريدة ستؤسس للكتابة النسائية بالمغرب، وتغني المشهد الثقافي المغربي. ونذكر من الكاتبات المغربيات اللواتي طرقن موضوعات ساخنة، اعتبرت جديدة كالحديث عن الجسد، وعن السجون وعن المعتقلات… نجد فاطنة البيه، الزهرة رميج، وبديعة الراضي، وبهاء طرابلسي، ورشيدة لمرابط، ولبنى السراج، ولطيفة باقا، ومليكة مستظرف، وخديجة مروازي، وحليمة زين العابدين، وزهور كرام، ونزهة برادة، وربيعة السالمي، وسعاد الرغاي، ووفاء مليح، ومليكة نجيبي، وفاتحة مرشيد… وغيرهن كثيرات
-
المرأة الكاتبة المغربية وجنس الرواية
إن المتأمل لمسيرة الأعمال الإبداعية النسائية المغربية، سيُلْفي أنها شابَتْها خلال فترات طويلة ظاهرة الصمت والإحجام الناتجين عن الشرط الأنثوي الخاص بالكاتبات أنفسهن، والمتمثل في التزامهن الأسري، من جهة، ومن جهة ثانية يعزى إلى الجانب التاريخي حيث غياب نهوض حضاري يطرح مسألة تحرير المرأة المغربية[1] وهو ما أثر سلبا على قيمة الكتابة الفنية. غير أن هذا الوضع سيتم تجاوزه مع انعتاق الصوت النسائي المغربي وتمرده حيث ستكسر المرأة الكاتبة المبدعة جدار الصمت، لنلتقي بمليكة مستظرف التي تعرضت للاغتصاب تصرخ في روايتها “جراج الروح والجسد” قائلة: (بِتُّ أكره من يرفع سبابته في وجهي، ويضعها على فمه)، وكذلك وفاء مليح في تناولها سيرة الراحلة المناضلة سعيدة المنبهي وغيرهما.
سعت المرأة الكاتبة نهاية القرن الماضي إلى الانخراط في التجريب الذي أصبح يكتسح الأعمال الإبداعية، ذلك أن عددا كبيرا من الكاتبات عمدن إلى توسيع أدوات اشتغالهن، وشحذ مخيالهن متمثلات لروح العصر، ولحدود التقارب والتباعد الأجناسي، بل تجاوزت بعضهن إلى اكتشاف طرق حديثة في الكتابة الروائية تراهن على المتغير، وتخوض في موضوعات كانت في عوالم اللامطروق، وهو ما خلق لدى المتلقي نوعا من الارتجاج، وأحدث لديه فجوة بين ما كان وما هو كائن، وما يفترض أن يكون من خلال الجمع بين متعة السرد، ومرارة المحكي في تقصي هموم الذات وانشغالاتها. ولعل الرواية كجنس أدبي لقيط تمكن من احتواء العوالم المتباينة في تجلياتها وتفاصيلها.
-
فاتحة مرشيد وكسر الطابوهات
تعد فاتحة مرشيد الشاعرة والكاتبة الروائية المغربية، قَلَمًا ينفرد عن باقي الأقلام النسائية، في كونها توظف ضمير المتكلم لتكتب بطريقة تميزها عن غيرها من الكاتبات. هي واحدة من الأسماء البارزة التي سعت إلى الارتقاء بجنس الرواية شكلا ومضمونا، محاولة عبره استجلاء الأسئلة المعقدة، وتشريح النفسية العميقة في ظل التحديات الراهنة اجتماعيا وسياسيا وحضاريا.
فاتحة مرشيد، هي شاعرة الذات بامتياز، بل شاعرة كل الذوات، إذ تَعْتَبِر ذاتها مرآة تعكس عليها ذوات الآخرين بما فيهم الرجل من خلال أعمالها. فهاجس الكتابة عندها جعلها سفيرة لدى كل الذوات الأخرى حيث مدت يدها للرجل لإعادة العلاقة بينه وبين المرأة على أسس جديدة علما أنها تؤمن بالاختلاف. لم تكتب يوما انتقاما منه على ما فعله ذات كتابة حين كان يعتبر المرأة مجرد أثاث يزين به إنتاجه. يبدو ذلك جليا في متن روايتها الملهمات، والحق في الرحيل ولحظات لا غير.
