د. ميسون حنا/ الأردن
سوف أتناول بتعليقي على بعض قصص المجموعة القصصية “الذي سرق نجمة” للدكتورة سناء الشعلان(1)، وسأستهل هذا بالتعليق على القصة الأولى، وعنوانها هو نفس عنوان المجموعة القصصية. إذن عندما يشعر بطل قصة “الذي سرق نجمة” أنه ضعيف عاجز يتسربل خلف أكاذيبه بخيوط وهمية توصله إلى شواطئ أمان يراها في عيني حبيبته الحولاء التي تصدق أكاذيبه التي هي في الحقيقة ليست أكاذيب إنها أحلامه التي بها فقط يشعر بالقوة. نعم؛ تصدقه ببراءة طفولية لا تليق بواقعها الحقيقي وهي الثرثارة الفاشية للأسرار، ولكنه يراها متحدثة بليغة، إلى هذا الحد نرى أحلام الشاب، وثرثرة حبيبته مقبولان، حتى عندما يقنعها بحلمه الفريد من نوعه بأنه سرق لها نجمة من السماء كي تكون هدية عرسها، وتُشيع هي الخبر بثرثرتها المعهودة، ويبلغ هنا الحلم أوجه، إلاّ أن هناك من يقف لنا بالمرصاد ليسرق أحلامنا ألا وهو السلطة التي تريد أن تهيمن على أحلامنا وتدنسها لتتزين بدورها بالبراءة والطهارة، فيغدو بطل قصتنا سارقاً حقيقياً، ومحاولته في اظهار الحقيقة واعترافاته أنه كاذب ذهبت أدراج الرياح، والثرثارة حبيبته قطع لسانها ليسدل الستار على حكايات حبيبها وحكم عليه بالسجن المؤبد وعندما أيقنت الدولة أنه باع النجمة إلى جهه معادية أتهم بالخيانة العظمى وحكم عليه بالموت شنقاً، نعم حكم عليه بالموت ليعيش حلم نقيض، حلم السلطة بالبراءة والنزاهة والطهارة لتحجب عن أعيننا واقعها المتورط بالفساد والخيانة والظلم الذي يستشري بين رجال الدولة والمتنفذين والسياسيين والأحزاب وحيتان التجارة … إلخ، فتدوس السلطة واقعها العفن لتحلق في سماء حلم الطهارة. هنا الكاتبة تبين لنا مفارقة لطيفة بين حلم وحلم وما بين الحلمين تكمن الحقيقة.
قصة كتبت بلغة رشيقة وغنية، فالدكتورة سناء تملك ملكة فريدة من نوعها لتتلاعب بالكلمات وتزخرفها، بل هي تنفخ فيها الروح، نعم الكلمات عند الدكتورة سناء لها أرواح تعبر عن ذاتها بذاتها.
أرادت الدكتورة أن تعبر عن فكرة تكاد تبدو بسيطة إلاّ أنها ببساطتها تسيطر على نظام حياتنا في الكون، ألا وهي الحب الذي أشبهه بالماء، فالماء ببساطتها وخلوها من اللون والرائحة ويقال أيضاً الطعم، مع أني اجزم أن لها طعماً فريداً من نوعه جمع مذاق كل شيء في الكون ليطعّم حياتنا بألف معنى، نعم الماء الذي به فقط نحيا ومن دونه الموت الزؤام، وكذلك الحب الذي به فقط تحيا قلوبنا وأرواحنا، ومن غيره تغدو نفوسنا خاوية فارغة لا قيمة لحياتنا من دونها، الحب الذي ينبض به كل قلب مفعم بحب الحياة كما عبرت الكاتبة: “أنا مخلوقه للفرح وبالفرح، أحب الحياة، أحب نفسي، أحب المباهج، وأحب السماء والأرض وما بينهما من بشر وملائكة وشياطين وخلق، والآن أنا أعشقك …”. نعم فلا يتقن الحب من أخل ببند من بنود العشق اللاتي ذكرتها الكاتبة، فللعشق أصول كامنة في قلوبنا ومهيمنة على أرواحنا وبإدارة عقولنا التي بهديه فقط تقود خطانا إلى النور، قلوبنا من غير الحب تبدو كصندوق خشب أجوف يسهل تحطيمه، الحب كلمة بسيطة ولكنها تتغلغل في حياتنا لتكسبها ثراء، ومن أتقن لعبة الحب بحذافيرها، وبرع في التجوال في أقطارها والتناغم معها كانت له حظوة ليتربع على عرش السعادة والنجاح، ولا أقصد هنا نجاح قصة حب بين ذكر وأنثى، بل النجاح الذي يكتسبه من خاب بقصة حبه، ففشل المرء بحكاية عشقه تكسبه نجاحاً يقوده للمعرفة ويكسب نفسه ثراءً روحياً ينبض بحب ما، لشيء ما، لقيمة ما.
