محمد حماس:
إن كان هناك من شعراء الزمن المعاصر من لم يعرف الاستقرار طوال حياته فبابلو نيرودا سوف يكون حتما ذاك المهووس بالترحال والتنقل بين بلدان العالم وكأنه في سباق مع الموت الذي سيقتنصه في شتنبر 1973 بعد أن عاش أحداث الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس سلفدور أليندي .. رئيس تشيلي .. وجاء بالديكتاتور أوغيستو بينوشي .. كان نيرودا يحمل حينه حب الوطن بين أضلعه ويعاني مع المرض الخبيث، ولو أن الروايات اختلفت حول وفاته، فهناك من يزعم أنه قضى خلال أحداث مقتل رئيس تشيلي ..ربما مسموما .. ثم عرف النفي نحو المكسيك .. ومهما يكن من أمر فإنه ظل يحلم بالحرية والعدالة إلى أن شهدت سانتياغو انطفاء شعلته وعمره 69 سنة..
وبقدر ما امتلأ قلبه بالحب، بقدر ما عانى الحرمان .. الحرمان من أمه في طفولته والانفصام المكتوم عن والده ومعاناة ابنته الوحيدة “مالبا ماريا” مع الشلل إلى أن فارقت الحياة في 1942م وعمرها ثمان سنوات مخلفة جرحا لن يندمل فيما تبقى من مسيرته في الحياة .. ثم زيجاته المتعددة وكبواته العاطفية والسياسية .. هي تقلبات وتصاريف لم يستطع نيرودا التخلص منها أو مداراتها وظلت بادية في أشعاره وأعماله وطباعه وشخصيته .. ثم فجيعته في أعز أصدقائه الشاعر الإسباني الكبير فيديريكو غارثيا لوركا الذي تعرف إليه سنة 1933م وقتل في 1936م.. والحرب الأهلية الإسبانية التي شهدت ميلاد ديوانه “إسبانيا في القلب” على جبهة القتال سنة 1937م ثم ديوان “مائة أرجوزة غزلية” نشره سنة 1959م وهو وعاء كبير لمشاعر الحب لدا نيرودا خص به حبيبته ماتيلدا .. وهو اللون الذي يعرف بالقصيدة السونية ذات الأربعة عشر بيتا .. حرارة وعنف خطاب .. استطاع الشاعر من خلال قصائد هذا الديوان تصوير أحاسيسه ونقلها للمتلقي في قالب فني جميل صادق .. الديوان عبارة عن ملحمة حب نيرودا لماتيلدا .. ماتيلدا هي الحياة كلها بالنسبة إليه .. هي الأمومة والخبز والتراب ورائحة العرق المخثر والحنطة .. لهذا فالديوان هو قصيدة واحدة .. إنها ماتيلدا ..Matilde Urrutia..
إنه ريكاردو اليسير نيفتالي رييس باسولاتو المعروف ببابلو نيروداRicardo Neftali Reyes Basoalto, (1904-1973) شاعر تشيلي العظيم .. حاز جائزة نوبل في الآداب عام 1971عن ديوانه “النشيد الشامل”، وصاحب دواوين “شفقيات” و”عشرون قصيدة حب” و”أغنية يائسة”(1924)
سوف أقدم لديوان “مائة أرجوزة غزلية” Ciensonetos de amor(1)، وهو يقع في 118 صفحة من الحجم المتوسط، والذي خص به نيروداآخر زوجاته ماتيلدا.. عشقها بمقدار عشقه للبحر .. فتحضر صورة البحر إلى جانب حبيبته بشكل مكثف، ومرد ذلك في اعتقادي للجلسات الطويلة والأوقات التي كان يقضيها رفقة ماتيلدا عند الشاطئ حيث يتسنى له تأملها وتأمل البحر معا وتوهج القمر خلال ليالي الشتاء الباردة، فكانت بداية المعاناة .. عذاب وأشواك وألم واحتراق وليل مرعب القسوة .. [كان الحب يمزقني بسيوفه] ..
تنحدر ماتيلدا من الريف، ولدت في قرية بالجنوب تسمى تسييان تشتهر بصناعة أواني الفخار والزلازل الرهيبة،فكان الريف حاضرا في أراجيز حب ماتيلدا
ستذكرين هدايا الأرض
الأريج النزق، والوحل الذهبي
أعشاب العوسجة والجذور الخوتى
سحر من الشوك وشبيه بحسام
….
وجه نيرودا رسائل حب لزوجته ماتيلدا مشحونة بأسمى معاني الحب .. قال لها كل ما يمكن أن يقوله ..
