الرئيسية | سرديات | لقاء مع ميت | خالد الشاطي

لقاء مع ميت | خالد الشاطي

خالد الشاطي:

 

 

كان قد هدأ أخيراً. جلس قبالتي متردداً. كان طَلبُ مشروبين والجلوس بانتظارهِ تصرفٌ ناجح حمله على القعود الذي أمدني بارتياح حذر وسلطة مؤقتة أتاحت لي النظر إليه بصورة مباشرة بعض الوقت .شاب في حدود العشرين ، ملامحه تُعطي انطباعا بأنه أكبر بعقدٍ على أقل تقدير. ورغم هدوئه الظاهر إلا أن القلق لم يغادرهُ تماماً. كنت أنا الآخر قلقاً، فهذه هي المرة الأولى التي أصدم فيها أنساناً. ورغم أن لا ذنب لي في الحادث مطلقاً ورغم أنهُ كان بإمكاني الذهاب كما كان يلحُ علي هو نفسهُ وبعض المتجمهرين، إلا أنني لم أكن لأدير ظهري له وامضي كأن شيئاً لم يحدث . من يره الآن لن يصدق أنه كان قبل دقائق يصرخ بالناس الذين تجمهروا حوله بعينين جاحظتين وفم مزبد.

هدوؤه النسبي وتظاهرهُ بتفحص المقهى -حتى يُبقي عينيه بعيدتين عن عيني- دعتني إلى الاعتقاد بأنه يشعر بالندم وبأن أول ما سينطق به سيكون الاعتذار عن إلقاء جسده أمام سيارتي، لكنني لم أكن لأنتظر؛ كان علي استدراجه للكلام كما استدرجته للقعود. سألتهُ :

– هل تشعر بشيء؟

 هز رأسه نافياً. لم يكن يبدو أنه قد أصيب. كان قد تدحرج لعدة أمتار وكان من السرعة في النهوض بحيث سبق كل الذين هرعوا نحوه. قابلهم بوجه حانق متهجم ليس من أثر فيه لخوف أو ألم. لكنني لم أُخدع، فلا بد أن يشعر بالألم حالما يفيق من الصدمة. هذا ما يفعله الأدرينالين.

وضع عامل المقهى مشروباً بارداً أمام كل واحد منا وأنصرف. هذا سيتيح لي بعض الوقت ويحمله على البقاء فترة أطول. كنت أرقب أن يبدأ بالشكوى من ألم في الكتف أو الركبة أو في مكان ما. لم يكن همي إبقاءه تحت المراقبة فقط ، كنت أريد أن أستجلي حقيقة هذا الشاب. كنت أريد أن أعرف لماذا يريد الموت؟!

نظرت إليه وهو يرشف من زجاجته بهدوء. أيكون هذا الولد صعلوكاً محتالاً ؟أأكون قد أسأت تفسير تلك النظرة الغريبة ؛ القلقة والعميقة التي تطل من عينيه وهو يطلب مني مواصلة طريقي؟! أمن الممكن أن تكون تلك النظرة نظرة إحباط وخيبة أمل لأنه لن يتمكن من الحصول على مبلغ مالي كتعويضٍ كان يرجوه من افتعال الحادث؟! لكن.. لا، كان الشاب يدفعني دفعاً لأذهب وهو يردد أنه بخير، رافضاً أن أصحبهُ للمستشفى أو أن أقلهُ لأي مكان، كما أنه رفض أن يأخذ عنواني أو رقم هاتفي أو حتى رقم سيارتي. ولو لم ألفت انتباهه إلى أن ملابسهُ قد اتسخت ولا يمكنه السير هكذا في الشارع، لما دخل المقهى التي أخبرته كاذباً أنني أقصدها لأطفئ ظمئي، ولو كان ينوي المكوث لما راح ينظف ملابسه بعجالة. لكنني – وقد جلست إلى مائدة – ناديت على عامل المقهى لأطلب مشروبين باردين بصوت مرتفع قصدت أن يصل سمعه. أخذ يتململ ويزفر بصوت مسموع حالما انتهى من شرابه، فخشيت أن ينصرف، إذ كان واضحاً أنه لا يشكو من شيء مما لا يتيح لي عذراً لإبقائه.

– لقد كنتَ محظوظاً .. أعني كنا محظوظين نحن الاثنين.

خطرت لي هذه العبارة فقلتها على الفور، وكنت أعنيها رغم ذلك، فلو لم أضغط على المكابح في اللحظة المناسبة لما كان هذا الإنسان جالساً أمامي الآن …

– أتعتقد أنني محظوظ ؟! (قال وهو ينظر في عينيّ لأول مرة). أهذا ما تعتقدهُ حقاً؟!. أما أنا فأعتقد أنني ملعون، وسأظل هكذا إلى الأبد.

