حاوره: عبد الواحد مفتاح
ظهور شاعر جديد هو بالضرورة تقويض تام لكل ما تعرفه عن الشعر. هذا ما يمكن أن يأخذك إليه التفكير حالما تقرأ لصاحب “العهد اللذيذ”هذا الشاعر الذي أقول كم يلزمنا من الحماسة للحوار معه؟ هو المنفلت كثير التجريب والاشتغال، مند ديوانه الأول استطاع أن يخط لنفسه ومتنه انتباها كاملا داخل مدونة شعراء الحساسية الجديدة.
عمر الأزمي هذا الشاعر المتحالف بقوة مع قصيدته وقارئه، يفتح لنا هنا كوة للإطلالة الهادئة على بعض الهموم والقضايا، التي تطبع اشتغالاته ومواقفه ورؤاه حول وظيفة الشاعر اليوم، وهو يعرج معنا على محطات في سيرته وما عمل عليه، من محاولة خلخلة بارع لجدع القصيدة التي يطورها في أنات وحسن اشتغال مجهوده واضع ألتناء عليه.
-
كفاتحة لهذا الحوار خبرنا عن بداياتك مع القصيدة ؟
في الواقع أعتبر أن كتابة النص الشعري هو استجابة لنداء بعيد يصل من أقاصي تاريخ الشاعر الشخصي، ربما بدايتي مع القصيدة اقترنتْ بأولّ نظرة دهشة إلى هذا العالم، أو بأول حلم رأيته وأنا يقظ أو نائم..
أما بداية القصيدة معي فأُرجعها إلى تاريخٍ قريب جدا، ليس أكثر من أربع أو خمس سنوات.. لعل أشياء كثيرة امتزجت في علبتي السوداء: تكويني المعرفي، قلقي الوجودي، تجاربي في الحب والحياة… فكانت القصيدة. أو لعلها ضربة حظ أو اصطفاءُ اللغة جسدا تَنْقال من خلاله، أو لا شيء من كل هذا.. كل ما أذكر هو أنني كتبتُ نصا ذات ليلة من تاريخ قريب فأرضاني.. وأستطيعُ أن أنشرهُ الاَن وأقول إنه يعبر عني.. وهذا ما لا ينسحبُ على ما كنتُ أكتُبُ قبل تلك الليلة.
-
هل لك طقوس خاصة في الكتابة ؟
إن كنتَ تقصد بالطقس اصطناع الوضعيات والظروف لاغتصاب القصيدة، فلا.. وإن كنت تقصدُ مخاتلة المزاج أو دغدغة الوعي حتى يغفو، فإني أعرفُ طرقا كثيرة فاشلة لكتابة القصيدة..أما إذا كنت تقصد ما فهمتُ: أي الهواء المحايث لما بعد الدخول في حالة الشعر.. فإنّ القصيدة من تختار، وغالبا ما تختار الغطس في موسيقى هادئة.
-
عندما تكتب نصا جديدا، هل تضع للقارئ اعتبارا، أقصد هل تمارس نوعا من الرقابة الذاتية؟
الكتابة الشعرية في تقديري حالة استسلام تام، وحيادية مطلقة إزاء الدلالة، وتعطيلٌ وقتيٌّ للإرادة وللقصدية، لذلك اسألني إن كانت القصيدة تضع لشاعرها اعتبارا بلهَ للقارئ…
حين أكتبُ أفسح المجال -مضطرا- لأكبر عدد ممكن من العناصر العاطفية والفكرية وحتى الفزيولوجية كي تتلاقح، بالشكل الذي يحلو لها، أحاول أن أُمَكِّنها من دافعيتها الحرة… هكذا أُهرِّبُ القصيدة من أنايَ قبل أن أُهرٍّبها من الأنا الأعلى، تماما كما يُهرّبُ العالم عناصره التجريبية إلى المختبر، ثم يبدأ في إزاحة ذاته شيئا فشيئا ليترك الكلمة للقانون وللنسق.
-
ما هي وظيفة الشاعر اليوم، في زمن الميديا والعولمة ؟
لو سألتني عن وظيفة الكاتب بشكل عام ربما انخرطت معك في الحوار عن مسألة الالتزام، سواء بفهمها الكلاسيكي مع بزوغ المناهج الاجتماعية أو بتنويعاتها اللاحقة مع الوجودية وغيرها أو حتى بموجاتها المعاصرة التي تحتاج فعلا لإعادة طرح سؤال الالتزام في الأدب بارتباطه بالمفكر فيه في مجتمعاتنا حاليا… لكنْ والحال أنك تسألني عن الشعر فإني أقلق جدا من ربط الوظيفة بالشعر من حيث هو قيمة وتجلٍ مفارقين للخطاب اللغوي القصدي الذي يحمل رسالة في ذاته، أو غاية مرجوة تهدف إلى ترسيخ واقع ما أو تغييره، اللهم إذا كنتَ تقصد وظيفية متعالية شيئا ما، من قبيل المساهمة في تهذيب الذوق العام، أوتأسيس خبرة جمالية جمعية لدى الجمهور.. والحال أن هذه الوظيفية نفسها -وإن كنتُ لا أنفيها عن الشعر- أجدها محاصرة هي الأخرى بواقعٍ خاص مرتبط بجمهور الشعر الحقيقي (يمكن إسناد الصفة للموصوفين قبلها معا).. فهو جمهور يملك رصيدا معينا من تلك الخبرة الجمالية، أو لنقل قابلية ما لتذوق النص الشعري.. من أين حصل عليها؟ لا أدري… ربما تلقي الشعر أيضا يحتاج إلى موهبة…
-
في ديوانك (العهد اللذيذ) تكثيف للصور واشتغال على لغة شفافة، هناك نوع من تطويع اللغة إلى محاولة تطويرها، حدثنا عن اهتماماتك الخاصة باللغة؟
ديوان العهد اللذيذ تجربة.. معه اكتشفتُ أن التجاربَ الكبيرة في الحياة – كما الكتب- يمكن أن تتنفس بين دفتين..
