الرئيسية | حوار | محمد بنميلود: الكتابة موقف صارم من العالم وعلى الشاعر أن يكون ملاكماً جيّدا

محمد بنميلود: الكتابة موقف صارم من العالم وعلى الشاعر أن يكون ملاكماً جيّدا

حوار : مصعب النميري

في الرباط، وفي شهر مايو 1977، وعلى شاطئ المحيط الأطلسي، قريبا من نهر أبي رقراق، الذي يبدو من الهضاب العالية أزرق وصافيا، ولد الشاعر المغربي محمد بنميلود. لم يكن ثمة ما ينذر بأن شاعراً سيأتي ليكتب وهو يرتدي قفاز الملاكمة، جاء بغتة ودعا إلى النأي عن المحاباة واللطف الزائد، لأن النصّ لا يسلّم نفسه طوعاً، ولا يأتي بعلبة كهديّة من شخص مجهول، وهو يؤمن بأن على الكاتب أن يكون حازما بما يكفي ليضع سكينته تحت ذقن القصيدة بغرض سحلها بين الأشجار كما يفعل الطغاة بالمتمردين، إذا بسطوا نفوذهم على الجيوب الثائرة. يكتسب هذا الشاعر فرادته من انحيازه للجوهر على حساب الشكل والقالب، ومن انزوائه بعيداً عن المؤسسات الثقافية التي تنتج الأدب المعلّب، وإيمانه بأن الوسيلة التي يصل بها النص إلى الناس ليست مهمة، المهم هو النص أولاً وأخيرا.. كما يقول.

 

ما الذي تعنيه لك مدينة الرباط؟

• الرباط مدينة جميلة، على شاطئ المحيط الأطلسي، مناخها ساحر، معتدل، لي علاقة حب عذري بأزقتها القديمة وأحيائها وشوارعها ومقاهيها الصغيرة ومآثرها، خصوصا نهرها أبي رقراق، الذي يمشي مثقلا في خطوه المتعب الوئيد بأحزان الأحياء الشعبية والمصانع ونفايات المدينة، وهو نهر طفولتي الذي أشعر أحيانا أنه يجري في عروقي. الرباط هي العاصمة. أغلب سكانها هم من النازحين من قرى وبواد ومدن أخرى، باستثناء العائلات الرباطية التي تعتبر هي أهل الرباط الحقيقيين، لكن هذا ليس صحيحا، فتلك العائلات استوطنت الرباط فقط في تاريخ معين بعد سقوط الأندلس، عائلتي من العائلات النازحة من القرية إلى الرباط، ابتداء من منتصف القرن الماضي، لكن تلك القرية هي بمحاذاة الرباط، بضواحيها، في هضبة زعير، التي هي أرض أجدادي، والرباط تاريخيا وجغرافيا هي امتداد لتلك الهضبة، هناك باب للرباط اسمه باب زعير، وأيضا نهر أبي رقراق قادم إلى المحيط الأطلسي عبر أرض أجدادي. إذن الرباط، بالإضافة إلى أنها مسقط رأسي، والمدينة التي عشت فيها كل حياتي، فهي أيضا امتداد لهضاب وحقول أجدادي، إنها مدينتي تاريخيا وجغرافيا ووجدانيا.

○ أنت تكتب بزخم كبير، ما الذي يمنعك من إصدار كتاب مطبوع حتى الآن، هل أنت ضد هذه الطريقة في وصول النص إلى القارئ؟

