ترجمة: أدونيس
“… سأبكيكم، فهذه بيننا نعمة فائضة.
“أبكيكم من النعمة، لا من الخوف، يقول منشد النشيد الأجمل،
“من هذه اللهفة القلبية الصافية التي أجهل ينبوعها،
“ومن هذه الهنيهة البحرية الصافية التي تتقدم النسيم…”
هكذا كان يتكلم رجل البحر، يتحدث عن رجل بحر.
هكذا كان يمدح، وهو يمدح الحب وشهوة البحر
ونحو البحر، من كل صوب، تتدفق أيضاً
ينابيع اللذة…
“هذه حكاية سأرويها، هذه حكاية ستسمع،
“هذه حكاية سأرويها كما يليق أن تروى،
“سيكون سردها من اللطافة بحيث تفرض الاستمتاع بها:
“يقينا، هي حكاية يشتهى سماعها كذلك في
غفلة الموت،
“ولتبق هي هي، عذبة، وفي قلب الإنسان الذي
لا ذاكرة له،
“كنعمة جديدة ونسيم من مصب نهري فسيح لأجل
مصابيح الأرض،
“وبين هؤلاء الذين سيسمعونها، جالسين
تحت شجرة الحزن الكبيرة،
“قليلون هم الذين لا ينهضون، لا ينهضون معنا،
ويمضون، باسمين،
في خنشار الطفولة وامتداد مراكز الموت”
شعر لكي يصاحب سير إنشاد على شرف البحر.
شعر لكي يشهد المسيرة إلى محيط البحر.
كما يقتحم برج مذبح وكانجذاب الكورس إلى
حركة الدور.
وهذا نشيد بحر كما لم ينشد أبداً، والبحر فينا
هو الذي سينشده:
البحر، محمولاً فينا، حتى تخمة النفس، حتى
نهاية النفس،
البحر، فينا، حاملاً من اللج هديره الحريري
وعذوبته الكبيرة كلها من حظوظ العالم غير
المنتظرة.
شعر لكي يخفف حمى السهر في مطاف
البحر. شعر لكي نمارس بشكل أفضل سهرنا
في غبطة البحر.
وهذا حلم، بالبحر كما لم يحلم به أبداً
والبحر فينا هو الذي سيحلمه:
البحر، منسوجاً فينا، حتى أدغاله السحيقة
المهاوي، البحر، فينا، سجا ساعاته الضوئية
الكبيرة، وحلباته الفسيحة المعتمة –
الإباحة كلها، الولادة كلها، والتوبة كلها،
البحر! البحر! في فيضه البحري في ازدحام
فقاعاته وحكمة حليبه الفطرية، آه! في الغليان
المقدس لحروفه الصوتية –الفتيات القديسات!
الفتيات القديسات!
البحر نفسه زبد شامل، مثل سيبيل التي
تتلألأ على كرسيها الحديدي…
تقلد هكذا، أيها البحر، مديحاً بلا إهانة.
هكذا كن الضيف الذي يليق به أن يخفي امتيازه.
ولن يكون سؤال عن البحر ذاته، بل عن سيادته
على قلب الإنسان:
كم يحسن، في التماس الأمير، أن نضع العاج
أو حجر اليشب
بين المديح المداهن والوجه الوالي.
أنا، إذ أنحني لمجدك انحناء بلا ذل،
سأستنفد اعتدال الجسم ومهابته،
وسوف يسكر دخان اللذة رأس المتعبد،
وسوف تلد غبطة القول الأجمل نعمة الابتسام..
وبمثل هذه التحية سنحييك، أيها البحر، وليبق
ذكرها طويلاً كذكرى قلب يخلق من جديد.
– 5 –
… من زمن طويل إذن كنت أتذوق طعم هذه
القصيدة، مازجاً بأحاديثي اليومية هذا الاتحاد
كله من ألق بحري كبير، بعيداً –كالطبقة
المفاجئة من السماء المتحجرة ومن الزرقة، في
طرف غابة، بين أوراق الصمغ الأسود: قشر
لامع، بين عقد الشبكة، لسمكة كبيرة مأخوذة
بخياشيمها!
ومن إذن فاجأني في حديثي السري؟ كنت
محروساً بالبسمة والعناية، أتكلم، أتكلم لغة
غريب بين بشر أقربائي –ربما في زاوية
حديقة عامة، أو قرب سور حديدي حول دار ما،
مطعم بالذهب، وربما كنت ألتفت وكان نظري
يتجه بعيداً، بين عباراتي، نحو عصفور ينشد
نشيده فوق إدارة المرفأ.
ذلك أنني أتذوق طعم هذه القصيدة من زمن
طويل، وكان من اليمن أن أنقطع لها: مغزواً،
محاصراً، تهددني القصيدة الكبيرة كما يهدد
محلول اللؤلؤ، وديعة في تدفقها، كغزو منتصف
الليل، في تموج بطيء لأمواج الحلم، حين
تسحب اللجة بهدوء حبال المراكب.
