حمار عباس | حسن الرموتي
حسن الرموتي
خرج عباس كعادته باكرا، بقايا نجوم خافتة مازالت في السماء، لكن النهار يعلن قدومه في هذا الفصل الربيعي، وشوشات الطيور تأتي من الشجرة الوحيدة وسط الدار، هذه الشجرة التي غرسها عباس عندما كان طفلا نمت و كبرت معه، و رفض قطعها مرارا. خرج ممتطيا حماره، و الحمار يسير بخطواته التي اعتادها عباس، فهو يعرف حماره أكثر من نفسه. رجلا عباس متدليتان تكادان تلامسان الأرض، و أصابع اليد اليمنى تداعب السبحة برتابة، لم يكن يقول شيئا، فقط شفتاه كانتا تتحركان.. و اليد اليسرى تمسك بقضيب يهش به على الكلاب الضالة ، فهو لم يضرب به يوما حماره، فقد كان عباس يعزه و يفضله حتى على أولاده … لا نفع في أبناء هذا الزمان كما كان يردد دائما ، و كم تمنى عباس مرارا لو كان هذا القضيب بندقية ، و تحسر على أسراب القطا التي مرت أمامه و العديد من الأرانب التي نطت من أمام الحمار، و الحمار شاهد على ذلك كما يقول عباس مبتسما لأصحابه …في الطريق بين بساتين الزرع توقف الحمار فجأة و انتصبت أذناه ونهق ثم شرشر …. كان يدرك تماما وقد خبر حماره، أنه لا يتوقف إلا إذا اشتم رائحة أتان ، أثان سمينة .. و ابتسم عباس في قرارة نفسه وهو يردد في داخله ، على الأقل أن هذا الحمار يشهبني في عشقه للحم والشحم… نظر عباس للأفق البعيد، بدت له أدخنة النار تتصاعد من دور القرية، مرات كثيرة تلذذ برائحة الخبر أو الرغيف وهي تملأ خيشومه …. وكان عباس يعرف من رائحة الخبز نوع المرأة التي تعده…. تداعى إلى سمعه صياح الديكة و خليط من نباح الكلاب ، كلاب القرية التي يعرف عباس أنها جبانة، لا تحرك ساكنا مثل العديد من شبان ورجال القرية، الكسل والنميمة ولعب الورق والجنس.. هذا ما يحسنونه، ورغم أن عباس كان نحيلا لكنه كان صلبا، يمشي منتصبا، يبدو كأنه محنط، أو يشبه تمثال دون روح . كان عباس يدرك أن العديد من سكان القرية يسخر من مشيته، لكن لا أحد تجرأ يوما على ممازحته، منذ أن تصدى عباس لوحده لجماعة من اللصوص وكسر ضلوعهم… هذه الطريقة في المشي كما قال لأصدقائه المقربين وفي مجالسه الخاصة أنه تعلمها في الجيش ويضيف، اليوم لم يعد هناك رجال في الجيش… فعباس كان متعلما وحافظا لكتاب الله منذ كان شابا، وشيخ القرية سبب ذهابه للخدمة العسكرية بعد أن أوشى به… فقد كان شيخ القرية لا يحب عباسا …عندما بدأ حمار عباس بالنهيق من جديد، صدرت عن عباس ابتسامة عريضة وهو يردد في نفسه، من قال أن صوت الحمار هو أنكر الأصوات، ثم أردف و بيقين أن أنكر الأصوات لصوت شيخ القرية و زعيمها، لا يستطيع أن يقول جملة مفيدة، ويتكلم بصوت مبحوح، صوت لا يناسب هيئته الضخمة البدينة، صوته كأنه خارج من بئر عميقة… استعاذ عباس بالله من الشيطان الرجيم و حث حماره على السير وهو يتذكر رغبة سكان القرية في أن يكون مؤذنا للمسجد فقد عرف عباس بصوته الجميل العذب خاصة بين أصدقائه حين يترنم ببعض الأغاني الشعبية. كان نور الشمس قد بدأ يشعشع والفصل ربيعا، خطا الحمار قاطعا البساتين وأحس عباس بالنسيم يداعب وجهه كما تداعب الريح سنابل القمح، أحس عباس بشيء يتحرك بداخله لم يستطع أن يحدده. توقف الحمار قريبا من المسجد كأنه يدرك أن عباس فاتته اليوم صلاة الفجر، ترجل عباس و ترك الحمار يأخذ أنفاسه، دلف إلى المسجد ثم توضأ و صلى ركعتين وصلته صيحات الصبية وهم يرددون آيات من كتاب الله وصوت الفقيه يحثهم على اللغط . عندما انسل من المسجد لم يكن الحمار حيث تركه، التفت إلى الجهات الأربعة، لا أثر للحمار، كان عباس على يقين أن الحمار لا يستطيع أن يفارقه، لا بد أنه في مكان قريب، ضرب عباس كفا بكف وعاد إلى المسجد، وسار حيث فقيه المسجد. عندما رآه الفقيه قام مبتسما ومصافحا عباسا قائلا:
– زيارة ميمونة في هذا الوقت أسي عباس ، خيرا إن شاء الله .
