ريمة راعي
نجوم بلا تاريخ مولد
في حديقة خاوية مقاعدها ملوّنة, يحكى أنّ رجلاً هرماً اسمه قيس, لمح فتاة صغيرة, عيناها خضراوان كأحلامه, وشعرها أسود كالحزن, اسمها ليلى.
عرف قيس أنّها ليلى, التي أنهكته السنون وهو يبحث عنها, وأنّه تأخر كثيراً.
وحين نظرت ليلى في العينين, اللتين تحدقان فيها كما لو كانت غيمةً ضوء، عرفت أنّه قيس, الذي ستحبّه حين ستكبر, وأنّ الزمن تلاعب بالوقت.
اقترب قيس من ليلى, وانتزع نصف ظله, وقدّمه لها، فارتدته, وصارت لها قامة امرأة، وهو بات رجلاً لا يحمل السنين على ظهره.
ابتسم قيس، وابتسمت ليلى، وراحت تجري وراء الفراشات، ويجري هو وراءها.
في منزل قيس المليء بالغبار، ملأت ليلى البيت بالماء والصابون، وراحت تلهو لهو طفلة في العاشرة.
وقيس غفا على كرسيه بعدما أنهكته فقاعات الصابون, التي كان يلاحقها لأجل ليلى.
بعدما تعبت ليلى، غفت على ركبتي قيس, وراحت تحلم بأنّها تركض في مرج أخضر. وكان قيس يحلم بأنّه يملك قلباً لم تأكله الأيام, ليجري مع ليلى, ولا يتعب.
عانق حلم قيس حلم ليلى, وغرقا في غمامة من ضوء.
وبعدما انقشعت الغيمة, لم يبق من قيس وليلى سوى نجم ونجمة بلا تاريخ مولد, وبلا أسماء, وبلا أحلام خائفة.
ومنذ ذلك الحين وقيس يجري وراء ليلى في مروج من شهب
وكلّما لامست يد قيس ليلى لمعت النجوم في السماء، واصطدمت النيازك بالأرض، وتسمّر أهل الأرض مذهولين.
الســدّ
شعر النهر الصغير بالحزن, لأنّه ليس بحراً, والسفن الكبيرة لن تزوره أبداً، ولن يأتي الأطفال للعب على رمال شاطئه.
همس النهر بصوت أسيان: لن تستحم الشمس بمائي أبداً، ولن ترخي ضفائر ذهبها على صدري, لأنّي مجرد نهر صغير.
راح يبكي بشدة, ففاضت دموعه على المروج, ونبتت أزهار ملوّنة صغيرة, أخذت تضحك بأصوات مرتفعة, وجاءت عشرات الفراشات، صارت تلعب بين الأزهار، وتغني.
خجل النهر من أمنيته, التي لا عطر فيها, وهتف: لا أريد أن أكون بحراً. ليتني كنت زهرة برية, تهزّ تويجاتها للفراشات, فتفوح بالعطر, وتضحك.
وظلّ يبكي إلى أن رأى أحدهم يقطف زهرة, ويشمها, ثمّ يرميها.
حين رأى عصفوراً يطير في السماء, تمنّى أن يصبح عصفوراً ذا جناحين يحملانه إلى أجمل الأمكنة, يحط على النوافذ و حبال الغسيل, و ينقر الحبوب التي تنثرها له نساء مبتسمات الوجوه.
إلاّ أن بندقية صيد جعلته يتمنى أن يصبح شجرة تسكنها العصافير, وتهمس في أذنها بأغان لا يعرفها سواها.
لكنّ فأساً حادة طعن بها رجل شجرة, جعلته يشهق, و يشيح بعينيه بعيداً عنها.
و بينما يراقب غيمة صغيرة وادعة تحلق بهدوء, تجهّز نفسها كي تغسل وجه العالم, و تمسح الغبار عن الأشجار و الشوارع والنوافذ.
هتف النهر: أريد أن أكون غيمة !
لكنّ الغيوم تبكي كثيراً, والنهر سئم البكاء.
لذا قرر أن يبقى كما هو: نهراً.
وبينما كان يمسح دموعه, التي فاضت على السهول حوله, جاء رجال بأوجه متجهمة, قيدوه وراء كومة من الأحجار الضخمة.
وبعد أن غادر الجميع
بكى النهر, الذي أصبح سجين الجدران السميكة, لأنّه يريد أن يعود نهراً حراً صغيراً, يتسكع قرب المروج الخضراء، وتسكنه الأسماك الصغيرة.