د.محمد سمير عبدالسلام
تجدد الصوت التمثيلي ووفرة الدوال والصور في ديوان «بلا خبز ولا نبيذ» لمؤمن سمير:
يتسم نص مؤمن سمير الشعري بالتجريب في بنية الصوت المتكلم الذي يبدو تمثيليا في علاقته بالظلال الفنية، وبصوت الآخر المحتمل، و كذلك في تشكيل الصورة، والفضاء، وإعادة إنتاج العلامة في لحظة حضور لا تنفصل عن نماذج الذاكرة الجمعية، وعن أصوات الماضي في الوقت نفسه.
والتشكيل الجمالي للنسق العلاماتي – في خطاب مؤمن سمير الشعري – يبدو نيتشويا في تناقضاته ما بعد الحداثية من جهة، ويعزز من صيرورة العلامات، وتحولاتها، واستبدالاتها في التكوين النثري للقصيدة من جهة أخرى؛ فالخطاب هنا يؤجل النهايات الحاسمة، والمدلول باتجاه توليد العلامات، والصور، والفضاءات الاستعارية التي تتصل بالواقع، وتكثفه شعريا، وقد تتجاوزه، أو تستنزف بنيته في سياقات حلمية سوريالية، أو كونية، أو فنية جمالية؛ فالكتابة هنا تجمع بين الفراغ، والصخب، والزهد، والقسوة، وذاتية الصوت، وأصداء الآخر، وظلاله الفنية / النصية، وهويته التمثيلية الأخرى التي تؤجل كلا من مركزية الحضور، والغياب في آن؛ فقد يستعيد المتكلم صوت راسبوتين، أو الماركيز دي ساد في حضور شعري تمثيلي آخر في تداعيات القصيدة، وسياقها الذي يستعيد الماضي، ويفكك بنيته في آن؛ ومن ثم يحتفي نص مؤمن سمير بكثافة العلامة، ووفرتها معا؛ فقد تحيلنا العلامة الشعرية إلى كثافة تداخل الأصوات، والظلال، والأزمنة، والفضاءات، والوعي، واللاوعي، ويتسم النص – في الوقت نفسه – بتوليد الدوال، ولعبها، واستبدالها الذي يؤجل مركزية المدلول، ونهاياته في الخطاب الشعري.
وتبدو مثل هذه التيمات الفنية بوضوح في ديوان مؤمن سمير المعنون ب بلا خبز، ولا نبيذ(*)؛ وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ويؤكد الخطاب الشعري في الديوان سمة التجريب في مشروع مؤمن سمير، وقصيدته النثرية التي تعزز من التناقض الإبداعي، وتفكيك المركز، ووفرة العلامات، والصور، وتداخل الأزمنة، وشخصيات الفن، والتاريخ، وتجدد السياق الشعري، وتأكيده للتعددية، والاختلاف في علاقته بالماضي، وتاريخ الفن، وتشكيلاته، وإيماءاته الجمالية.
*الصوت التمثيلي الأدائي للذات، والآخر:
قد يتصل الصوت المتكلم – في نص مؤمن سمير الشعري – بالآخر الذي يحمل أثر الماضي، ويتجاوزه في هوية تمثيلية شعرية أخرى تقع بين عالمي الذات، والآخر؛ مثل الصوت المستعاد للماركيز دي ساد، وشخصية حفار القبور التي تقع بين الذات، وتاريخ الفن.
وتفرق ليندا هاتشون – في كتابها شعرية ما بعد الحداثية – بين السخرية ما بعد الحداثية، والنوستالجيا في إشكالية استدعاء الماضي في النصوص الأدبية، وترى أن السخرية ما بعد الحداثية تختلف عن النوستالجيا؛ فالأولى تعيد التفكير في التاريخ، وتستعيد الماضي، وتقابله وجها لوجه بلحظة الحضور من زاوية نقدية.
(Read, Linda Hutcheon, A poetics Of Postmodernism, Routledge, London, USA, 2004, p. 39).
هكذا يطرح خطاب المتكلم – في ديوان مؤمن سمير – إشكالية تأويل صوت دي ساد، وتواتر أخيلته الجحيمية في العالم الداخلي للذات التي تنطوي على الصوت التمثيلي الأدائي للآخر؛ ومن ثم يؤكد رؤية هاتشون في الاستعادة النقدية للماضي، وتجددها في لحظة الحضور، ومستوياتها الدلالية الفلسفية، والثقافية.
يقول: “أنا المسجون العظيم، أكثر من ربع قرن، والجدران تتهكم، وتجري، وتضيق، وتطير، وتتسع .. لكنها الآن تلهث، وتعترف .. أنا المسجون العبقري / ظهري يؤلمني / لكن السجان يشم الحقيقة / جحيما / صافيا”. ص 43، 44.