شجعتني أشارتهُ إلى نفسهِ على أن اطرح سؤالاً شخصياً مباشراً:

– لماذا تريد أن تموت؟!

فأجابني على الفور:- لماذا ؟! .. لماذا أريد الموت ؟ لأنني ميت يا صديقي.

تقبلت جوابه على انه مجازٌ لوصف حالة البؤس التي يشعر بهِا . قلت له:-

– لا تقلق من الأمور الصغيرة ، كل شيء هو أمور صغيرة . هذا هو ما أؤمن به لأعيش براحة.

لا أدري أين قرأت هذه النصيحة وأضفت:

– أنت شاب . ليس نهاية العالم أن كنت فقيراً أو هجرتك حبيبتك أو ……

– لست أعاني من أي من هذه الأمور . إن مشكلتي أعقد بكثير ولا أدري إن كنت ستتفهمها .. أنني ميت . أعني .. لقد تم دفني وما تراه أمامك الآن ربما هو شبحي .. لقد أتيحت لي الفرصة لأرى عظامي عندما نبشوا القبور الجماعية !

ساد بيننا صمتٌ قصيرٌ فكرتُ خلاله أن ما قاله الناس قبل قليل من أن هذا الشاب مجنون وأن مكانه في مستشفى الأمراض العقلية لم يكن امتعاضاً من سوء تصرفه إزاء محاولتهم تقديم المساعدة له بل لأنه كذلك حقاً . فكرت أيضاً أن أدفع الحساب وأغادر طالما أرحت ضميري وتأكدت من أنه لم يصب بأي أذى وإلا فما الذي يبقيني مع إنسان يظن أنه ميت من ثلاث عشرة سنة!… وكأنهُ حزر ما أفكر فيه قال:

– أنت كالآخرين تظنني مجنوناً .. أتمنى لو كنت كذلك بدل هذا الإحساس المرعب الذي يشبه كابوساً لا نهاية لهُ.

قال ذلك بصدق لا مجال للشك فيه وقد عاودتهُ تلك النظرة الغريبة الحائرة . لكن تصديقه أو محاولة تصديقه يحتم عليّ أن أتجاهل الواقع وقوانينه التي لا تسمح بمثل هذه الحكاية .

مضت ثوان كان خلالها يتطلع إليّ كمن يقدّر أية قيمة أساوي . سحب نفساً طويلاً و قال:

– سأروي لك قصتي ، لأشبع فضولك الواضح ولأخفف من الإزعاج الذي طالك بسببي . أنك تبدو لي شــاباً ذكياً ولن تهزأ بي كما أتوقع من الآخرين . لذا ، ولأن لاشيء يمكن أن يعود عليّ من جراء روايتها ، لم أقص حكايتي لأي كائن من قبل … كان ذلك عام 1991 ولم أكن قد بلغت العشرين بعد. أنت ولا شك تتذكر ماذا حدث في تلك السنة من أحداث أدت إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية . ولن أقص عليك ما حدث من فوضى وقتل وتشريد ، فلا بد من انك عشت جانباً منه أو سمعت عنهُ ما يكفي ..

 قاطعته دون تفكير :

أتريد أن تقول أنك كنت في العشرين عام 1991 ؟!

وبأكبرنبرة هدوء يمكن أن تقال بها كلمات ، قال :

– أرجو أن لاتقاطعني .. سيتبين لك كل شيءحالما أنتهي .

