الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة درس في تكريس بناء السلم ونبذ العنف

رشيد المشهور – أستاذ الفلسفة

 

1- السياق:

على غرار احتفال منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) بمجموعة من الأيام العالمية التي دأبت على تخليدها سنويا حول مواضيع وأحداث وقيم ورموز مختلفة (على سبيل المثال اليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية)، شرعت في إحياء اليوم العالمي للفلسفة الدورة 15. وللإشارة فالاحتفال باليوم العالمي للفلسفة من لدن منظمة اليونيسكو جاء نتيجة طلب تقدمت به كل من جمعية أصدقاء الفلسفة والجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة في سنة 2002، وذلك عبر وزارة الثقافة المغربية. وأصبح الاحتفال رسميا باليوم العالمي للفلسفة فيما بعد،الذي يصادف ثالث خميس من نونبر من كل سنة.

• آليات الاحتفاء:

لقد ركزت اليونيسكو، وهي بصدد الاحتفاء باليوم العامي للفلسفة، تقديم  أنشطة إبداعيةمتنوعة تجعل من الممارسات الفلسفية الجديدة، وخاصةالموجهة للأطفال والشباب منطلقا لها. إضافة إلى ذلك، عقد ندوات ومحاضراتوحلقات نقاش ومؤتمرات وموائد مستديرة، حول قضايا القيم والوجود والمعرفة، وكذا تقديم عروض راقصة ومسرحيات، بحضور مجموعة من الفنانين والفلاسفة والمهتمين بالقضايا الإنسانية من الحقوقيين والمنظمات غير الحكومية والفعاليات المدنية.

 

تمييز

–الممارسات الفلسفية الكلاسيكية:

إن الممارسات الفلسفية التربوية عرفت تحولا عميقا منذ نشأة الفلسفة إلى اليوم؛ حيث كان الفلاسفة في الحقبة اليونانية يؤسسون مدارسهم الخاصة من أجل تعليم أتباعهم (أسس أفلاطون الأكاديمية، وأرسطو الليسي)[1]. أما في العصر الوسيط فتماهت الفلسفة بالدين وكانت مسخّرة له (اللاهوت الديني المسيحي والفلسفة الإسلامية، والفلسفة اليهودية). في حين أصبحت تدرّس في المدارس الدينية في العصر الحديث في أوروبا، وبعدها دخلت إلى الجامعة. وخلال الفترة المعاصرة دخلت الفلسفة إلى التعليم الثانوي، باستثناء بعض الدول الأنجلو-ساكسونية.

– الممارسات الفلسفية الجديدة:

ممارسات فلسفية ازدهرت في الثلاثين سنة الأخيرة، وهي موجهة لجمهور واسع يشمل فئات الأطفال والشباب، تُقدَّم فيها الفلسفة خارج إطارها الكلاسيكي، ولغتها وأشكال تعبيرها التقليدية. وتُنجَز في شكل ورشات عمل، وروايات قصيرة، ودورات تكوينية، والمقاهي الفلسفية، والنوادي السنيمائية الفلسفية، والفلسفة في الشارع وغيرها. وقد مهّدت أعمال كل من الفيلسوف الأمريكي “ماثيو ليبمان” “Matthew Lipman” الذي أسس بنيويورك سنة 1990″معهد النهوض بالفلسفة للأطفال”، وأستاذ علوم ديداكتيك الفلسفة وعلوم التربية بجامعة مونبوليي  بفرنسا3،الطريق مستقبلا للممارسات الفلسفية الجديدة وبخاصة منها تلك الموجهة للأطفال.

• مكانة قيمة السلام في الفلسفة:

إن قيمة السلام لا تندرج خارج الفعل الإنساني، والممارسة الفردية والجماعية وغايات السلوك الإنساني، فهي تأتي في سياق فلسفة الأخلاق والجمال والمنطق، والفلسفة العملية. ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن قيم الخير والجمال والحق. فهي قيمة أخلاقية سامية وأساس التعايش الحضاري، والإيمان بالاختلاف والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، محليا، وإقليميا، ودوليا.

إن قيمة السلام لا تتخذ معناها الفلسفي، إلا بالتمييز بين التوجهات الفلسفية الكبرى، والدرايةبالحياة الإنسانية العملية والروحية التي تتقاذفها الحاجاتوالرغبات، وتتأرجح بين الحرية والحتمية، والهوية والاستيلاب، والمحكومة بالأفعال والغايات والأحكام التي تؤسسها وتضفي عليها الدلالة والمعنى، وتمنح للإنسان فيها قيمة سامية.لذلك، فالسلام بناءعقلي تأملي قبل أن أن يتجسد في معناه القانوني والقيمي السلوكي. وغايةتكريس السلام في الأذهان تحقيق حياة مشتركة “أفضل” حاضنة للإنسانية جمعاء ونبذ العنف واجتثاثه في الأعيان، وفي مختلف تجليات تواجده وتلويناتها المادية والرمزية.