يؤول المتكلم صوت دي ساد من داخل الصور الاستعارية التفسيرية الكثيفة للجدران التي تبدو داخلية، وخارجية في آن، كما تومئ بتناقض نيتشوي ما بعد حداثي بين الصيرورة الجمالية، والإنهاك، كما تقترن ذاتية الآخر / التمثيلي بقسوة أدائية تذكرنا بأخيلة الجحيم في تصور نورثروب فراي للخيال الأدبي، والنماذج؛ وكأن حضور ساد التمثيلي يستدعي الذات المتعالية، واحتمالية الفراغ، والتأجيل في ممارسة القسوة.
وقد يتجلى الآخر / التمثيلي في صورة حفار للقبور؛ وقد يكون صوتا تأويليا للذات المتكلمة، ويتصل – في نوع من التناص الإنتاجي التحويلي – بشخصية حفار القبور في مسرحية هملت لشكسبير؛ فقد اتصل حفار شكسبير بجمجمة مهرج الملك، بينما يبدو حفار القبور – في ديوان مؤمن سمير – متموضعا في مسافة بينية بين بهجة الحياة، والغياب في آن، ومؤجلا لبنية القبر في وفرته، وتجدد صوره، وصيرورته الذاتية الداخلية التي تقع في قلب حركية الحياة، وتحولاتها الدينامية.
يقول: “أمتلك مقابر كثيرة، ترعى حولي، وتحب أن أسقيها؛ لتزدهر، وتغني في المواسم، ومع الأيام صارت عشيرتي التي أحس أنني لا أتنفس إذا غابت، ولا تبتسم إذا اختفيت”. ص 25. تعاين الذات المتكلمة حضورها التشبيهي الطيفي في وفرة علامة القبور في النص، وتقع في مسافة مجازية بينية بين الغناء، والصمت، أو الفراغ، والخواء؛ فالقبور هنا تشير إلى الصخب، واللعب، والغياب المؤجل في آن، وتذكرنا بغناء أورفيوس المجرد في تصور إيهاب حسن لنصوص بيكيت، وجينيه؛ القبور هنا حالة من حالات الوجود الذاتي، تؤكد استنزافه في وفرة الظلال، والأطياف التي تشبه وفرة القبور، واقترانها بغناء مجرد يجمع بين أصداء الماضي التي تشبه صخب مهرج شكسبير الأول، وغناء أورفيوس، بينما يشبه الصمت تمزق ديونسيوس النيتشوي؛ ومن ثم يؤجل الصوت بنية الموت الكامنة في القبر، ويستبدلها بحالة من الحضور البيني التصويري في النص.
وقد يكثف خطاب المتكلم الشعري صور القديسين في الذات، وفي الأشياء الصغيرة، وتبدو أصواتهم التمثيلية صاخبة، وتومئ إلى الزهد أيضا في تداعيات الكتابة، واستبدالاتها، ونماذجها المستعادة من اللاوعي الجمعي؛ يقول: “إنهم في المطارات، وفي الأظافر، وفي ملابسنا، تأكلهم الحسرة بأسنانها، وترفضهم بنوك الدم. وعندما يهل الضجيج، يرقدون كالجنادب مرتعشين كالقداسة”. ص 78.
يجمع الخطاب الشعري – عند مؤمن سمير – بين العلامات المتصلة بتفاصيل الواقع، والأشياء الصغيرة، والعالم الداخلي، وعلامات ما وراء الواقع الكامنة في نماذج القديسين نفسها المستعادة من الماضي، والكامنة في صخب الحاضر، واليومي، والبسيط؛ وكأن المتكلم يستحضر تجدد نماذج التطهر الأولي، وبنى الزهد في الصخب اليومي، والتحولات الذاتية الداخلية للمتكلم، والآخرين / المحتملين.
*صور حلمية، وتشكيلية:
يمزج مؤمن سمير – في ديوانه بلا خبز، ولا نبيذ بين الصور الحلمية، والتشكيلية، وصيرورة السرد الشعري؛ ومن ثم تعزز قصيدة النثر – في الديوان – من وفرة الدوال، وانتشارها الذي يذكرنا بتصور دريدا حول الكتابة الأولى، واتصالها بالصوت، والحركة، والتصوير، ويرتكز المتكلم على لعب الدوال الحلمية المستعادة من عوالم اللاوعي، واقترانها بتجاوز مركزية المدلول في الكتابة التي تحتفي بالأثر الجمالي، وتمزج بين القسوة، واللعب في خطاب المتكلم؛ يقول:
“توحشت لحيتي بعد هذا اليوم، وكل مساء تخرج ذراعين يقبضان على رقبتي؛ فلا أتنفس إلا إذا ركلت الظلال الباب، وخلصتني. … الخوف كل الخوف، أن تغافلني لما أغمض رعشتي، وتستطيل، وتغطيني؛ فأدفن في شرنقة لزجة، مجدولة من الضحكات السحيقة ساعة يلهو صداها في جدران روحي”. ص 17، 18.
