حسن رياض
قال سعيد :
حين خلدت أمي للنوم، فتحت النافذة عن آخرها وأخذت أدخن كنت أفكر في أشياء كثيرة ولم أنتبه كعادتي إلى عمق السماء ولا إلى النجوم أو السحب الهاربة، بقيت هناك إلى أن اقتربت مني أمي بعدما اعتقدت بأنها نائمة، لم أنتبه إلى حفيف أقدامها وهي تقترب، كانت نحيلة، في عيونها حزن عميق، أغلقت النافذة ودعتني إلى النوم، صمتها كان يشغل مخيلتي بهواجس كثيرة، إدماني المبكر على الحشيش والكحول كان يقلقها كثيرا، كما يقلقها إشتغالي في قلب الليل حين أحمل الريشة لأرسم وجها ما، أو أضع خطوطا للوحة قادمة. كما أن الكحول راح يبعد في ما بيننا، فبينما كانت ترفض أن أسلم عليها وأنا مخمور كنت ومخافة أن تراني على تلك الحال أتسكع طول الليل، لكنها لا تنام، فما أكاد أفتح باب المنزل حتى أسمع غمغماتها من بعيد :
إنه قلب الأم
كانت فتيحة التي تعرفت عليها صدفة برفقة سعيد بمقهى سيسي لا تفقه شيئا في الفن، لكن نبرة صوت سعيد الهادئة، و صمته البليغ أحيانا شجعها على الإستماع إليه أكثر.
كان سعيد متزوجا وله ابنة واحدة، أما فتيحة فكانت مثلي هائمة بلا أفق.
وكنت برفقة سعيد نتحدث في أمور مختلفة حين لمحتها وهي تدخل و تتجه رأسا إلى دكة عالية، بعد ساعة تقريبا، وكان يبدو من طريقة تدخينها أنها جد مرتبكة دعوتها إلى الجلوس بجانبنا فلم تتردد.
كانت في بداية عقدها الثالث، بيضاء البشرة توسطة القامة وعلى قدر كبير من الذكاء، وكعادتي لم أسألها عن أصلها أو فصلها، لكن لكنتها البدوية كانت واضحة و قبل أن تنهي السيجارة دعكتها على المنفضة، ثم التفتت إليّ قائلة:
- هل تشرب ؟
- نعم
- أي نوع من الخمور..؟
كان سؤالا مفاجئا من فتاة في مقتبل العمر فأجبتها باسما.
إلى حد الآن ليس لدي أي مشكل مع أي نوع.
أنا أيضا.
تقبلين على أي نوع…؟
ليس أي نوع، المهم و ضحكت بصوت عال قبل أن تضيف :
- المهم هو العبور إلى الضفة الأخرى.
قلت ضاحكا :
- أي ضفة ..؟
- النسيان. نعم النسيان. أن تنسى كل شيء و تنام، بعد ذلك فتحت حقيبتها و أخرجت مذكرة صغيرة. فتحتها ثم قالت بعد أن وضعت أصبعها على رقم معين.
- من فضلك هل هذا رقم كبيرة.
- كان إسم كبيرة في أسفل الورقة، و حين أشرت إليه بأصبعي، طلبت مني أن أركب لها الرقم. و بعد أقل من دقيقة جاء صوت كبيرة :
- فتيحة أين أنت ؟
- أنا في مقهى سيسي.
- ستعودين هذا المساء ..؟
- لا أعتقد ذلك.
- متى ستعودين..؟
- لا أعرف.
- هل أنت بخير..؟
- و توقفت فتيحة ثوان قليلة قبل أن تستدرك
- إنه أسوء يوم في حياتي
- كيف ..؟
سأوضح لك في ما بعد.
وضعت الهاتف في حقيبتها الصغيرة وأغلقتها بإحكام ثم قالت وهي تحرك رأسها غير مصدقة.