• لست ضد الطبع والنشر، أفكر في طبع ديوان شعري ومجموعة قصصية منذ مدة، لكن بطريقتي، أريد أولا أن أشتغل أكثر على تجربتي، لا أريد الطبع من أجل الطبع وفقط، هذا أسوأ من عدم الطبع. هناك من يعتقد أن الشاعر تصنعه كثرة الدواوين المطبوعة، بالنسبة لي الشاعر لا شيء يصنعه سوى قصائده، ربما قصيدة واحدة، الأهم هو أن تصل كتاباتك إلى قراء، ليس مهما الوسيلة، كِتابا مطبوعا أو جريدة أو موقعا أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة أخرى. هناك شعراء طبعوا ديوانا واحدا، أو جُمعت قصائدهم وطبعت بعد موتهم، لكنهم مازالوا يذكرون كمرجع في تاريخ الشعر العالمي، وهناك شعراء طبعوا عشرات الكتب ذات الأغلفة المنمقة، لكن لا أحد يذكر لا أسماءهم ولا مقطعا واحدا مما كتبوا. علينا أن نتعامل مع النصوص التي تصل إلينا بمعزل عن أي شيء آخر، هذا هو أكثر ما أراهن عليه.

○ واضح أنك تنأى بنفسك عن التجمعات والمؤسسات الثقافية، ما يعني أنك حريص على أن لا يضيع صوتك بين الجموع. حبذا لو علّلت ابتعادك هذا لنا أكثر؟

• نحن داخل دول لا علاقة لها بالشعر ولا بالفن، كل ما تسعى إليه عبر مؤسساتها وخدمها الثقافيين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، هو إجهاض كل التجارب الشعرية المتقدة، في مهدها، بتحويلها من أصوات حرة إلى أصوات وظيفية تؤثث بها واجهتها الثقافية الرسمية، عبر ما تخصصه الحكومة من ميزانية سنوية مدروسة للثقافة. فالطبع هنا خصوصا عبر دعم الوزارات والمؤسسات الثقافية التابعة لها يكون مسمارا في نعش الشاعر، قد لا يحس به لا هو ولا القارئ، لأنه مسمار سلس، لكنه هناك، مدقوق في صوته الشعري بشكل كامل، إذ لا يمكننا في نهاية الأمر فصل الثقافي عن السياسي.
المؤسسات الثقافية من دون لف ولا دوران هي صوت النظام، هو من يمولها، وهو من يعطيها المقرات، وهي مقابل ذلك تتحول إلى نخبة متهافتة من الكتاب الموظفين والنقاد والأساتذة الجامعيين الذين ينظّرون لأدب مائع كالزئبق بلا موقف. ذلك في حد ذاته هو أسوأ موقف ممكن، أن يكون المثقف محايداً، بحيث يصب حياده مباشرة وبتواطؤ مبيت في مصلحة السلطة. قد نقبل أن تكون القصيدة محايدة ومتعالية في خياراتها الجمالية، وهذا مطلوب، لكن من الصعب أن نقبل بمثقف محايد.
هناك مجموعة من الأصدقاء الشعراء الذين يكتبون بشكل جيد طبعوا عبر وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب، كانت النسخ قليلة وأغلفتها شبيهة بكنانيش الحالة المدنية، لم توزع كما يجب، لم تصل إلى القراء، ولم تتابع إعلاميا ولا نقديا، ولم يحترم كاتبوها لا معنويا ولا ماديا. تَم قتل تلك التجارب وإقبارها في مهدها، أصحابها الآن إما توقفوا عن الكتابة وإما مازالوا يكتبون قصائد ميتة. طبعا هناك حالات خاصة، لكني هنا أتحدث بشكل عام عن هذه الظاهرة التي أنتجت لنا وسطا ثقافيا فاسدا، وعدم ثقة بين المثقفين، وحروبا مجانية، وعددا هائلا من الشعراء والكتاب الذين بلا موقف، حتى الطبع عبر الوزارة أو غيرها ليس هو المشكل في حد ذاته، هناك كتاب نحترمهم طبعوا عبر الوزارة، أو جمعت الوزارة كل كتبهم وطبعتها في شكل أعمال كاملة، المشكل هو أن يفقدك ذلك القدرة على إنتاج موقف حر.
لهذه الأسباب أنا جد حذر من الطبع عبر هذه المؤسسات، وجد حذر حتى من الاقتراب منها ومن أهلها. أريد لقصيدتي أن تظل حرة ومجانية كعصفور الدوري غير المنمق الذي يموت إن أُسر، ذي الزقزقة المضطربة المزعجة، أنشرها عبر الفيسبوك وأذهب لأنام، هذا ما أفعله إلى حد الآن.
قد أطبع على حسابي الخاص، أو عبر مؤسسات أو دور نشر أجنبية غير حكومية ما أمكن، لكن قد أغير خططي في أي وقت لأتعامل مع تلك المؤسسات الحكومية داخل المغرب أو خارجه أو غيرها، للاستفادة منها ومن إمكانياتها في إضفاء سلطة جديدة على ما أكتب، سلطة من المركز، وليس فقط من الهوامش، وبعد ذلك الانقلاب عليها.