وكيف خطر لنا أن نبدأ هذه القصيدة –هذا
ما كان ينبغي قوله. لكن أليس كافياً أن نرى
فيها لذتنا؟ ولكم كان طيباً، أيتها الآلهة، أنني
تعهدتها، قبل أن تسترد.. أمض، أيها الطفل
وانظر في منعطف الشارع، كيف أن فتيات هالي
الزائرات الجميلات السماويات في ثياب الكاهنات،
تلتقطهن في الليل صنارة الزجاج،
ويتحفزن للهرب عند المنعطف الأهليلجي.
الزوجة في البعيد متعة، والزواج سري!..
نشيد العرس، أيها البحر، سيكون لأجلك
النشيد: “نشيدي الأخير! نشيدي الأخير!
والذي سيكون نشيد إنسان بحري…، وأسألك،
أي نشيد غيره كان سيشهد للبحر- البحر بلا
نصب ولا أروقة، بلا طريق تحيطه القبور ودون
قلاع مروقة، البحر دون تماثيل مجد في أرصفته
الدائرية، ودون صف من الحيوانات التي تجللها
الأجنحة في الشوارع المقوسة؟
أنا الحامل عبء الكتابة، سأمجد الكتابة.
كمن قدم نفسه، عند القيام بعمل نذوري عظيم،
لتدوين النص وإعلانه، والتمسته جمعية الناذرين،
لأنه الوحيد المنذور لذلك. ولم يعرف أحد كيف
ابتدأ العمل: ربما في حي قصابين، أو
صهاري معادن –في فترة هياج شعبي، بين
أجراس مساء ينذر بإطفاء النور وطبول الفجر الحربية..
وفي الصباح كان البحر ذو الأبهة يبتسم له
فوق الأفاريز، وها هي الغريبة تتمرأى في
صفحته. ذلك أنه منذ وقت طويل يتذوق طعم
هذه القصيدة، مأخوذاً بها إلى هذا الحد. وكان
عذباً إلى هذه الدرجة ذات مساء أن انقطع لها،
مستسلماً بمثل هذا الجذع. وكانت الابتسامة
تمد لها يد المصاهرة… “نشيدي الأخير!
نشيدي الأخير!… والذي سيكون نشيد
إنسان بحري… ”
– 6 –
والبحر هو الذي جاءنا على درجات المأساة،
الحجرية:
مع امرأته، وأوصيائه، ورسله الذين
يتسربلون بالزهو، والمعدن، وممثليه الكبار ذوي
العيون المفقوءة، وأنبيائه الأسرى، وساحراته
المديدبات بقباقيبهن الخشبية، المليئات الأفواه
بالخثارات السوداء، وأسباط عذاراه الماشيات
في أخاديد النشيد،
مع رعاته، وقرصانه ومرضعات الأطفال –
الملوك، ورحله القدامى في المنفى، وأميرات
الرثاء، وأرامله الكبيرات الصامتات تحت رماد
كريم، ومغتصبي العروش الكبار، وبناة
المستعمرات البعيدة، وقساوسته وتجاره،
والوكلاء الكبار ناهبي أقاليم القصدير، وكبار
حكمائه السائحين على ظهور الجواميس في
حقول الأرز،
مع مأجوريه كلهم من بشر وغيلان، آه!
نسل خرافاته الخالدة كله، رابطاً بهدير حشوده
من العبيد والأرقاء لقطاءه المقدسين الكبار وبناته
العظيمات من الفحول –حشد يركض منتصباً
على درجات التاريخ، ويتجه كتلة كتلة صوب
المسرح، في القشعريرة الأولى للمساء المشبع
بعطر الفوقس،
والنشيد سائر صوب الكاتب وصوب شفتي
قناعه الملونتين.
*
هكذا جاءنا البحر بعمره الكبير وتحفه
الكبيرة القديمة – البحر كله في هجومه آتى
دفعة واحدة وقطعة!
كمثل شعب جديد اللغة كمثل لغة جديدة
العبارة، ناقلاً إلى موائده النحاسية أوامره
السامية، بتهيجات كبيرة وانتفاضات لغوية
كبيرة، برونق عظيم من الصور ومنحدرات
الظلال المضيئة، منطلقاً إلى مباهجه الهائلة
بأسلوب رائع مدور العبارة، حتى أنه في
نيرانه العظيمة من الحراشف والبروق
وفي قلب العصابات البطولية،
البحر المتحرك الذي يتبع انزلاق عضلاته
الضخمة الشاردة، البحر الدبق الذي يزلق
كغشاء الرئة، جاءنا بفيضه البحري كله، في
خواتم عرفه الأسود،
*
وكان ذلك في أثناء الغروب. في الإرتعاشات
الأولى للمساء المثقل بالأحشاء، حينما، على
الهياكل المرصعة بالذهب وفي المسارح القديمة
السبك التي يثقبها الضوء، استيقاظ الروح
القدسية في أعشاش البوم، وسط النمو المفاجئ
للنباتات الجدارية الوفيرة.