صورة اللحية السوريالية – في الخطاب – تتوسع سرديا، وتصل الذات بأصوات الماضي، والذاكرة الجمعية، وبالقسوة الممزوجة بالسخرية، واللعب؛ وكأن صورة اللحية تشير إلى جزء عضوي هامشي من الذات، وتبدو مغايرة لها، وتسعى لاستبدالها في آن؛ فتبدو إحدى تمثيلات الموت، أو الموت الحلمي المؤجل في صيرورة سردية صاخبة.
وقد يتضمن نص مؤمن سمير الشعري نوعا من التداخل بين الفنون؛ فيومئ المتكلم إلى تشكيلات اللون في اتصالها بالحواس، وبالجسد، وبالكينونة، أو يشير إلى أصوات لجمهور حلمي داخلي، أو يشير إلى فضاء جمالي يستعيد علامات فولكلورية من الذاكرة الجمعية، والواقع اليومي مثل علامتي الذئب، والملاءة.
يقول: “الضربة كأنها بحيرة، ومكانها الذراع من أعلى … كذلك يمكن قنصها على الساق، تتحرك بحذر، وتستعير روح ذئب مخضرم. من يومين كان رسمها، وشم صوتها هو المتاح فقط .. أفرد الكدمة، وأشد ملاءتها من الأربع جهات؛ فتسقط في القلب، ويصفق الجمهور، وتطفر دمعة من عين فتاة”. ص 31.
يكشف النص عن بروز فضاء سيميائي تشكيلي، وسردي في آن؛ فالكدمة تنتقل في الجسد، وفي الكينونة، وتتصل بعلامة الذئب في التراث الثقافي، وتتشكل وفق أخيلة اليقظة المرتبطة بالمياه في علامة البحيرة، وتبدو كعلامة ضمن سينوغرافيا مسرحية داخلية لها جمهور حلمي، يحوي فتاة تبكي.
إن الدوال تتوالد في السرد الشعري، وتبدأ بحضور استعاري تشكيلي للكدمة الحمراء التي صارت مفتتحا لعلاقات جمالية، وسردية بين الدوال، والصور في النص.
*الفضاء كظاهرة جمالية في الوعي:
الفضاء – في ديوان مؤمن سمير – يتشكل ضمن تداعيات الكتابة، ونسقها السيميائي، وتحولاتها؛ إذ يحمل أثر المكان، ويتجلى كتكوين ظاهراتي في الوعي المبدع؛ فعلامة التل تنقل نفسها في تمثيلات المغني، والطائر، والمصور؛ أما الشبح فيبدو كفضاء جمالي يشير إلى المكان، ويستنزف مركزيته في الفضاء التشكيلي السيميائي المحتمل ضمن بنية المكان نفسها، وفي تحولاتها الإشارية الممكنة في فعل الكتابة.
وأرى أن الفضاء – في ديوان مؤمن سمير – يتجلى – في الوعي المبدع – ضمن شعرية تشبه اللقطة الفوتوغرافية التي تكشف عن زاوية الرؤية النسبية، وجمالياتها الخاصة، والتجلي الفيزيقي، والخيالي / المتجاوز للواقع في علامة الفضاء، وتحولها ضمن صيرورة الدوال في النص.
يقول: “عندنا تل عجوز، كان يتمنى أن يكون مصور أحزان، وينجب أولادا، وينط على سجادة الهواء .. يبيتُ في غبش الصبح، ويرنم بصوت مجروح ..
في بلدتنا شبح
يكومون عنده الذكريات،
ولهذا يسمونه الكوم”. ص 66.
يشير المتكلم – في خطابه – إلى أصالة المكان / الفضاء، وتمثيلاته الإشارية، ودواله الاستعارية، ويبدأ بالتجلي الفيزيقي للمكان / التل في المستوى الأول من التشكيل الشعري للعلامة، ثم ينتقل إلى الاستبدالات الخيالية، والتفسيرية المحتملة في الوعي، بينما يبدأ بالإشارة إلى الحضور الظاهراتي للمكان في الوعي في الإحالة إلى علامة الشبح في المستوى الثاني من نسق القصيدة، ويختتمها بحضوره الواقعي في الذاكرة؛ وكأن الوعي يحيلنا إلى الأصالة الجمالية الكامنة في بنية المكان التسجيلية، وما تتضمنه من حضور شعري آخر في الوعي، وأخيلة اليقظة.
—————————————————–
(*) بلا خبز ولا نبيذ، شعر: مؤمن سمير، الهيئة المصرية العامة للكتاب2017