سحب نفساً عميقاً ، وواصل :كنت قد أبعدت عائلتي إلى مكان آمن عند أقارب لنا في الريف وعدُت لآخذ بعض الأغراض ولأحاول إقناع بعض جيراننا لاصطحابهم إلى هناك . كنت في دار صديقي أحسان عندما داهمت قوات الجيش حينا وأخذت تعتقل كل رجل وشاب تعثرُ عليه . ألقي القبض عليّ وعلى صديقي إحسان الذي لم ينفعهُ أبراز بطاقة هويته المدرسية التي لم أكن أحمل واحدة منها . أخذونا سيراً على الأقدام مع معتقلين آخرين إلى بناية إحدى المدارس . كان إحسان يشير كل بضع دقائق إلى جيبه حيث بطاقة هويته ويبتسم . كان يعتقد أن البطاقة ستكفل عودتهُ للبيت قبلي لأن عليهم أن يتأكدوا من هويتي قبل إطلاق سراحي ، وما كنت أنا الآخر لأعتقد خلاف ذلك . وضعونا في قاعة المدرسة الكبيرة التي كانت مليئة بالمعتقلين من حينا ومن الأحياء المجاورة . ومن نوافذ القاعة رأيت – وعلى باب كل غرفة من غرف المدرسة جنديين أو أكثر مما يعني أن الغرف كانت هي الأخرى تغص بالمعتقلين . لا أتذكر كم مضى من الوقت حين لاحظت أن الجنود بدؤوا بإخراج المعتقلين من الغرف على شكل وجبات ونقلهم بسيارات – كنا نسمع صوت محركها – إلى مكان ما . ولما انتهوا من الغرف بدؤوا بالقاعة وكانوا يخرجون في كل مرة عدداً كافياً لملء باص كبير . استغرق نقل المعتقلين وقتاً طويلاً حتى لم يبق في القاعة سوى رجلين وأنا . كانت باب القاعة مغلقة . بقينا نحن الثلاثة وقتاً طويلاً دون أن يطل علينا أحد وانتبهنا إلى إننا ما كنا نرى أحداً، حتى الجنود الذين كانوا ينتقلون في ساحة المدرسة أو أمام الغرف اختفوا.كان يسود صمت مطبق.وتساءلنا : أتكون المدرسة قد فرغت تماماً ؟!أيمكن أن يكونوا قد ذهبوا ونسونا ؟!وقبل أن نقرر فيما إذا كان علينا أن نبقى أو نبادر للخروج فُتح  باب القاعة وأطل برأسه ضابط ضخم. حين شاهدنا بدا على ملامحهِ العجب. نادى على بعض الجنود واستفسر عن سبب بقائنا نحن الثلاثة . قال له الجنود أن ليس ثمة سيارة لنقلهم. أمر الضابط بغضب أن يجلبوا سيارة من أي مكان وبسرعة ثم أغلق الباب بعنف. بعد نصف ساعة دخل علينا مغتاظاً وهو يطلق الشتائم والسباب. وقف أمامنا وأخذ يتطلع إلينا باشمئزاز ثم قال:

– يا لحظكم يا أولاد القحاب ! آه لو كان لدي بعضٌ منه.

وأخذ يلعننا ويشتمنا ويصفنا بالخونة والمجرمين . وطلب أوراقنا الثبوتية . كان أحد الرجلين معوق حرب أُعفي من الخدمة العسكرية منذ سنتين ، أما الآخر فكان جندياً وصل صباح اليوم إلى بيتهِ مشياً على الأقدام من الكويت إثر انسحاب الجيش العشوائي من هناك . أما أنا فقد أخبرتهُ أنني تلميذ في المرحلة الإعدادية الأخيرة  وإنني كنت خارجاً في طلب الطعام لعائلتي . وفي هذه الأثناء دخل جندي وأخبر الضابط بأنهم جاهزون للمغادرة . أمرنا الضابط بالذهاب إلى بيوتنا وكان واضحاً أنه أتخذ هذا القرار مكرهاً . وقبل أن نخرج من القاعة أستدرك الضابط:

–  ضعوهم في السيارة !

تطلع إليه الجنود مستوضحين . صاح:

– احشروهم حشراً .

أخرجونا إلى الشارع ، ولما لم تنفع محاولات الجنود لوضعنا نحن الثلاثة في سيارة الجيب الصغيرة بأي وضع ،أنزلني الضابط . بصق في وجهي . صفعني ثم ركلني وهو يردد أنني ابن ساقطة محظوظ .

بقيت وحدي. كان الظلام قد حل وكانت الشوارع فارغة وموحشة . ما جرى بعد ذلك كان أشبه بكابوس . لازلت اذكرهُ كما لو كان كذلك .دخلت الحيورحت أطرق أبواب المنازل التي أعرفها بحثاً عن مأوى . كنت خائفاً من أن يلقى القبض عليّ مرة أخرى . ولم يفتح لي أحدٌ باباً ولا أعلم أين اختفى الجميع . لم أكن اعرف ماذا أفعل . وقررتُ أن أذهب إلى الريف حيث كانت عائلتي . رحتُ أعدو كالمطارد دون أن التفت أو أتوقف لألتقط أنفاسي . سلكت طرقاً بعيدة عن الشارع الرئيسي . شاهدت الكلاب تأكل القتلى . ورأيتُ شاباً يئن من جرح كبير في خاصرتهِ ويطلب مساعدتي لكنني لم أتوقف . خضتُ في برك آسنة . سقطتُ مرات عديدة كانت الجروح والخدوش تملأ جسدي دون أن أنتبه لها إلا بعد أن أصبحتُ في بيت أقاربي . أخذتْ أمي وأخواتي بالبكاء ونذر النذور لسلامتي . مكثنا هناك أربعين يوماً .كان الريف هادئاً ، ولم نكن نعلم بما يحصل . عدنا إلى بيتنا بعد أن أستتب الأمن والهدوء . ويوماً بعد آخر تأكدتُ من أنني لن أرى إحسان أو أياً ممن أُخذوا ذلك اليوم .. أنت لا يمكن أن تصدق ما حدث . بوغتُّ بالسؤال فأجبتُ :