وإذا كنا نجري إلى ميعاد أحلامنا. فوق
منحدر عال من الأرض الحمراء مشحون
بالقرابين والماشية، وإذا كنا نسير فوق أرض
التضحية الحمراء المزينة بالتوابل وأغصان
الكرم، كجبهة كبش تحت أهداب الذهب وتحت
الأوشحة، رأينا هذا الوجه الآخر لأحلامنا يعلو:
الشيء المقدس في مستواه الأدنى، البحر،
الغريب، هناك، الساهر سهر الغريب – فريداً
لا يصالح ولا يتزاوج – البحر التائه الأسير
في شرك تيهانه.
كان لنا ونحن نرفع أذرعنا لنسند “آهنا… ”
كان لنا هذا الصراخ البشري في الحد الأقصى
لما هو إنساني، كان لنا، على جبهتنا، هذه
الخدمة الملكية للقربان: البحر كله دخان من
نذورنا كدن من المرارة السوداء، وكمثل قصعة
كبيرة من الأحشاء والأكارع في ساحات الكاهن
المرصوفة!
كان لنا، كان لنا …. آه! كرروا أيضاً
أكان هكذا حقاً؟ … كان لنا –وكانت أبهة
مرارة وخمر سوداوين! – البحر أعلى من
وجهنا، في علو روحنا، وفي فجاجته
التي لا اسم لها والتي يعلو روحنا، كل جثمان
فوق طبل السماء، كما فوق الجدران
المهجورة العالمية،
فوق أربعة أوتاد خشبية، ممدوداً! جلد
جاموس مصلوب.
*
… ومن أعلى، من أعلى، ألم نر البحر
أكثر علواً بما عرفنا،
وجهاً غسله النسيان في أمحاء الإشارات،
حجراً تبرأ لأجلنا من نتوئه وهيجانه؟ – ومن
أعلى أيضاً وأبعد، البحر الأكثر علواً والأكثر
بعداً… ألم نر الصفحة الحانية المضيئة المبهمة
الخالصة من كل رقم قرب ليل الأشياء الذي
لا يضيء؟
آه، أية شجرة من الضوء كان نبع حليبها
ينبجس هنا.. لم نرضع من ذلك الحليب! لم
نكن مختارين لتلك المرتبة! وكانت رفيقاتنا
اللائي يشبهن سحابات الصيف نساء فانيات
منخورات الجسد… أيها الحلم… أحلم
عالياً، حلمك الغاني الخالد!… ”
آه! ليقترب
كاتب، وسأملي عليه…”
أهناك وال أسند إليه تنظيم اللعب والأعياد
حلم هذا الحلم من الفضاء والراحة؟
.. السماء التي تميل إلى زرقة النورس تعيد لنا
حضورنا، وفي الخلجان المهاجمة تمضي
مصابيحنا الملايين من القرابين، تائهة –كما
حين يرمي كبريت الزئبق في اللهيب لتمجيد
الرؤيا.
*
إذ ستعود إلينا، أيها الحضور، في ريح
المساء الأولى.
بجوهرك وجسدك وثقلك البحري، أيها
الصلصال! بلونك لون حجر المائدة والاصطبل،
أيها البحر! – بين المواليد من الناس وأقاليمهم
من السنديان الضخم، أنت، يا بحر القوة
والعمل، البحر المعطر بالفوسفور والأحشاء
الأنثوية، في سياط الخطف الغليظة المتجبرة!
يا بحراً يمكن أن تقبض عليه نار في أجمل أفعال
الروح!… (حين يقيم البرابرة في القصر
وقتاً قصيراً هل يزيد الاتصال ببنات المماليك
بمثل هذه الجدة صخب الدم؟… )
“خذيني، أيتها اللذة، في دروب كل بحر،
في ارتعاش كل نسيم حيث تنشط اللحظة كالعصفور
يرتدي ثياب أجنحته: سأمضي، سأمضي في
طريق من الأجنحة، حيث الكآبة نفسها لم تعد
إلا جناحاً… الوطن الجميل دانٍ لافتتاحه من
جديد، الوطن الجميل لملك لم يره منذ طفولته،
ودفاعه في نشيدي. مر، أيها المزمار، بالعمل
وبهذه النعمة من الحب، لا يضع في أيدينا إلا
سيوف الفرح! …”
وأنتم، من أنتم إذاً، أيها الحكماء! لكي
توبخون، أيها الحكماء؟ إن كان خط البحر ما
يزال يغذي، في موسمه، قصيدة عظيمة خارج
العقل، فهل ستأبون علىَّ بلوغها؟ إنها مملكتي،
أدخل إليها، أنا، ولا أخجل من لذتي… (آه!
ليقترب كاتب سأملي عليه… )
ومن إذاً،
من بني البشر، يقف إزاء فرحي بلا خطيئة؟
-أولئك الذين يبقون، بالولادة، خبرتهم
فوق المعرفة.