يتعرض الصوفية المغاربة بين الفينة والأخرى لهجمات تشهير قاسية من بعض السلفيين وبعض الإخوانيين المغاربة، وهو أمر لم يحدث من قبل بهذا العنف، ويحدث اليوم بسبب سياق موضته انفلات غريزة التطرف والعنف الأعمى من عقالها، سواء العنف اللفظي أو المادي، لدى الذين يعتبرون الدين مرجعا وحيدا لهم، وهي مناسبة لتنبيه ذوي الطموح السياسي الجامح باسم الدين، إلى ضرورة عدم إسقاط الماضي على الحاضر، وضرورة الانتماء لقيم العصر التي لم تعد تسمح باختلاق الفتن وإشاعة الكراهية بدون مبرر. فالصراع بين الفقهاء والصوفية لم يعد له مجال اليوم، ولا حاجة لنا به لأننا نعيش في ظل الدولة الحديثة التي ليست لا دولة فقهاء ولا دولة صوفية، بل هي دولة المواطنة التي تساوي بين جميع أبنائها على أساس قاعدة الجنسية والانتماء إلى الوطن الجامع، فالسياق لم يعد هو نفسه، لكن الذين يعيشون الماضي، ويظلون مستلبين في كتب التراث، يعتقدون أنهم يستطيعون إحياء النعرات القديمة وتجديدها وتغذية نفوذهم الاجتماعي والسياسي من خلالها.
لست من أتباع الزوايا ولا أومن بالروحانيات، وأجد متعتي الفائقة في تفكيك الخطابات وأنماط السلوك والوعي بعقلانية قد تضجر البعض، ولكنها ضرورية لفهم ما يجري. وقد أجد متعتي في الشعر والموسيقى، لكنني لم أشعر قط بالحاجة إلى شيخ ولا زاوية، وإن كنت أحترم الناس في اختياراتهم الشخصية التي لا يؤذون بها غيرهم، ولا يلحقون بها أضرارا بالفضاء المشترك. رغم ذلك شعرت بعدم الطمأنينة، بل وبكثير من الامتعاض وأنا ألمس كيف يتهجم السلفيون والإخوانيون المغاربة على المتصوفين، مسفهين تجاربهم ساخرين من معتقداتهم الروحية وطقوسهم التعبدية، ولي في هذا كلمة لا بدّ أن أقارن فيها بين الصوفية المغاربة الذين أعرفهم، وبين السلفيين والإخوانيين الذي عرفتهم أيضا من خلال الاحتكاك بهم في منتديات الفكر والحوار السياسي والمدني. وهي مقارنة نعقدها انطلاقا من السياق الراهن الذي نعيشه اليوم، وليس من أي سياق آخر.
أول ما يميز الصوفية عن السلفية والإخوانية إنسانية الأولى وقساوة الأخرَيين، فالأولى لشدة احترامها للإنسان تضعه في مقام القرب من الله بدون وسائط السماسرة وتجار الإيمان، عبر الاتصال المباشر أو “الحلول” و”الاتحاد” أو “المواجد” و”الأحوال” وغير ذلك من المفاهيم العرفانية الروحية، أما السلفية والإخوانية فتصلان بالإنسان درجة من الاحتقار تجعل منه آلة مبرمجة لتطبيق وصفة يومية من التعاليم الفقهية، بحيث تلجم عقله وتطمس جدوة روحه وتحوله إلى كائن أبله لا يعرف من الألوان إلا الأسود والأبيض، بينما تزخر الطبيعة بالألوان الزاهية البهية والجميلة.
وثاني ما يميز الصوفية عن الإخوان والسلفيين انشغال الصوفية بمتعهم الروحية الشخصية التي لا يسعون من ورائها لا إلى سلطة ولا منصب ولا ترأس أو غلبة، واحتراق الإخوان والسلفيين وعجلتهم من أجل بلوغ مناصب الترأس والسلطة والغلبة لإحكام قبضتهم على الدولة وممارسة الوصاية على عقول الناس وإحكام الطوق على رقابهم.
وثالث ما يميزهما عن بعضهما سعة أفق الصوفية وضيق السلفية والإخوانية، فللصوفية تأويلاتهم للنصوص الدينية تأخذهم إلى مشارف الروح، وتستكنه مواطن الحلم والجمال في الإنسان وفي الكون وما وراء الموجودات، بينما يُحول السلفيون والإخوان نصوص الدين إلى عبارات نمطية ماحقة وفقه مغلق، يفقر الحياة ويقتل ومضة الإبداع، وهم يفعلون هذا كله باسم السماء، دون أن يكون الربّ قد اتخذهم وكلاء أو محامين.
ورابع ما يفصلهما عن بعضهما البعض جمالية الصوفية روحا وجسدا ولغة وتصورا وتخيلا، وقبح السلفية والإخوانية مظهرا ومخبرا وخيالا وكلاما، فالأوائل لا يتكلمون إلا ليحدثوك عن فنائهم في عشق المطلق، وعن متعتهم الروحية التي يجدونها في الجدبة والذكر، دون أن يعتبروك أقل آدمية وأهمية منهم، ودون أن يلزموك بما هم فيه من تجربة، بينما لا ينطق الأواخر إلا ليصرخوا بأصوات منكرة، فمنهم المتملق والمتحذلق، ومنهم الفظ الغليظ القلب الذي لا يبشر إلا لينفر، وهم لا يرون في غيرهم إلا خطرا داهما وشرا مستطيرا، فتراهم يكيدون للكل حتى تنقلب مكائدهم عليهم، ولهذا يلازمهم الخراب حيثما حلوا وارتحلوا.
إن الفرق بين الصوفية من جهة والسلفية والإخوانية من جهة أخرى هو مثل الفرق بين المحبّة والكراهية، بين المودّة والجفاء، بين العشق والنقمة، بين الحِلم والانتقام، بين الحضارة والبداوة، وأنا متأكد لو أننا نزعنا قلوب السلفيين والإخوان ووضعنا بدلها قلوب الصوفية لقلّت البلوى وخمدت الفتن، وعاش الناس في أمن وأمان.
إننا نحن العلمانيون الحداثيون الديمقراطيون نشهد أننا لم ينلنا من الصوفيين بلاء ولا براء، وأننا لم نر منهم إلى كل لطف وسماحة وحسن معاملة، وجوه بشوشة وطلائع نيرة، وأننا لم نر من السلفيين والإخوان إلا كل نظر شزر ونفور وغلظة، مع شتم وسبّ وقذف لا مبرر له أحيانا سوى الرغبة في الاستفراد بالميدان لإثارة الفتنة وإشاعة الكراهية، من أجل خنق أصوات من يخالفهم الرأي، حين تعوزهم الحُجّة، ويخونهم الفكر، وتجفوهم الحكمة.
لكن، يبدو أن قدرنا أن نعاني لزمن آخر غير يسير مما عانى منه الذين سبقونا، وحكمة الوجود أن ندرك بأن أخطاء الماضي لن تصنع حاضرا ولا مستقبلا، ما دمنا لا نعترف بأنها أخطاء.