عزالدين بوركة
صارت الحداثة تكتسح كل المجلات، على حدّ تعبير المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، ولم يعد باستطاعتنا توقيفها.. إنها لازمة العصر، ومحركه إلى الأمام، بحيث أخذت تنتقل من “المعمل” إلى “المدرسة” إلى “الأسرة” فإلى “الروح” نفسها تستأثر بها، واستحالت هي تغزو في أوان متخالفة وبإيقاعات متباينة مختلف دوائر المجتمع بلا استثناء.1.
إنّ سِجال الحداثة لم يُحسم بعد في الحقل الثقافي العربي ، وإن كانت الحداثة أحد أبرز الاهتمامات الفنانين (التشكيليين بالخصوص)، القبلية والسوسيوثقافية، والمثقفين بالعالم العربي. غير أنه أصبح أمرا متجاوزا (الحديث عنها) في العالم الغربي، إلى الحديث عن “ما بعد الحداثة”، وإن كان هذا المفهوم (الشمولي الفلسفي) العميق، لا يمثل، أبدا، مرحلة تقع خارج الحداثة (وبَعدَها) إنه أقرب ما يكون إلى مراجعة الحداثة لنفسها، لنقد بعض أسسها وتلوينها..2. إنها بذلك في “دينامكية متواصلة”.. لا انقطاع فيها إلا مع الموروث القديم الذي بقدر ما تتجاوزه تحاول إعادة احتوائه لا نبذه.. إنه بذلك “قطع ووصل”، لا كما يتوهم البعض؛ إن الماضي هو “حضور دائم” في الحاضر والمستقبل. إنه مقياس تحديد مستوى تقدمنا من عدمه. والحداثة في شقها الثاني هي إدماج هذا الماضي في مخاضها المتجدد.. في دينامكيتها.
إن ارتبطت الحداثة (الكلاسيكية) في بداياتها بـ “العقلانية” كرديف أساس للعقل في العالم الغربي. مما جعل الغرب يتقبل تجدداتها وتمثلاتها ويعرف/يعيش جلّ مخاضاتها.. إلا أن “العقل” ظلّ عندنا “نحن” محدودا بأمرين، أولهما: هو اعتبار أن فوق كل عقل ثمة “عقل أعلى” هو “المطلق” أو “العلم” أو “اليقين” بالمعنى المطلق. فلا مجال هنا لإعمال “الفحص” و”التأمل” و”الحيرة” و”الشك”. هنا يكون اليقين حاصلا قبل النظر.3. وثانيا أن هذا العقل العربي عقل تأملي فردي.. ظلّ حبيس الرؤية التأملية النظرية، غير قادر على الانتقال إلى “العَمَلي”، كما يرى العروي، “وإن يرى [العروي] أن لا حداثة بدون نزعة فردية. والذي عنده أن: “الحداثة تنتصر ومعها تنتصر النزعة الفردانية”. وهو يؤكد على أن “بداءة الحداثة” هي تسلل مفهوم “الذات”، ذي الأصول الفلسفية، إلى الفكر الغربي برمته. وفي مرحلة ثانية صارت هذه “الذات” “فردا”، بالمعنى الاجتماعي والسياسي للكلمة؛ عنينا الفرد العاقل الذي أسهم في إنشاء التاريخ المعقول والاقتصاد العقلي والسياسة العقلية التعاقدية. ذلك كان مفهوم عصر الأنوار لمعنى “الفرد”. وفي عهد ثالث اقترن مفهوم “الفرد” بمعنى المبادرة الخلاقة حيث صير إلى التخلي عن “تجريدية الأنوار” –الفرد العاقل الذي لا وجود له في الواقع التاريخي ولا قيام- واستعصى عنها بتبني مفهوم “الفرد الفاعل”؛ قصدنا الفرد الفاعل الواقعي لا الفرد الخيالي4. وهذا المفهوم هو الذي يقف عنده العروي مرتضيا إياه، ويجد أنه يلائم وضعنا الاجتماعي والاقتصادي ويؤهلنا لتبني الحداثة. أما العهد الرابع، فهو عهد “الفرد المغاير” المخالف. وهو عهد لا يجذ العروي أنه يناسب ما لدينا لأنه يعكس الروح النخبوية المتمردة على الديمقراطية والاشتراكية.