فاتحة مرشيد روائية مغربية، تشتغل طبيبة أطفال، تمارس العملية الإبداعية كما تمارس طب هذه الفئة الأكثر حساسية وبراءة باحترافية عالية، وبجرأة ملفتة. أعلنت تمردها على الكلمات المتخفية خلف حجاب وخلف الصمت المفروض على الشفاه، لذلك عرفت رواياتها جدلا كبيرا. لقد صرحت بالكثير من شؤون الحب التي ظلت طابوهات في الأوساط الحديثة، وتمكنت أن تؤسس رؤيا خاصة إزاء الذوات المحيطة بها، حيث حررت فعل الحب هذا من الطقوس الأدبية التقليدية، وهو ما جعل حضورها في المشهد الثقافي بارزا ومختلفا.
إن الدارس لأعمالها الإبداعية سيقف حتما على تجربة غنية، اعتبرها النقاد رائدة ومتفردة، ذلك أنها تنتصر لهشاشة الإنسان، وقد عبرت عن ذلك في أكثر من مناسبة، إذ صرحت أنها تكتب أدبا إنسانيا أكثر منه نسائيا، وإن كان الأدب النسائي يفرض نفسه من حيث الطرح.
تَعْتَبِر فاتحة مرشيد الكتابة نوعا من العلاج النفسي biblioterapie ، ونوعا من المصالحة مع الذات ومع الآخر، حيث تُمَكِّنها من وضع اليد على الجراحات المثخنة، وأنه على الكاتب أن يسلط الضوء على كل الجوانب العفنة والخفية في مجتمعه، إذ أنه يتحمل مسؤولية كشف المخبوء، ويساهم في رفع درجة الوعي من خلال القبض على الأسئلة المثيرة للقلق، ذلك أن مهمة الأدب لا تنحصر فقط في خلق المتعة لدى المتلقي.
لقد سعت فاتحة مرشيد إلى تعرية الجسد من خلال كتابتها الروائية الجريئة “لحظات لا غير” 2009، و”مخالب المتعة” 2010 ، و “الملهمات” 2011 ، و “الحق في الرحيل” 2013 ، و” التوأم” 2016 ، و “انعتاق الرغبة” 2019، و “نقطة الانحذار” 2022، حيث عودت قارئها على العيش في عوالم روايتها التي تناولت موضوعات مسكوت عنها، تشخصن حالات وأحوال شخوصها، مستعرضة بؤر التصدع فيها عبر موضوعات من قبيل الموت الرحيم، والشذوذ الجنسي، والمثلية، والدعارة، والاغتصاب، ودعارة الرجال، والتحرش الجنسي، والجهل، والتشرد، والبطالة، والهجرة، والضياع ، والحلم الأمريكي المزيف، والقلق السياسي، والاعتصامات، والإرهاب، والاستبداد، والفوارق بين الطبقة ، زيادة على أنها أثارت إشكالية المثقف… تذكر الكاتب في روايتها الحق في الرحيل على لسان إحدى شخصياتها:”( وبعد قطع اللسان؛ ما الذي يفعلهُ الإنسان؟ اللسان هو الصوت، هو الصرخة، هو الاحتجاج، هو الكائن الذي لا يمكن تجاهلهُ، هو الذي يرعبُ عوالم الدمار والخوف، بعد أن تتوقف عن الكلام، ما قيمة الحياة؟… كيف ستدافع وتبحث عن الحقيقة وسط زحامٍ وصراخٍ يطبق السماوات على الأرضين؟!!)، نلفي الكاتبة توجه رسالةً انسانيةً الهدف منها ضرورة العمل على اتخاذ قرارات لتنزيل قوانين حقوق الإنسان على أرض الواقع، حتى لا تظل مجرد حبر على ورق.