حتى و لو اشتعل رأسي شيبا فلن أنسى هذا الهولندي المزيف، وعلى الفور خمنت ما وقع إذ أن أغلب مشاكل المومسات تتشابه، وقالت وهي تعتدل واقفة، سأحدثك عنه فيما بعد،
تظاهرت باللامبالاة وسألتها
- عمن ستحدثينني..؟
عن الهولندي طبعا. لكني أحتاج الآن إلى بيرة باردة.
كان الليل قد أقبل، و ندف قليلة من المطر تغطي الشارع القصير المفضي إلى حانة ميموزا. وكان سعيد قد سبقنا إلى الحانة بعد أن حدثنا عن قلب الأم، وضعت فتيحة حقيبتها تحت إبطها الأيسر ومدت نحوي يدها اليمنى وسرنا صامتين و كأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن بعيد، و في الطريق حدثتها عن الحانة وأخبرتها بأن سمعتها سيئة وأنه من الأفضل أن نغادرها في التاسعة ليلا.
كان صوت سعيد هو أول ما تناهى إلى سمعي ونحن ندخل إلى الحانة شبه المظلمة، حيانا من بعيد. لكن ما إن جلست فتيحة كاشفة عن ساقيها حتى تخلص من صديقه و جلس بجانبنا بعد أن طلب عشرة بيرات دفعة واحدة، و قالت فتيحة و هي تنفخ دخان سيجارتها في الهواء.
قبل أن نلتقي كنت أفكر بالعودة إلى المقهى حيث إلتقيت بالهولندي لأول مرة أو إلى الفندق حيث يقيم، ولكني عدلت عن الفكرة، لن أنسى ما فعل بي، غريب أمر الإنسان لم أتردد طويلا حين نقد نادل المقهى ودعاني إلى النوم معه، كان شابا أنيقا، قال بأنه مهاجر بالديار الهولندية و أنه يقيم بفندق قريب ولكي يشجعني أكثر قال و هو يداعب شعري :
” لا تخافي… المال يحل كل المشاكل”
مكثنا لأكثر من ساعتين، بعدها أخذت دشا باردا وخرجنا، و بعد أن أخذ رقم هاتفي تواعدنا أن نلتقي من جديد.
- أنتظرك غدا :
- كان يقول لي وهو يلوح بيده مودعا وأنا بدوري أودعه بقبلات من وراء زجاج سيارة الأجرة الصغيرة لكن تضيف فتيحة بعد أن شربت بيرة في ثلاث جرعات متتالية. و كما يحدث أحيانا يجب أن تتوقع الأسوأ.و الآن وبعد الذي حدث لا أستطيع تفسير ما وقع.
- حين فتحت الظرف ووجدت فيه قصاصات ورق مقطعة ومرتبة بعناية فائقة وحده البكاء أنقذني ولم يفهم السائق وهو يتطلع إلي عبر المرآة لماذا أجهشت بالبكاء وبتلك السرعة بعد أّن كنت لدقيقة فقط أضحك وأوزع القبلات في الهواء. وبدل أن أعود إلى صديقتي كبيرة اتجهت إلى مقهى سيسي.
وخلافا لعادتنا أثناء الشرب لم ننبس بحرف في الموضوع إلى أن كسرت فتيحة صمت الحديث قائلة :
- إنه سلوك غير عادي.
- طبعا إنه سلوك غير عادي
- يرد سعيد وهو يختلس النظر إلى فخذيها. و قبل التاسعة ليلا بقليل و كنا قد شربنا زجاجتين من النبيذ الأحمر تناهى إلينا صوت الموسيقى من القاعة المقابلة، وبدا لي وفتيحة تقف وتأخذ بيدي نحو قاعة الرقص أن الوقت سيدوم أطول وسنتورط في مشاكل لا حصر لها مع السكارى وحدث وهي تفتح الباب المفضي إلى قاعة الرقص أن قبلتني فأخذتها إلي وأخبرتها بعد قبلة سريعة بأننا على وشك التاسعة وعلينا أن نغادر الحانة فورا.