ابتسم عباس وقد ظهر عليه بعض الإحراج قائلا.
– حماري آسي الفقيه، أنا أعرف حماري جيدا ، فقط أريد أن أعرف، هل من المنازل القريبة من يملك أتان سمينة مكتنزة .
– ابتسم الفقيه حتى ظهرت أسنانه كلها وقال دون تفكير .
الأتان الوحيدة التي أعرفها هي أتان زوجة سي مسعود رحمه الله ، هناك .
أشار الفقيه بيده و الابتسامة تغالبه، ثم أشاح بوجهه عن عباس وعاد إلى الصبية الذين مازالوا يلغطون.
سار عباس صوب المنزل مترددا ، لكنه على يقين أن حماره هناك …بصق على الأرض ولعن عباس الحمار.
هذه المرة و خطا نحو المنزل كأن أحدا يقوده. كانت زوجة سي مسعود تقف أمام المنزل بقفطانها الملون بدينة وتفيض حيوية… قال عباس وقد أحس بحرج الموقف وهو يخلل لحيته بأصابع يده اليمنى وقد وضع السُبحة في قب جلبابه :
– حماري اللا عيشة …
و قبل أن يتم عباس شكواه قالت زوجة سي مسعود :
– لا تخف، المسخوط هنا مع المسخوطة، لا أعرف متى دخل… لا أستطيع أن أتدخل الآن… في الحقيقة.
أريد جحشا… الله ارحم والديك آسي عباس أردفت اللا عيشة.
تمنى عباس في نفسه لو كان مسخوطا و لو لمرة واحدة في حياته، قال و هو يتأملها :
– أنا و حماري في خدمة اللا عيشة .
ابتسم عباس ، و أدركت للا عيشة مغزى كلامه و ابتسمت. دعت زوجة سي مسعود – رحمه الله – عباس بالدخول ليشرب كأس شاي ريثما ينتهي الحمار من خدمته . التقت نظرات عباس بنظرات الحمار عندما كانت للا عيشة تغلق الباب. واعتقد أن الحمار كان يبتسم له ، كلب للاعيشة كان يتناقز أمامه، ازداد يقينه من جبن كلاب القرية ، تصبب عباس بدوره عرقا كثيرا وهو ينتظر حماره. أما للا عيشة فقد انفجر بركانها ضحكا وشهيقا. عندما عاد عباس مع حماره، كانت الشمس خلفهما تلمع نارية ملتهبة، رأى ظله و ظل الحمار وقد استطالا أكثر من اللازم ، ربت عباس على ظهر الحمار و هو يقول : والله إنك خير من هؤلاء، أشباه الرجال ولا رجال… تفل في كفه ثم ضرب كفا بكف، ولأول مرة تمنى أن يجوب القرية هذا الصباح شبرا شبرا، حقلا حقلا، و بدأ عباس يترنم بصوت مسموع :
ما جَاتْ بتخمام ولا حْزارَهْ
العجبْ ، الربح جابتو حمَاره
والفْـيَاق بَكري ما هو خسَارهْ
والناعسْ ، ما جابْ لُو خباره
الفقيه مسكين فاتُوهاذ القسَارهْ
من بعيد كانت نظرات فقيه المسجد تشيعه متمنيا لو كان مكان عباس ويملك حمارا مثل حماره..في هذه اللحظة ، كانت للاعيشة تلبس قفطانها و تهرع لأتانها بعلف جديد، حدث كل ذلك بينما رجال القرية وشبانها غارقين في النوم آو في لعب الورق. وحده فقيه المسجد كان شاهدا على ذلك، لكن عباس يعرف انه لن يتكلم منذ ضبطه ذات صباح يضاجع عنزة خلف المسجد.
حسن الرموتي 2016-09-11