مما لا شك فيه، أن القارئ لأعمال فاتحة مرشيد سيلحظ من خلال المتن السردي لرواياتها أنها نقلت تجربة الشعر الى الرواية، حيث وظفت آليات الشعر بما يتلائم مع جنس الرواية ومغاليقه. ويمكننا القول إنها الروائية المغربية والعربية الأولى التي اختطت لنفسها هذا المذهب، واشتغلت عليه. وقد تمكنت من أن تجمع بين الجنسين، لتُنتجَ نصوصا شكلت المتغير في عالم الأدب، وبالتالي قدمت للقارئ انطلاقا من هذا المزيج الشعر-نثري نتاجاً جديداً [2]، هو بمثابة مقطوعات سمفونية معزوفة بدقة عالية. وبذلك تكون قد تجاوزت مرحلة الاجترار، وتكرار ما كان إلى إبداع نصوص تناولت موضوعات قوية بوعي كبير، إذ نظرت إلى الجنس بمنظور المثقف، ومنظور الطبيب الجراح المُشَرِّح، وربطت بينه وبين السياسة وكأنهما توأمان، وقد بدا ذلك واضحا في عدد من الحوارات عبر المتن السردي في روايتها، كما أنها تمتح من معين الثراث العربي الشعبي والغنائي، والثقافة الأمازيغية، والأمثال مستعينة بتجربتها.
-
فاتحة مرشيد والتجديد:
تمتلك فاتحة مرشيد ثقافة موسوعية أهلتها لطرح مشروع جديد من خلال التَّفَكُّر في أسئلة عميقة وكبيرة، على الجميع أن ينخرط فيها ليجد الأجوبة الصحيحة. فحين توقّفَ قلب (أسلان) إحدى شخصياتها، وجد القارئ نفسه اما أسئلة حارقة ومثيرة، هل يعتبر هذا التوقف جريمةً أم حقا مشروعا للتخلص من موتٍ بطيء؟ هل كان لابد أن يحدث الرحيل لتتحرر الذات؟ أم سيظل جريمة يحاسب عليها القانون، ويعاقب عليها الشرع؟ هي أسئلة تظل قابلة للنقاش من منطلق خلفيات متعددة.
-
موسوعية فاتحة مرشيد
تظهر موسوعية فاتحة مرشيد في زخم الاستشهادات التي أوردتها في متونها، وأسماء المثقفين والكتاب والسياسيين التي استعرضتها، كفيرجينا، وولف ومكسيم غوركي، وفان غوغ، ونستون تشرتشل، وروني شار، وأوسكار وايلد، وجورج ساند، وموريس شبلا، وفرناندو بيسوا، وجبران خليل جبران…
ولعل الكاتبة فاتحة مرشيد لم تكن تهدف إلى الظهور بمظهر الكاتبة المتبجحة بكَمِّ قراءاتها واطلاعها وتعدد مشاربها بقدر ما رامت التنوع، والتعبير عن مواقفها، واستدراج القارئ إلى لعبتها السردية عبر فعل مجابهة النصوص.
-
خاتمة:
سعت الكاتبة إلى إيصال رسائل إلى القارئ، حين قدمت له كل الآليات لمواجهة عوالم صراع أثارته بكل جرأة عن هوية الجنس الثالث باعتباره نتاجا بيولوجيا، وموقف المؤسسات منه، وعن الحق في الرحيل بين الرفض والقبول، وعن الحلم الأمريكي المزيف والتيه بين عالمين متناقضين، وصدمة المهاجر نحو بلد يعتبره الارقى ليموت غريبا ومنبوذا بين ارصفته… وغيرها متمثلة فعل القراءة علاجا للشروخ النفسية، حيث تُفصح في إحدى رواياتها، قائلة:” يقولُ المصريون القدامى بأن المكتبةَ طبُّ النفوس”.
يمكن لقارئ فاتحة مرشيد بعد جولة متأنية في أعمالها الإبداعية أن يقول بأنها نجحت و بامتيار في أن تتجاوز كل معاني التكرار والاجترار وان تكسر الصورة النمطية حول المرأة الكاتبة المغربية بل الكتابة النسائية عموما إلى إبداع صورة حديثة تشخصن الواقع وما وخلفه، مقدمة للقارئ المغربي والعربي وصفة علاج فريدة من نوعها تختزلها في فعل القراءة
[1] جمالية السرد النسائي، رشيدة بنمسعود، ص. 15
[2] الأقنعة في روايات فاتحة مرشيد، وليد جاسم الزبيدي (بتصرف)