القصة مثيرة للجدل، وممتعة قراءتها إذ تدخل عوالم فسيحة من الأمل والخيبة، نعم الخيبة التي تقودنا للأمل، أجواء القصة تنبض بحب عفيف، فتقول الكاتبة “أنا إمرأة بامتياز، وفنانة بمهاره، وخادمه بالفطرة، وجارية بالسليقه، وقديسة بالعفاف، وماجنة بالكلمة، وطاهرة بالجسد، وسادية بالموهبة، ومؤمنة بالقلب، وكافرة بالشك، وثائرة بالسلوك، وداجنة بالعطف … ص52”.
برعت الكاتبة في تصوير الحب النقي الذي لا ينتظر مكافأة، ولا ينتظر رد فعل مقابل. القصة تذكرني بقصة حب مجوسية للكاتب عبدالرحمن منيف، ولا أقصد هنا تشابهاً بين القصتين، فكل من الكاتبين له أسلوبه وبراعته، وفلسفته في العشق المجوسي المترهب.
-
أما في منامات السهاد، واستهلالة رائعة تقول “أفلح من نام، وتعس من استيقظ”، فالواقع المرير الذي تعيشه الأمة العربية بحاجة إلى مورفين لنتلفع بالسعادة الوهمية ولو لمدة قصيرة، فالوهم الذي نعيشه في لحظات يعطينا قوة عندما نستيقظ لنتابع شقاءنا بعده بخطى ثابته معتادة، وعندما نشعر بالضنك، وتجثم على صدورنا صخرة، نطلب شهيقاً لا يتحقق إلا في منامات لطيفة تحققها الكاتبة للجميع بلا محاباة، فمنام السلطان الذي بطبيعته كما يتخيله المنطق يكون مناماً نقيضاً لمنام الشعب، فلكل من النقيضين آماله التي إذا تحققت تكدر الآخر، هذا الافتراض واقع في مجتمع يخلو من العدل والمساواة، بل هناك انتهاك لحقوق الإنسان ظاهر للعيان، وتسترسل الكاتبة في منامات شتى وتختم المنامات في رائعة منام المنام الذي أدعو لقراءته كما هو، فهو بشفافية لا يحتمل تأويلاً وكما تقول الكاتبة “هكذا هي الدنيا منام لا يدرك مناماً”.
-
وللحب سطوته على كتابات الكاتبة مرة أخرى، ففي قصة “جريمة كتابة” تغير الدكتورة شخصية الطبيب النفسي المعالج لمريضة تعاني من جنون غريب هو عبارة عن طفرة سلوكية، فهي كتبت قصصاً استشرافية تنبؤية ارتبطت بنهايات مأساوية جرمية، وإذ تحققت تنبؤاتها اتهمت بالجريمة، وحيث أنه لا توجد أدلة تدينها حولت إلى المستشفى للعلاج ولدراسة حالتها النفسية، وفي جلسة علاجية يسألها الطبيب: ما هو حلمك؟ فتقول: أن أخلق من أعشقه، وأخلق للناس من يعشقونهم بالكلمات، واقترحت عليه أن تقرأ له قصتها الحلم، وفعلاً قرأتها عليه في ساعات وأيام، استمع إليها الطبيب بانتباه، وهي ترسم ملامح رجلها، بل ركبت أجزاء الفرح التي تصنع روحه ووجوده كما تقول الكاتبة، بدأ الطبيب يتأثر بروح قصتها المفعمة بالحب والأحاسيس والمشاعر الفياضة، أصبح يلتهم كلماتها في عقله الباطن وفي الوعي يعيش حياة جوفاء خالية من المشاعر التي تزخر بها القصة مما أضفى عليه جمالاً روحياً ليرى الكون بشكل بهي فرح متفائل وأدرك أن العمل يصبح حرفة سعادة وإسعاد وعطاء لا حرفة دخل وتوفير نفقات، وأصبح العشق عنده قضية، وبدأ يعيش قصة حب جديدة مع زوجته وأبنائه، وأحفاده، وهو رجل سبعيني جعلت منه الكلمة شخصاً جديداً مفعماً بالحياة والحيوية والنشاط والإقدام على الحياة ، وأدرك أن مريضته ليست مريضة ولا مجرمة، بل هي قاصة فطرية إبداعية قادرة على الاستشراف والتنبوء.
تريد أن تقول الكاتبة إن السعادة لا تتحقق إلا بالحب، وهذا أمر بديهي، ولكن الجميل أن يكتب بأسلوب رشيق ليضفي على أرواحنا بهجة، فالعلم بالشيء لا يكفي، وإنما أن نعيشه بوجداننا وأحاسيسنا من خلال قراءتنا لقصة تدخلنا في عوالم شتى شيء آخر، وهذه هي رسالة الكتابة التي أرادت الدكتورة أن توصلها لنا بأسلوب شيق متمع. فالكتابة رسالة تدخل البهجة والرضى على النفوس، وتنير العقول وتدفع المرء للإقدام على الحياة وطلب العُلى.
المجموعة القصصية ممتعة وإذ علقت على بعض من القصص لا يعني أن القصص التي لم أذكرها لا تستحق الكتابة عنها بل لتكن هي دعوة لقراءتها والدخول في عوالمها المبهجة.
الإحالات:
سناء الشعلان: الذي سرق نجمة/مجموعة قصصيّة،ط1،أمواج للنّشر والتّوزيع، عمان، 2016.
أديبة ومسرحيّة