أما عندنا فإن الفرد ما كان هو نتاج المبادرة وإنما “الفردانية [كانت] ثمرة الاستبداد وثورة سلبية عليه”. إذا كانت تجربة الدولة الإسلامية هي تجربة “التخارج بين قانون الجماعة ووجدان الفرد”. الفرد أثناء هذه الدولة “إمّعة” “مستعبد” “مستتبع” “ملحق” عبد مؤتمر ومملوك ملبٍّ: “الفرد داخل الدولة [القديمة] مستعبد بالتعريف، فلا يعرف الحرية إلا إذا خرج منها أو عليها” وإنه للفرد المتوحد النابتة الذي ” فردانيته [هي] نتيجة جدلية للسلطنة القائمة –يقول العروي. والحال أن في الدولة هذا شأنها –الدولة السلطانية- يصير الفرد العاقل يرى فيها، قبل كل شيء، أنها “جهاز قمع”، وأن له الحق في أن ينجو بنفسه، كما أن له الحق في أن يحقق حريته عن غيره بمعزل، فيكون أن يطلب الطوبى التي لا تتحقق: دولة الحكمة (الفيلسوف النابتة)، أو دولة الخلافة (الفقيه المقهور)، أو دار السعادة (الصوفي). الحل عنده حل فرداني طوباوي لا يستهدف “تأنيس الدولة” وإنما هجرها والفرار. وما من سبيل إلى تحقيق هذا المبتغى الانعزالي إلا بتخيل يوطوبيا فراره. والحال أن من شأن هذا الحل الفرداني أن يناقض العقلانية السياسية والاجتماعية. إذ لا أمر من هذه الأمور بمكنته أن يتحقق بالفرد الأوحد الأعزل وعن الدولة بمنأى ومبعد ومعزل.5. وهذا نجد عبد الله العروي يقول بصريح العبارة بإحداث قطيعة مع الماضي، إن نحن أردنا بالفعل تقعيد “حداثة” عربية. ويقول بضرورة الحسم في هذه القطيعة إذ ثبت عنده أنه: “لابد من الاختيار، من الفصل والحسم والحزم، إذ في الحزم يكون رفض كل ما هو تقليدي من جميع النواحي. ثمة إذن أمران أساسيان ومتلازمان عنده: “الاختيار” –ما هو اختيار “النفعية” و”العقلانية” و”الليبرالية”؛ وباختصار اختيار “الحداثة” –و”الحسم”- وهو القطع مع الماضي قطعا بلا مطمح عودة أو ترجية رجعية أو تأميل أوبة.
بينما يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري، أنه لا يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية، هذا أولا. وثاني الأمر بدون ديمقراطية. فالحداثة بالتالي عن الجابري هي “عقلانية وديمقراطية”. هذان الأمران اللذان يرى بكونهما ليسا بضاعة تستورد بل لهما ممارسة حسب القواعد. ويرفض الجابري الانصراف بالكلية إلى التراث (الماضي)، كما يرفض الانسلال عنه بالكلية. “فنحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة “العالمية” كفاعلين وليس كمجرد منفعلين”.7. إنه بهذا يدعو إلى إعادة تأصيل التراث لا الرجوع إلى الأصول. أي إعادة تأصيله وفق “شروط عصرنا”. إنها علاقة ثنائية قائمة على الوصل والفصل، لا القطع. إنها دعوة إلى تحديث فكرنا وتجديد أدوات تفكيرنا وصولا –على خد تغبيره- إلى تشييد ثقافة عربية معاصرة وأصيلة معا.
وإن يذهب العروي عكس ما استهللنا به نصنا بكون الحداثة إعادة إدماج الماضي، الذي هو حاضر باستمرار في الحاضر، فنتفق في الدور الهام الذي يلعبه “الفرد” والفردانية في استثبات “الحداثة”، لما للذات/ الفرد من دور هام فيها إن هو تجاوز “العقل التأملي” إلى “العقل العملي“. ونتفق والجابري بأن علينا مساءلة الماضي إن نحن أردنا تأسيس حداثة خاصة بنا، نكون عبر فاعلين في الحداثة العالمية. غير أنه لا يمكننا نكران دخول الحداثة إلى الفضاء العربي (ولو بشكل تجزئي لا كلي)، فهذه “الحداثة العربية الإسلامية لم تكن اختيارا ذاتيا، ولم تنتج عن مخاضات داخلية، أي لم تكن نتيجة تطور وارتقاء ذاتي، بقدر ما كانت وسيلته وأداته. لقد ارتبط دخول الحداثة إلى الفضاء العربي الإسلامي منذ البداية بصدمتين قويتين: صدمة الحداثة ذاتها بجدتها وغرابتها وغرائبيتها وأعاجيبها وقدرتها السحرية والساحرة، ملفوفة في صدمة أخرى هي صدمة الاستعمار وزوال السيادة، مع ما ولدته هذه الصدمة من شعور بالدونية والتأخر وكل المشاعر الارتكاسية العاكسة للصدمة النرجسية القوية للثقافة المحلية. ولدت هذه الصدمة المزدوجة والمضاعفة على مستوى وعي النخب، ردود فعل متباينة من إحياء ردود فعل العضوية الرافضة والداعية إلى العودة إلى الأصول والاحتماء بالتراث وتمجيد الماضي، وأمثلة عالم الأجداد، إلى انبعاث ردود فعل النقد الذاتي والخروج من شرنقة أوهام الذات الجماعية عبر نفسها، والدعوة إلى الاحتفاء بالأخر واقتباس علمه وتقنيته ونمط تدبيره السياسي، وثقافته ونمط نظرته للوجود.”7.
