خالد الشاطي:
الساعة العاشرة صباحاً …
إنها الساعة التي طلبوا مني التواجد فيها بالضبط.
لا يسمح موظفا الاستعلامات لحميد بمرافقتي، يقولان أن الأمر لا يتعدى طلب معلومات ، وأنني سأعود بعد نصف ساعة . بإمكانه الذهاب أو الانتظار هنا في الغرفة. يتصرفان بالطريقة نفسها التي لموظفي الفنادق إزاء زائر غير مرغوب فيه ، مع هذا أندهشُ من هذا اللطف غير المتوقع . فوق باب المدخل تبتسم صورة الرئيس بلباسهِ المدني مؤكدةً كلام الحارسين .
وباستحياء ينتقل حميد إلى الاحتجاج بكلمات وعبارات احتاج لتحضيرها – بلا شك – وقتا طويلاً: أنه زوجي.. أنني مواطنة صالحة.. أنني لم أفعل ما يستوجب الاستدعاء إلى مديرية الأمن.
بدا حميد مثل ممثل فاشل أُجبر على إداء دوره ؛ دور الزوج المستثار المتوقع منه في هكذا ظرف ، ذلك أن نبرة صوته – التي أراد لها أن تكون حادة بعض الشيء ؛ متموجة بعض الشيء – خرجت على وتيرة واحدة رغماً عنه. شعر الموظفان – اللذان لايعلما أي شيء بخصوص الاستدعاء – بذلك لأنني شعرت به. لم يعاملاه أو يكلماه بخشونة كما لو أنهما بدورهما يمثلان.
وهذا أكثر ما أحبه في حميد : أنه لا يُجيد التمثيل . عندما رمى كتب خالد و(عقج) أوراق كتاباته لم يكن يمثل. لا. حتى عندما قال أن هذا الولد سيعرضنا جميعاً للخطر لم يكن يمثل. كان خائفا، خائفا بحق. وددت لو أنني استطيع هذه اللحظة أن أضغط على يديه أو أمسد شاربيه الجميلين؛ لأنه كان خائفاً، ربما أكثر مني ، لأنه بسببي وبسبب أبن أختي وقع في الخوف والحرج.
-الغرفة الثانية فوق!
هذا ما أفهمه من إشارة الموظف. لا استيضاحات من جانبي. أخطو باتجاه الباب المفتوح أسفل الصورة. أرتعش وأنا أدخل في جوف الفم الموارب ذي الأسنان المبتسمة. أتوقف. أعرض عن المضي في الممر أمامي ولا أختار جهة اليسار بل أنعطف يميناً لأنني أظن أنَّ السلم فيها. مهما يكن من أمرٍ فأنا لم أفعل شيئاً يستوجب القلق كما قال حميد وكما ظللت أردد لنفسي منذ البارحة، إنما ما أفعل لهذا الفراغ الذي أنفتح بداخلي؟!
سأخرج بعد نصف ساعة، لن أخرج بعد نصف ساعة. أعني ربما كان صحيحاً، أعني الخروج وليس تحديد المدة التي سأمكثها هنا .عندما أخذوا خالد ذكروا له عبارة النصف ساعة كما ذكروها لكل من أعتقلوه . وها هي الآن النصف ساعة أمتدت لتغدو شهراً وربما تمتد لسنين أو إلى ما لانهاية. لكنني آمل أن تكون تلك الكلمات قد هدّأت ولو قليلاً مخاوف حميد. أنا متأكدة من إنه يخشى أن أقاد للحبس في زنزانة. أنا متأكدة وإن لم يقل حميد ذلك.