– أصدق ماذا ؟

– لا يمكن أن تصدق أن ما رويتهُ هو ما قد حدث فعلاً . أَلا تجدهُ أمراً غريباً ؟! .. فمن بين المئات من المعتقلين الذين سيقوا إلى غرف الغاز والمقابر الجماعية نجوت أنا وحدي . لا يمكن أن تصدق أن عدم وجود سيارة تقلني إلى معسكر المحاويل أنقذني ! .. منذ ذلك اليوم بدأ ينتابني أحساس غريب بأنني غير موجود ؛ وبأنني اختلقت ذلك السبب الواهي يوم ذاك لأنني كنت أرفض أن أموت .. كنت أمارس حياتي بشكل طبيعي في حين كنت في الحقيقة أرقد ميتاً وسط حشد من الأموات في حفرة ما في معسكر المحاويل … وفي كوابيسي رأيت – ولمرات عديدة-التفاصيل الكاملة لموتي الذي حدث فعلاً : بعد أن أخذوا المجموعة التي كان فيها إحسان ، جمعوا كل ما تبقى من معتقلين وحشرونا في إحدى الحافلات . كان السائق شاحباً وقلقاً . اتجهت الحافلة شمال المدينة . وعند نقطة التقاطع داست الحافلة على إحدى الجثث المتناثرة هناك مما جعل السائق يتوتر أكثر . عندما وصلنا المعسكر انعطفت الحافلة في طريق زراعي سرنا فيه بضع كيلومترات كانت هناك آليات تحفر الأرض وتوقفنا عند إحداها. نزل الجنود من الحافلة وأحاطوا بها . بعد أن أكملت الآلية إنجاز حفرة كبيرة . أنزلونا من الحافلة وطلبوا منا الجلوس متراصفين في قاع الحفرة احتج بعض المعتقلين وحاول البعض الهرب و اكتفى الباقون بتلاوة الشهادة والاستغفار. ولكننا أصبحنا كلنا في قاع الحفرة ، عندئذ شرعت الآليات تهيل التراب علينا.وكنت أفز مرعوباً في كل مرة أشعر فيها بالظلام والاختناق… لا.. لم يكن هناك أي حظ يا صديقي أبداً، أبداً. إن الجالس أمامك الآن إنسان ميت لا وجود لهُ…

قلتُ لهُ:

لقد كانت تجربةً رهيبةً حقاً . ربما يقف وراء هذا التصور شعورٌ بالذنب من انك الناجي الوحيد . يحدث أحياناً أن يشعر المرء انهُ غير موجود .. أنا الآخر أشعر بذلك رغم تفاعلي مع الآخرين وتفاعلهم معي . وإذا نظرتَ للأمر نظرةً فلسفيةً خاصةً ، أعتقد أننا قد نكون جميعاً غير موجودين.

– كلا .. كلا (صاح محتداً) قبل ثلاثة أشهر صحبتُ عائلة إحسان للبحث عن رفاته. وفي أحدى الحفر وجدنا هيكله العظمي وبجانبه بطاقة هويته المدرسية ، وفي حفرة  أخرى قريبة وجدت عظامي وجزء من ملابسي !

قلت و أنا ابتلع دهشتي :

– ربما تكون ملابس شخص آخر!

قال :- أنا أيضاً ظننت ذلك للوهلة الأولى . لكن بعد أن فحصت العظام خاب ظني.كانت قطعة البلاتين الصغيرة التي وضعها الأطباء في عظمة فخذي الأيسر موجودة نفسها وفي المكان نفسهُ. وفي عظم الخنصر رأيت الحلقة الفضية التي أهدتنيها حبيبتي وعليها اسمي، والآن …

نهض فجأة . كان قلبي ينبض بعنف وكنت منذهلاً. قال :

– أنا لا يهمني ما تظنهُ.. أشكرك لإصغائك… والآن، الوداع .

لم أجد ما أقوله أو أفعلهُ لأستبقيه. تركتهُ يمضي، ربما ليلقي بنفسه أمام سيارة أخرى مرة ثانية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.