○ إذا فأنت لا تقيم وزنا للكاتب الذي ليس لديه موقف، ما يوحي بأن المفاضلة بين الانتشار والمبدئية هي أمر محتوم، هل تعتقد أن صوتك الآن يصل كما يجب؟

• كتابة الشعر ليست هي فقط الإلمام بتاريخ الشعر والأدب واللغة وجماليات وتقنيات الكتابة، هذا الوعي الشكلي بالكتابة الشعرية للأسف متجاوز لكنه السائد في أغلب ما نقرأ في المغرب والعالم العربي، حتى لدى أسماء تعتبر نفسها كبيرة أو رائدة، بل الكتابة الشعرية بالأساس هي موقف صارم وواضح من العالم، ومن الوجود، ومن السلطة، مفارق وصدامي، ويقدم بديلا جماليا، ضد القبح، وضد السلطة والظلم والجهل، ويكون انتصارا للحق والمعرفة والعدالة والإنسان. كل شعر أو أدب يفتقد لذلك يعاد فيه النظر في نظري.

من قصائد محمد بنميلود:

1
«أُكتبْ كأنّك داخل حلبة الملاكمة/ في جولة أخيرة/ مُخفيًا مسامير في القفّازات/ كمن يصفّي بوساخة حسابًا وسخًا مع الوجود/ إنّه عراك شوارع خلفيّة/ لا تسامح فيه ولا عدالةْ/ إستعن بشفرة إن استطعت/ على النّصّ أن يكون غادرًا وسريعًا/ ليهرب إن اقتربت منه عينٌ أو سيّارة شرطة/ على النّصّ أن يقفز الأسوار بخفّة لصّ ليختبئ في حدائق القصور/ أو خلف القبور/ على النّصّ أن يقاوم ليبقى/ ليتنفّس/ ليعيش/ وينهبْ/ أشهِر سبّابتك في وجه العالم كأنّها مسدّس في الوقت المناسب للسّطو/ كقاتل مأجور يؤدّي عمله بإخلاصْ/ على النّصّ أن يتدبّر أمره كطفل شوارع بلا عائلةْ/ حين يتحدّثون عن الأخلاق والتّسامح في اللّيالي الباردة قرب المدفئة/ عليه أن يجد نصف تفّاحة/ ومأوى/ وقفّازات/ وفتاة يتيمة تائهة في البرد/ ذكرى أُمٍّ ميِّتةْ».

2
«تصبحين على خير أيّتها الكواكب المُظلمة البردانة/ سأغطّيك بأهدابي /تصبحين على خير يا أمواج المحيط الأَطْلَسِيّ/ تَصلين أخيرًا/ مشبعة بتعب القارّات/ من جُزُر ليس فيها كنوز/ كي تضطجعي على السّاحل/ كجثّة الصيّاد الغريق/ تصبح على خير يا جبل إِنِيغْمَارْ الموحش/ بقلنسوة الثّلج السّوداء/ وشامات جميلة من مغارات/ وندباتِ أخاديد عميقة، كالعشّار النّادم/ تصبحين على خير أيّتها الصحارى الرحّالة/ تسبقين البدو والقوافل التّائهة إلى السّراب/ وكلّ صباح/ من هودج الهواء/ تفردين قدميك الجميلتين للشّمس/ كعروس الطّوارق بعد الحنّاء».

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.