[أنا الآن ألمحها وهي تدفن حذاءها في طين الحديقة ومن بعد تدفن يديها الصغيرتين في عمق النبتة لقد جلبت لي من الأرض برجليها الصغيرتين برجليها ويديها وعينيها وصوتها الجذور كلها، الزهور جميعها، ثمار السعادة الشذية جمعاء](2)
هو اسم ماتيلدا الذي يفتنه:
ماتيلدا، اسم نبتة أو حجر أو نبيذ
اسم ما ولد من الأرض، وما بقى
…
في صيف اسمك تفجرت حبات الليمون
آه لهذا الإسم المكتشف تحت زهرة ليلك أرجوانية
إسم شبيه بمدخل نفق مجهول
متصل خفية بجميع طيوب العالم
حروف اسمك مياه نهر
تصب في شقوق قلبي المتكلس احتراقا(3)
منذ الوهلة الأولى تبدو رحلة الحب والافتتان بماتيلدا لذيذة قاسية عنيفة تنحو في اتجاه المعاناة والطريق المفروش بالأشواك، من هنا جاءت السونيتات مثقلة بعبارات معظمها تدل على الألم .. الأشواك والليل المرعب والقسوة والاحتراق ..
قاسيا بلا رحمة حين يحاصرني كان الحب
يمزقني بسيوفه، بأشواكه يمزقني
…
وقد جاء بناء القصيدة مفعما بصور العذاب .. هذا العذاب الذي كان يستلذه الشاعر لأنه مقتنع أن لا حب من دون معاناة، فهو الشاعر الذي يسعى خلف قطرة ألم تعطي معنى لحياته .. هي غواية ركوب الأهوال والخوف في قصص الحب “المجوسية”
تشيلي بلد نيرودا .. الأحب إليه بعد ماتيلدا .. كان يفضل العزلة رفقة ماتيلدا عند شاطئها الجميل، فيقضيان أجمل الأوقات وأطولها هناك في فصل الشتاء .. يتأمل ماتيلدا .. صفاءها وهدوءها .. يريد أن يتملى بوجهها الريفي الصافي ..
ضمغ أرضك المعطار وطميها المضيء
منذ بلدتك حيث صنعت عيناك
يتمادى نيرودا في وصف جسد حبيبته .. يقف عند أدق التفاصيل.. حبه عنيف لدرجة تبخيس ذاته العاشقة .. هو الهائم بين دروبها .. هي مثل رغيف خبز وهو جائع لصوتها وشعرها وثغرها وضحكتها .. لكل جزء فيها .. هو المتشوق الشبقي المفعم بحبها .. يلتحم جسداهما ويرحلان حيث ينعمان بلهب الجنس ومعركة الحب ..
أريد آكل الأنف سيد الوجه المئناف
أريد آكل ظل هذبك الهارب
جائع أنا، أذهب، أجيء، متشمما الشفق
وأبحث عنك، وابحث عن قلبك المحرق (4)
ثم ينبري للحديث عن جسدها الذي تملكه لدرجة الحلول .. حلول ذاته في أخرى وكأنه لا يريدها أن تعيش، لأنه بلغ من العشق مرتبة يريد أن يحتوي حبيبته أو أنه لا يريد العيش بعدها .. يريد أن يضمهما كفن واحد .. يتأمل ماتيلدا .. هذا المخلوق العجيب الذي أحبه حد الجنون فينظر لأدق تفاصيل جسدها .. يراقب حركاتها وسكناتها وكأنه يمسك ريشة ويعيد رسمها فيعجز لأن جمالها أقوى من أن يعيد نسجه على جدار لوحة فقط هو خياله الذي يسعفه في ضبط إيقاعات هذا الكائن ورسم تفاصيل ماتيلدا .. لشعر ماتيلدا أثر بالغ في نفس نيرودا .. هو مصدر حب وإعجاب وهيام، لن يضيره شيء إن هو جلس يعد خصلاته شعرة شعرة حتى وإن استغرق الزمن كله أو احجتاج لزمن آخر لفعل، فالكون بالنسبة إليه تافه لا يساوي شيئا كله عتمة وعذاب أمام عظمة شعر ماتيلدا حيث تتخذه الشمس برجها العالي ..