يخرج رجلٌ من غرفة ليدخل أخرى . في أثناء ذلك يبحلق فيّ بوقاحة. أواصل الدبيب مثل نملة عمياء . عيناه صغيرتان لا تناسبان رأسه الضخم وتسريحة شعره (النكرو) ما عاد أحد يَعمَلها هذه الأيام . للحارسَين شاربين كثين مثل شاربيه إلا إنهما لا يغطيان شفته العليا بالكامل وأن كان يترك طرفي شاربيه يصلان إلى الذقن . آه .. أنه هو .. الرجل الذي أبلغني بالأمس أمر الحضور إلى هنا. هل هو هو؟ لعل لباسه المختلف هو الذي جعلني لا أتعرف عليه على الفور أو لعلها بحلقته. بالأمس بدا لامبالياً وبارداً مثل الحارسَين ، لكن نظرته الآن مزعجة . رغم ارتباكي رغبت في أن أردّ على تلك النظرة بصفعةٍ قويةٍ أو بصقة في العينين . ربما يتحتم على رجال الأمن إرتداء قناع خارج الدائرة يخفي حقيقتهم أو أن العكس هو الصحيح . وهذه البحلقة: علام هي؟! أتبدو هيئتي الآن غريبة في نظره ؟ أم أنه إجراء متبع من الجميع هنا إزاء أي مواطن يستدعى للتحقيق: حَقْنَهُ بجرعةِ خوفٍ تمهّد العمل للضباط فوق.. لعلها بحلقة من موظف متعجرف ؛ موظف يُكلّف بأعمال بسيطة كالإستدعاءات وإيصال البريد وبالتأكيد اعمال التخويف و…. التعذيب.
لا .. لستُ تائهةً. ها هو ذا السلم على يمين. وأنا أصعد بعض الدرجات يتناهى إلى سمعي صوت صراخ حاد؛ صوت استغاثة امرأة تُعذّب. أنتبه إلى تسارع ضربات قلبي. أخشى أن يثبَ للخارج ويتركني أنزلق للأسفل.
ولماذا صوت امرأة ؟! لا يمكن تمييز ذلك غالباً. خصوصاً عندما يتناهى إلى سمعك من مكان بعيد. لقد اعتدنا منذ بضع سنوات على سماع مثل هذا الصراخ تطلقه امرأة مفجوعة، فالرجال لا يصرخون، أنهم يقفون مرتبكين ، يبكون أو يتظاهرون بالجلد، ربما يرغبون بالصراخ أحياناً إلا أنّ النساء يسبقَنْهم لذلك، إنهن يسبقنهم دائماً ويتركْنهم مرتبكين.
الممر الذي انتهي إليه مظلم لولا بصيص الأضواء المنسكبة من بعض الغرف المفتوحة على جانبيه. أرضية الممر غير نظيفةٍ وبعض بلاطاته ناتئة. الجدران صقيلة إلا أن الطلاء مقشر
في أماكن كثيرة . يبدو المكان كأنّه معد لإعمال صيانة وترميم .
الصمت يسود تماماً .
أتخيل .. أنني وأنا أسيرفي أحدأ تجاهيّ الممرَ وأسير وأسير؛ أصطدمُ فجأة بمرآةٍ؛ مرآة تسد طريق الممر بأكمله مثل جدار. مرآة ما كانت تعكس صورتي .لكنني أفكر في أنهم ليسوا بحاجة لفعل أي شيءٍ لترويع المعتقلين أو تحطيم إرادتهم. فهذا الممر الذي يبدو مهجوراً يُغني عن إنتاجات الفكر الشيطاني المبتكر ، فهو يتألف في تكوينه المادي من ذرات الخوف الباردة.
أسير يميناً لأقف أمام الغرفة الثانية. أطرق الباب بظهر إصبعي فينبعث منها صوت بارد: (أدخل). أطرقها ثانية فينبعث الصوت أعلى قليلاً. يشبه الأمر الضغط على جرس البيت، فكل ضغطةٍ تبعث النغم نفسه وكأنه ينتظر ليثب عند أول ضغطة. تستولي عليّ رغبة غامضة بالمتابعة، إلا أنني أدير مقبض الباب وأدفعه. يبهرني ضوء الغرفة. الكتب تحتل جميع الجدران . وأمامي يجلس رجل غائم الملامح بسبب الضوء المنبعث من النافذة
الكبيرة خلفه . يجلس ثابتاً وكأنه مخلوق لي ، لهذه اللحظة ، في هذا المكان ينتظرني منذ قرون .