إن قيمة السلام، في هذا السياق، ليست مجرد شعار فارغ أو إرادة طيبة مثالية، وإنما تتخذ معنى فلسفيا بوصفها قيمةكونية تتداخل وباقي القيم الأخرى. ومن ثمة،فتأملها، والتفكير في العدة الديداكتيكية والطرائق البيداغوجيةللتربية المعرفية عليها من شأنه أن يجردها من طابعها الدعوي والاختزالي والخلاصيوتثبيتها في الأفعال والتصرفات الملازمة للمعيش الإنساني. في ظل واقع عالمي مأزوم أخلاقيا، ومليءبالتيارات التي تسعى إلى احتكار المعنى وتكفير الاختلاف والتميز وقيم التعايش، وتجعل من العنف السبيل الأنسب لتدبير الخلاف والاختلاف. وأخصهنا بالذكر الجماعات الإرهابية من كل لون، المادية منها والدينية، وسيادة القيم المادية والاستهلاكية في الفترة المعاصرة.

• قيمة السلام في الفلسفة الكانطية أنموذجا:

إن تاريخ الفلسفة مليء بالنماذج الفلسفية التي أسهمت  في بناء صرح القيم الإنسانية بعامة، وقيمة السلام بخاصة؛ في هذا السياق يمكن العودة إلى الفلسفة اليونانية مع سقراط الذي “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”، فبدل اهتمام الفلسفة بأصل الكون مع الحكماء الأوائل طاليس وغيره، اهتم سقراط، عبر منهجه التوليدي، بشؤون المدينة-الدولة، وبمساءلة القيم الإنسانية، قيم الفضيلة والحق والعدل والخير. وفي العصر الحديث نجد إيمانويل كانط في مقالته “ما التنوير؟qu’est-ce que les lumières” يدعوا إلى رفع الحجر والوصاية على الإنسان، وتحمل مسؤوليته في استعماله لعقله دون الخضوع لأي إرادة خارجية سياسية كانت أو دينية. وبشكل عام، يؤسس كانطفي مشروعه النقديوالتنويري إلى مناهضة التقليد الميتافيزيقي، وكل أشكال العنف السياسيوالديني.

وفي هذا السياق، نجد التوجه ذاته الذي جسّده كانط في مقالة الشهيرة “مشروع من أجل سلام دائم” الذي حاول فيه جعل المقاربة القانونية المدخل الأساس إلى بناء المجتمع المدني العالمي الكفيل بتحقيق السلام الأبدي، والهدنة الدائمة، والحد من الحروب التأديبية وحروب الإبادة، ووضع الدسائس وغيرها. والفكرة نفسها اعتُبرت الأرضية الصلبة للمناقشة الفلسفية لدى هيجل ونتشه، وفيما بعد، هابرماس خاصة الذي أكد أن المشروع الكانطي ما زال راهنيا في ظل التفكك الذي يعيشه الإنسان المعاصر وفلسفة ما بعد الحداثة، وما يعرفه المشهد العالمي من حروب وأشكال العنف وهدر للكرامة الإنسانية. لذلك، اعتبر هابرماس أن مقالة ” مشروع  من أجل سلام دائم” تتضمن مفهوم قانون المواطنة العالمية الذي يضاف إلى قانون الدولة وقانون الشعوب؛ وهو ما ترتب عنه خضوع الدول التي تحترم حقوق الإنسان إلى منظومة قانونية دولية متكاملة، تنظم العلاقات فيما بينها.

• استنتاجات:

إن الاحتفاء إحياء للذكرى وتخليد لها، وإذ تحتفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة باليوم العالمي للفلسفة، جاعلة من “بناء السلام في عقول الرجال والنساء” شعارا لها، فهي تحتفي بالإنسان وحياته. وتحتفي بقيم التعايش والتسامح  والحق، والخير، والجمال، والاحترام المقدس للحياة أمام تَغَوُّل قوى الشر والعنف والحرب وما يلازمه من قتل مادي ورمزي للإنسان والثقافة والحضارة. وما نعاينه في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من أعمال عنف لأكبر حجة على ذلك. والإحتفاء بالفلسفة، علاوة على ذلك، هو دعم للفكر النقدي والحر، في مقابل الفكر العامي “Doxa” الساذج، والفكر المتطرف؛ وهو تكريس لثقافة السؤال والاندهاش من الوجود، والبحث المشترك عن الحقيقة، واتخاذ الحجاج والبرهان وسائل للإقناع، بدل الشطط الفكري والتعسف في فرض المواقف. باختصار اعتماد منطق الكلمات لا منطق اللكمات في الاقناع والاقتناع بين الأفراد والجماعات.

 

 

• Chiara Cavalli, « Réflexions sur l’étonnement et l’enseignement de la philosophie au pré-universitaire », Éducation et socialisation, 39 | 2015.
• Michel Tozzi, « Des contributions utiles à la recherche sur les pratiques à viséephilosophique avec les enfants en France », Éducation et socialisation, 39 | 2015.
• Michel Tozzi, Penser par soi-même.Initiation à la philosophie (2eéd.), Lyon, Editions de la Chronique Sociale, 1995.
• Emmanuel  Kant: qu’est-ce que les lumières?(1784)
• http://www.unesco.org/new/ar/media-services/single-view/news/three_days_and_one_night_to_celebrate_philosophy_at_unesco/
• السيد ولد باه، نظرية كانط في السلام الدائم: قراءة يورغن هابرماس، مجلة التفاهم، العدد الثالث والأربعون، السنة: الثانية عشرة، شتاء:  1435هـ / 2014 م.

[1]– كانت الفلسفة تمارس كذلك في الأغورا والحديقة والرواق والوليمة.