إذا كانت الحداثة الكلاسيكية تتميز بعقلانية أداتية صارمة، وبنزعة تقنية وبقدرات لا متناهية على السيطرة على الطبيعة والإنسان، فإن ما بعد الحداثة تحاول تقديم صورة أكثر إنسانية عن الحداثة بحيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والمعاني الغائبة، والأبعاد الجمالية محاولة الحد من بعض مظاهر أداتيتها.
بهذا يمكننا القول “بأن مفهوم ما بعد الحداثة لا يشي، بأي حال من الأحوال، بالقطيعة المبرمة مع الحداثة، ولا ينطوي على أي ادعاء لتجاوز أفق الحداثة وأوفاقها، وإلا وقعنا في أحابيل ما يدعوه المفكر محمد سبيلا “بالامتساخ التاريخي وعمى الألوان”. ما بعد الحداثة، في سياقنا، هي منعطف جذري من منعطفات الحداثة أو من مساقاتها التاريخية. إنها تشير، في تصورنا، إلى لبوس آخر للحداثة، أو دور مغاير من أدوارها. إنها أفق بعدي من آفاق تطور الوعي الحداثي، ومراجعته لثوابته، وتشكيكه في مطلقاته وأقانيمه. فالحداثة وما بعد الحداثة ليسا وضعين متواجهين متنابذين، بل يندرجان سويّاً في سيرورة واحدة هي سيرورة التحديث على حد قول فانسان ديكومب. ما بعد الحداثة هي حداثة الحداثة، أو هي الحداثة وقد تخلصت من رؤيتها الطوباوية ومنزعها البرميثيوسي البطولي ومحكياتها الكبرى. إنها حداثة بعدية تمضي شطر تشذيب خطابها التقدمي والقطائعي، وتحاول أن تنقع جسمها الغض بمياه مختلفة، من خرائط وتجارب ومشارب وأزمنة مختلفة. يقول فانسان ديكومب: “لقد كان الإنسان الحداثي يعتقد، بعمق، بأن للتاريخ معنى، من ثمة كان بمقدورها أن يتشيع ويدافع عن قضايا بعينها وأن يلتزم داخل تنظيم سياسي. أم الإنسان ما بعد الحداثي فهو نفسه هذا الشخص الحداثي، وقد تغلب فيه الحس النقدي على آخر ما تبقى من سذاجته”.8.
ومن ناحية أخرى ترفض حركة ما بعد الحداثة النظرية الحديثة، في زعمها إمكانية أن تسيطر نظرية واحدة على مجمل علم أو تخصيص بأسره، والزعم بأن بعض النظريات الاجتماعية والسياسية، يمكن أن تطبق مقولاتها في أي سياق مهما اختلفت الثقافات أو اللحظات التاريخية، وعم باطل لا يقوم على أساس.
وتريد حركة ما بعد الحداثة تقليص دور النظرية واستبدالها بحركة الحياة اليومية، والتركيز على ديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية، تلاقياً لعملية التعميمات الجارفة التي تلجأ إليها النظريات، مما يؤدي –عملياً- إلى تغييب الفروق النوعية، وإلغاء كل صور التعددية الثقافية والاجتماعية السياسية.
المراجع:
1- مجلة فكر ونقد العدد 69/70 مايو/يونيو 20015- محمد الشيخ ص 41.
2- دفاتر فلسفية 6- الحداثة- ترجمة سبيلا وبنعبد العالي ص5.
3- المصدر 1 ص 43.
4- مفهوم الحرية- دار التنوير 1984- ع. العروي ص 40.
5- المصدر 1 ص 44.
6- الحداثة والتراث- م. ع. الجابري ص 7.
7- دفاتر الفلسفة 12- الحداثة وانتقاداتها II- ترجمة سبيلا وبنعبد العالي ص 6.
8- الفن في أفق ما بعد الحداثة…- د. محمد الشيكر.