عمر الأزمي
ظهور شاعر جديد يعني تقويضا تاما لكل ما تعرفه عن الشعر !
هكذا أفهم الشعر، وهكذا يفهمه شعراء جيلي…
أحيانا أتخيل المشهد الشعري في المغرب مثل جنة خضراء يرقص فيها ملائكة مجنحون، والسقوف مرايا، والصور حور عين أبكار…
أرى هانز جورج غادامير أيضا هناك.. يلعب لعبته..
لطالما أعتبر الشعر “حالة أصالة هيرمينوطيقية” وقيمة وجودية قائمة بذاتها، وسالبة إزاء الأداتية والوظيفية..
مجال تأويل اللغة الشعرية عنده، رهين بفهم قيمته الوجودية، أقصد: رهين بتخصيب قدرة المأوِّل على التعامل مع المأوَّل في ماهويته، من حيث هي احتواء معنى، لا دلالة عليه. كنتُ أفهم قصدَه: التعاطي مع الشعر -من حيث هو مادة جمالية/فنية- تعاطيا تأويليا محكومٌ بالانطلاق من خصوصيته الفنية، أي من نموذجه الخاص في تحقيق فنيته، وذلك قبل النظر إلى مادته/موضوعه (اللغة).
“إيمانويل كانط” أيضا رأيته هناك، كان يحتفي بميلاد شاعر جديد، رآه يخرج من شرنقة صورة شعرية، بلا رأس وبلا قدمين.. ظل يحدق طويلا، حتى تحدث غادامير بدلا عنه:
حينما نصادف إشباعا جماليا إزاء شيء ما، فإننا لا نربطه بمعنى ما يمكن توصيله في كلمات تصويرية الاستجابة الجمالية مستقلة تمام الاستقلال عن الإدراك الدلالي، بل إن استنطاق دلالة الجميل قد يتحول إلى معيق يهدد الخبرة الجمالية بالعمل الفني.
-
ولكن لماذا نحب الشعر إلى هذه الدرجة؟ لماذا نحبه بقدر ما لانفهمه..؟
– إنها هوية جمالية سابقة عن الإدراك، وعلى المتلقي أن يستجيب لها ولخصوصياتها، بحيث هي من تفرض عليه شروطها الاستيطيقية، التي انبنتْ بها ومن أجلها. الشعر لعبة إدراك يا صديقي ، إنه حر في خلق نظامه الخاص والمستقل .. في اللعب يكون هناك شيء ما مقصودا بوصفه شيئا ما، حتى وإن لم يكن هذا الشيء متصورا ونافعا وغرضيا. وإنما مجرد تنظيم خالص للحركة ومستقل بذاته. (قالها وهو يرسم خطوطا بعصاه على الرمل، لكني لم أكنْ أراها !)
سمعته يضيف:
هوية الفن ليست مادة معطاة للإدراك بشكل محايث لإدراك بنية العمل، بل هي حقيقة في ذاتها، مستقلة، و”ذات دافعية حرة”، على المتلقي تمثلها في ذاتيتها كشرط أساس في فهم الشكل الذي تتمظهر به.
الصورة الشعرية حقيقة تعبيرية وليست تعبيرا عن حقيقة، كما إنها توجد وفق خصوصيات تفرضها هوية الشعر، في استقلال تام عن الواقع، ومن ثمة في استقلال عن نمط الإدراك. فاستجابة الصورة لهوية الشعر، وكذلك استقلالها عن الواقع والإدراك يفرضان تكيفا إدراكيا خاصا، يضطر من خلاله للتوجه إلى الصورة الشعرية من حيث هي مستقلة عن إدراكه.
إن الجميل يمكن تعريفه باعتباره شيئا ما يحظى باعتراف وقبول شامل. ولذلك فإن ما يميز حسنا الطبيعي بالجميل أنه حس لا نستطيع معه أن نسأل لماذا يسرنا. فنحن لا يمكن أن نتوقع أي طائل من وراء الجميل، إنه لا يخدم أي غرض.
الجميل يحقق ذاته بنوع من التحقق الذاتي، ويتمتع بتمثيله الذاتي الخاص.
أشعل غليونه:
هوية العمل الفني ليست مضمونة الكفالة بواسطة أية معايير كلاسيكية أو شكلية، وإنما هي تبقى مأمونة عن طريق تعهدنا بأن نحمل على عاتقنا مهمة بناء العمل الفني. وهذا معنى الخبرة الجمالية…
في نهر الجنة تفتحت وردة، امتصصت رحيقها وأخذتني سكرة الشعر الحقيقي:
” حين أدركت الوردة
أنّ ساقاً واحدةً لا تحمل إلى أيّ مكان
أنّها بلا صوت وغالباً بلا صدى…
فكّرتْ في العطر!”[1]
لعبة الإدراك صارتْ مجرد إدراك لعبة !
—-