يتناول كأساً موضوعاً على مائدةٍ صغيرةٍ لامرئية وهو لايحوِّل نظره عني.إذا كان يُسمح لهم بالشراب في الدائرة ، فهل يشربون في الصباح ؟! يقول :
-
أأنتِ سعاد ؟
أجيبه بالإيجاب دون خوف لكن جسدي يشرع بالإرتجاف . أفكر في أن أجيبه بـ (نعم) على كُلَّ أسئلته ، فقد بدا لي هذا الكائن ذا قوة مطلقة ، يعرف كل شيء وان لاجدوى من الإنكار .
يسألني إن كنت خالة خالد فأجيبه ب ( نعم ) أيضاً . صوته بارد ولا يحمل أي تهديد . هناك تقطيبة بين عينيه تغور كلما تكلّم فتنشر مزيداً من الظلال على جبهته . يأخذ نفساً عميقاً من سيكارة ٍ لم أرها ، كانت موضوعة على منفضةٍ أمامه . يبدو كأنه يبحث عن سؤال. يربكني وقوفي أمامه . أكاد اضحك من إرتجاف جسدي . أفكر في أن من الطبيعي أن يبدو عليّ الخوف وأنه في النهاية لصالحي.
يسألني عن عمري وتحصيلي الدراسي وهواياتي . أجيب بأنني في الرابعة والعشرين . لم أكمل دراستي المتوسطة وبان لاهوايات لدي .
-ألا تقرأين كتباً ؟! (يقول باستنكار وهو ينحني للأمام فجأة مشيراً إلى الكتب حوله ) ولا حتى القرآن!
-لا ، لا أعرف القراءة جيداً .
يتناول كأساً آخر :
-عن ماذا تتحدثين أنتِ وخالد ؟
يربكني السؤال . أقول أنني لاأراه كثيراً وهو في أغلب الأحيان يقرأ أو يرسم . إنني أحياناً أسأله عن دراسته حينما أزورهم وهي زيارات قليلة . يقاطعني :
-ألا تتحدثان في السياسة ؟
أبتسم رغماً عني . إبتسامة خائفة ولا شك .
-
مالنا والسياسة – أقول – أنا لاأفهم في هذه الأمور .
يَحلُّ صمت قلق . أتصور أن الضابط قَنع بكلامي .تحتد لهجتهُ :
-كيف هذا ؟ وأنتِ مَن يحرضُ خالد وجماعته على كتابة المنشورات !
-منشورات ؟ّ!!
أقول متفاجئةٌ حقاً. ويشلني الرعب. هذه إذن تهمة خالد. أجد نفسي منساقةٌ للتمتمةِ بكلماتٍ وعباراتٍ لامعنى لها. يشعل سيجارة وحين يأخذ نفساً تتعمق التقطيبة مجدداً مابين عينيه. يقول منهياً تمتماتي المتناثرة :
-ماذا كنتِ تفعلين في بيت خالد عندما قبضنا عليه ؟.
-أزورهم !
أقول وأنا أشعر أنني على وشك السقوط .
-كم مرة تزورينهم ؟
-مرةً كل شهرين أو ثلاثة.
-وهو.. ألا يزوركِ ؟
-لا ، أبداً
-وهل تعرفين أصدقاءه ؟
-وكيف لي أن أعرفهم؟!
يأخذ نفساً من سيكارته ثم يناولني ورقة وقلماً يأمرني أن أكتب شعاراتِ ضد الرئيس والحزب والحكومة. أترددُ ثم أكتب مرتجفة ما طلبه. يراقبني بطرف عينه ويأخذ الورقة وينظر فيها لثوان ثم يضعها على المكتب بلا مبالاة. يقول :
-سأسألكِ للمرة الأخيرة .. هل أنتِ من يحرض خالد وجماعته على كتابة المنشورات ؟.
أنخرط في البكاء وأولول . أقول أنّ لاعلم لي بأنه يكتب هذه الأمور..أنه ولد طيب .. أين هو والسياسة .أقولأنه من عائلة طيبة وفقيرة .. ولابد أن أصدقاء السوء ضحكوا عليه .. وأن من المستحيل أن يرتكب مثل هذه الأفعال.أقول أنه ولد صغير، إحسبوه مثل ابنكم .. إنكم ستدلونه على الطريق الصحيح.. يُطفىء سيكارته بهدوء .
-
إنتظريني خارجاً .