مع هذا الديوان اكتشفتُ أن الشعر أيضا بشارة.. بشارةٌ للشاعر وللقراء الخُلّص.. لأنني شعرتُ أن كل نصوص هذا العمل “معجزات صغيرة” تأتي لتطيب خاطر الشاعر بعض لحظات الفرح أو التعاسة فوق البنفسيجة أو تحت الحمراء، أقصد تلك التي تفوق قدرته على الاستيعاب أو التحمل… بعدها يأتي النص كثيفا وشفافا في أحسن تقويم..
أذكر أن “فتغنشتاين” كان يقول “إن حدود اللغة هي حدود العالم” أما أنا فأقول لكم (بلغة العهد الجديد) إن حدود القصيدة هي حدود التجربة.فإن أردتَ –مثلا- قياس تخوم قدرة اللغة في “قولِ” الإحساس باليأس الجارف فخذ هذا النص من العهد اللذيذ:
لا تَقُلْ: “رُبّمـا”..
كُلّما قُلْتها
فاضَ فيك الْأملْ !
لا تَقُلْ “ليتَنا” ..
أنْتَ تجْرَحُ جُرْحاً
سَلا وانْدَمَلْ !
لا تَسَلْ عن بَقايا..
الْبقايا :الكمالُ الّذي
ما اكْتَمَلْ !
لا تَنَمْ في المجازِ …
حَمامُكَ مَجَّ الْحُروفَ
وَ مَلْ!
كُنْ خفيفاً
شفيفاً
ومُرَّ
كطيفٍ
كذكرى..
ولا تلتفتْ…
لا تَسَلْ نَجْمَةً :منْ أنا ؟
لا تَسَلْ غَيْمَةً : ما العَمَلْ ؟
-
ماذا عن لعنة الكتابة أو هوسها كيف تعطينا اِلماحة عن ذلك من خلال تجربتك ؟
أقول دائما إن القصيدة الحقيقية هي التي لا تخرج معك إلى الخارج، ولا تلح عليك في الطلب، هي التي تكون متمنعة وراغبة، خفية ومتجلية، أما لحظة الكتابة فما هي إلا حالة توافق رغبتين في الهنا والآن قد تنجح وقد تفشل نتيجةَ أيِّ تغير مفاجئ في مزاج أحد الطرفين.
وما قبل الكتابة أوما بعدها: تفاصيل. أو قلْ:هدوء ما قبل/بعد العاصفة.
-
هل تذهب مع التيار القائل إن ممارسة كتابة القصيدة اليوم ترف نخبوي معزول، خصوصا مع قصيدة النثر وبحثها عن الجماليات البديلة، والفردانية، بدل معانقة هموم الناس المجتمعية والسياسية ؟
أحتاج أن أعيد معك تعريف الترف ومَعْيَرَتهُ من جديد، لأن سؤال جدوى الشعر هو سؤال جدوى الفن برمته، والجدوى عادة ما نعرفها بكونها الإجابة عن حاجة.. أفلا يحتاج الإنسان والجماعات إلى الفن، ملأً أو إفراغا، تَمَكُّناً أو تمكينا؟ فإن كان الجواب بلى.. أفليسَ روح الفن عاجز عن التكشف إلا عبرَ تجليات وتنويعات مختلفة، أو لنقل أقانيم متعددة للروح الواحد ؟؟
إذن فانخلاق شكل تعبيري أو تنويع جمالي هو في حد ذاته إجابة عن حاجة ما، لولاها لما انخلق، وليس يهمنا بعدُ إن كانتْ هذه الحاجة جمعية أو فردية، المهم أن النسق يشتغل، وأن الأصوات التي في القاع تجد آذانا تسمعها في السطح، أما هموم الانسان المجتمعية والسياسية فللبيت رب يحميه، وما بيدِ الشاعر إلا أن يعطي الناس (كما يقول مظفر النواب) دروسا في التخريب.
-
ماذا عن الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وسهولة النشر الإلكتروني، هل تراه مسألة صحية أم أمراً يلزم التوقف عنده ؟