لكنها أصرت على الرقص و مخافة أن ينقض عليها أي سكير بقيت بجانبها إلى أن هدها السكر والتعب. ورغم ذلك ظلت ترقص بين الفينة والأخرى و أنا أصفق أيضا وأرقص إلى أن أنقذنا سعيد حين دعانا إلى العشاء ببيته وبعد ربع ساعة تقريبا كنا أمام باب منزله وما إن فتح الباب وضغط على زر الضوء حتى اتجهت فتيحة رأسا إلى غرفة النوم وهي تقول لنفسها :
- نعم يجب أن أنساه كي لا يعذبني الندم
ثم استلقت على بطنها قليلا و كما توقعت سألت سعيد عن زوجته لكنه لم يجبها، تظاهر بأنه مشغول بالطبخ و ما إن دلفنا من الصالة الكبيرة حتى قفزت نحوي و غبنا في عناق طويل.
في لحظات اللذة المخمورة، لا تحس بعمق العلاقة، فجأة ينتهي كل شيء، إنك أمام جسد بلا وعي. جسد نائم وأحيانا محايد و بارد إذ بعد كل لقاء يبتعد الواحد عن الآخر وحدها العواطف و الانفعالات التي تثيرها الرغبة الجنسية هي ما يحرك الجسد نحو لقاء آخر ينتهي دائما بحرارة و دفئ اللحظة، لكن بلا روح، هكذا خمنت قبل أن تسألني فتيحة عن سعيد. فأجبت بهدوء بأنه في المطبخ.
- أي مطبخ ..؟
ردت بانفعال، بعدها همست في أذني بأنه كان يختلس النظر إلينا وأنه أشهر في وجهها ورقة من فئة مائة درهم حينها خرجت من الدش.
لم أنتبه و بفعل السكر الطافح إلى الصمت الذي ساد المكان، وحين سألت سعيد وأنا في حيرة من أمري إن كان قد انتهى من تهيئ وجبة العشاء رد بسرعة و بلكنة مرتبكة:
- نعم .. نعم.. أنا على وشك الانتهاء..
لكننا لم نأكل أي شيء، و طلبت مني فتيحة وهي تتجه نحو الدش بأن أراقبه بعد أن فتحت الباب على وسع قليل وأطفأت الضوء.
في البداية لم أصدق و إذا جاز كلام فتيحة فكيف سيكون رد فعلي، ولأني أعرفه بشكل جيد فقد خمنت بأنه لن يقدم على أي عمل عنيف أو يجرؤ على اعتراضها، في نهاية الأمر وقفت خلف الباب وما كاد يسمع باب الدش و هو يفتح حتى أشعل نور غرفته ووقف أمام الباب عاريا وفي يده اليمنى ورقة مالية.
و مع تقدم الليل و في كل مرة تخرج فيها للدش أو للتبول في دورة المياه، كان يقوم بنفس الحركات، فكرت في الخروج لكني تذكرت الدرج الكثيرة و أنا بالكاد لا أستطيع الوقوف على قدمي فأخذت أنصت لوقع أقدامه ، فتيحة تحتمي بي أكثر، تهمس في أذني ساخرة “يا إلهي ما أجمل هذا اليوم، من الهولندي المزيف إلى سعيد المريض” نضحك في صمت، أحيانا يسرقنا النوم، وبرغبتها الجامحة توقظني مرة أخرى، أضمها إلي وتحت وطأة السكر و خدره اللذيذ أشعر بأن الأرض تميد بنا، تتدحرج نحو أقصى زاوية بالبيت وسعيد يطاردنا كفزاعة – وفي كل مرة أفتح أعيني كانت تخبرني بأن سعيد يقف خلف الباب وبأنه يتردد في الدخول، وبعد لحظات خرج سعيد عن صمته وفتح الباب كانت في يده زجاجة نبيذ وضعها جانبا قبل أن يتهيأ للجلوس أمامنا عاريا.