لا يكفي الزمان كله لإطراء شعرك
…
أنا لا رغبة لدي سوى أن أكون حلاقك
…
قلبي يعرف جيدا بوابات شعرك
…
عالم ليس إلا من عتمة وعذابات تمر
لأن الشمس تصعد إلى برج شعرك العالي (5)
ماتيلدا قطعة من هذه الأرض، هي نجمته التي لا يرى سواها، بل هي الكون كله، هي سر وجود هذا الكون .. هي الأم الولود .. هي القمر .. هي الضوء .. هي المطر .. هي الشمس .. هي السماء بجمالها وعتمتها .. يكتشف هذا الجمال كله كلما رسم قبلة على ثغرها أو لامس بشرتها أو حين يهيم في جغرافيا هذا الكون/الجسد، يكتشف دروبه ومخابئه وأسراره.. جسد ماتيلدا كون يحتاج إلى رحالة جوال وفضولي مثل نيرودا الذي قضى حياته هائما على وجه الأرض متنقلا بين بلدان العالم قنصلا لبلده تشيلي، فلم يعرف الاستقرار فجعل من متيلدا كوكبا للاكتشاف ..
لا أملك نجمة سواك .. الكون
أنت علة تكراره وتكاثره
…
كان ذلك قلبك المحروق بأشعة وردية طوال
بقبلات شكل نارك أجوبه بقبلات
يا كوكبي الصغيرة، جغرافيا، يمامة(6)
حوله حب ماتيلدا إلى صوفي لم يعد هناك ما يميز بينهما، هما روحان في بد واحد .. حب مختلف لا حدود له، لا يحكمه زمان أو مكان، لا يخضع لقياس .. ليس كمثله حب .. هو نفسه لا يعرف كيف يحبها ..
قصائد الديوان صور تعكس أحاسيس نيرودا لدرجة “التشخيصية” فيقرر ما الذي يجب فعله لأن هدفه واحد .. لكي يحب ماتيلدا لا يحتاج إلى كبرياء أو مداورة، ليس هناك ما يقلق راحته أ ويحول بينهما، حتى ذاته جعلها بخسة غير ذات قيمة ..
أحبك دون أن أعرف كيف، ولا متى، ولا من أين،
أحبك بلا مداورة، بلا كبرياء، بلا مشاكل،
هكذا أحبك، دون أن أكون، دون أن تكوني
يرى حبيبته وهي تنافس الطبيعة في جمالها .. تنافس الجبل ونسمة الريح العليل وضوء الشمس والسيل الجارف ومياه النهر المتدفق وأشجار الغابة والزهر وزرقة السماء .. ماتيلدا مثل نحلة ذائبة في عسل كونها الكبير .. نحلة تذهب وتجيء في توازن لطيرانها المستقيم .. رقصتها رشيقة أنيقة على حافة خيط رفيع غير مرئي ونيرودا العاشق ظمآن لقوامها الجميل .. يسمع خطوها إيقاعا مثل حفيف سنبلة ..
…
حفيف سنبلة، تطير ملكة النحل تتلاشى
أنت، أثناء ذلك عارية تخرجين من الأوقيانوس
ملأى بالملح، والشمس، تعودين إلى العالم
…
ظل نيرودا ضائعا إلى أن عرف ماتيلدا التي أعطت طعما ومعنى للحياة .. جمال ماتيلدا هو السبب في تحوله عن حياة الضياع والتيه
يا حبيبتي، قبل أن أحببتك لم يكن لدي شيء
كنت أتردد عبر الأشياء والدروب
لم يكن شيء يتكلم لي، ولا شيء كان له اسم
كان العالم ملكا لانتظار الهواء
ومن مميزات ديوان “مائة أرجوزة حب” الذي نقدم له، الاحتفاء بالمكان، حيث هناك عدة أمكنة زارها وشاهدها خلال رحلاته مثل “كثبان إيكيك”وخليج نهر “غواتيمالا” و جليد “التبت” وحجر “بولونيا” و”لفرونتييرا”، حيث ترعرع نيرودا، و”إيسلانيغرا” وليل كوبا ……
يستحضر ماتيلدا فيرى صورتها تتجلى في الصلصال والحنطة والعنب والمسك والنحل والسهول والقمح والقمر والغابات والتفاح .. هي عالم الطبيعة بجمالها وأناقتها وكبريائها .. يحبها ويحب الوطن والأرض والبحر .. إذ لا معنى ولا طعم للحب دون معاناة، ذاك هو شعار نيرودا ..
الهوامش
*محمد حماس، قاص من المغرب
ـ هناك ترجمات عدة لهذا الديوان، اطلعنا على بعض منها، مثل ترجمة كل من الديبة العراقية سحر أحمد، وطاهر رياض… وقد اعتمدنا ترجمة:
بابلو نيرودا، مائة قصيدة حب، ترجمة محمد عيتاني، منشورات دارا بنخلدون- بيروت (سنة النشر غير معروفة)
1) Santiago, Editorial Universitaria, 1959
2) الديوان، ص. 1
3) نفسه، ص. 13
4) نفسه، ص. 23
5) نفسه، ص. 27
6) نفسه، ص. 69
ـ المقاطع الشعرية جميعها من الديوان