أحمد الشيخاوي:
أحمد الشيخاوي
في ديوانه المتهم/ التعليمات .. بالداخل، الطبعة الأولى 2007 الصادرة عن دار الفارابي للنشر، بيروت، لبنان ، يطالعنا طاعنا بلذاذة تجوال البوح عبر 24 قصيدة ،الشاعر والفنان التشكيلي الفلسطيني أشرف عبد الساتر فياض،بجملة معان مستحدثة ونارية استطاعت إثارة زوبعة مبطّنة بمجانية قرارات التسرع في جرّ الرموز الأدبية والفنية إلى دهاليز المقصلة وكأن الدراما تكرر والتاريخ يعيد نفسه.
أشرف فياض بريشته
وطفت فجأة على المشهد كنقطة أفاضت الكأس وأماطت الأقنعة عن ملابسات سوسيوثقافية جمة وعرّت إلى حد بعيد الخلل الكامن في ماهية منطق عولمة صورة الإسلام كرسالة سماوية خاتمة يمثل تكريم العنصر البشري عمودها الفقري ،ناهيك عما يدور في فلكه من منظومة قيم وتعاليم سامية من قبيل الحرية والتسامح وزرع المحبة إلخ…
عالم موبوء عصية مثالبه على الجرد، آخذة أعراض نهايته في التناسل والتفاقم بدءا من ظاهرة الاحتباس الحراري وعلى مسار التراتبية تناقصيا وتصاعديا على نحو يبرز أنانية ورجعية وتعصب الإنسان المتواكل وغير المسؤول وهو يحاول عبثا التعتيم على الراهن بتابوهات إدانة الآخر كما يد الطبيعة وقوى الغيب.
” اللجوءُ أن تقفَ في آخِر الصفّ “
كي تحصل على كسرة وطن،
الوقوف، شيء كان يفعله جدك..دونما معرفة السبب.’
والكسرة؛ أنت.’
الوطن ؛ بطاقة توضع في محفظة النقود.
والنقود أوراق ترسم عليها صور الزعماء.
والصورة تنوب عنك ريثما تعود.
والعودة كائن أسطوري.. ورد في حكايات الجدة.
انتهى الدرس الأول.”
مخيلة يهيمن عليها هاجس الهوية والانتماء، وفقدان الوطن بعيدا عن الميوعة التي تسمم اللجوء، وتختزل دورة الحياة ،أبا عن جد،في مادية صرفة تستعبد البشر وتذيقهم كؤوس الذل والمهانة والدونية،وتحرض العقل على عودة أسطورية قد تتيح له بعض شطحات التملص من مخالب لحظة ديدنها خنق فرائسها قبل ابتلاعهم.
ومضة لولبية تتسلسل و تتفشى ضمن حدودها الدلالة بين نفوق المفردة وولادة ثانية لها ، تنم عن نبوغ شاعرنا واتقاد بصيرته.
” وكذلك حدّث سيد قوم:
من كان له نفط يقضي بالمشتقات المسفوكة منه
حوائِجُهُ..خير ممن يوقد عينيه
لكي يتخذ من القلب إلها.”
غلاف ديوان التعليمات بالداخل
كسر القاعدة أن ننتقد الخطابات الرسمية باعتبارها سفسطة لمصادرة الموارد الطبيعية تكريسا لخيرية نخبة تسوس لتتأله ،مزدرية لغة القلب،القلب الذي لا يغسله سوى الحب القادر على توظيف واردات النفط في النقيض تماما لما يفرز الطبقية و يعمّق الهوة بين القمة والقاعدة ويصبغ خارطة الواقع بكل هذا الدم.
” على ضفاف النهر الوسخ
يتحلّق بعض الفتية
” غرقت للتو.. لعبة الموت”
دجلة يبتلع الموت
ويمضي نحو الخليج المنكود…
……
أنا النهر المعبود
أنا الوثن الأحقر
وأنتم أصنام لا أشكال لها.”
وكأن خوض معمعة مقاربة ذات التشكيك في قداسة الصحراء،يستحيل بغير إقحام واستحضار أنهر متجذرة في الوعي وقدم وعمق التاريخ،ذات الرمزية والسيادة المطلقة لأهم العناصر الكونية ، الماء. تلكم هي دجلة الشاهدة على لعبة الموت. أنكون على هذا المستوى من الاستسلام والخنوع و لآليات العبث في مصائرنا تزامنا مع التشدق العلني بادعاء الحضارة والإنسانية وصوت الضمير؟ ثمة لا شك تناقض مريع، كمعادل موضوعي له، نبض نسغ الديوان، بمفارقة / ماء /صحراء.
فلم الإصرار إذن على ربط هذا ،وهو براء،ودرجه في أيقونة ما ينسب إلى قصيدة الإلحاد والردة والتشكيك في الذات الإلهية..؟
” منذ نعومة أفكاري
وأنا أتمرّس أن أعشق
كل الأوتار المشدودة فوق كمنجات الشحاذين..
على أرصفة الوقت..
أتسلل خلف الرغبات المحظورة
عمّن لم يحسن نصب شراك الوهم أمام فريسته.”
بالطبع، يتعذر على من تعزب عليه الرؤية أبعد من أنفه، النفاد إلى مضمون هذه الوحدة، ومن ثم ينزلق في تأويل عدواني غير منصف البتة. بحيث لا منزلة للعشق إزاء راهن لا قلب له أساسا، هو في أدنى تجليات عورته،يومئ إلى طابور أسراب الشحاذين الجياع يتقاذفهم شراك الوهم.
” الغربة المؤثرة في روح لا كتلة لها..
تتناسب طرديا مع هذيانك..
مع وهم الاستقرار..
مع كل أكاذيب الطقس..ومع أصوات السيارات المزدحمة.
و مع نسبة النيكوتين في دمك.”
تتبلور القيمة بشقيها الجمالي والمعرفي ، ضمن دائرة الأسطر الآنفة الذكر، في تكثيف ثيمة الاغتراب حدّ تلوين الموقف بهذيان الرفض وإضفاء نوع من المشروعية عليه، فيما يتعلق بالقوانين والدساتير الوضعية وطقوس صياغتها إجمالا ، باعتماد قوالب تتماشى وأبشع الصور الانتهازية في ممارسات تملكّ الأوطان. ليولد الهذيان المتناغم مع وهم الاستقرار، كبديل لتضميد جراحات الروح الرازحة تحت معاناة واقع توجهه المادية العمياء وتقوده التقنية الحديثة .
“الحب ..ليس أن تكون عصفورا في يد من تحب
خير له من عشرة على الشجرة.
عصفور على الشجرة خير من عشرة في اليد..
من وجهة نظر العصافير.’ “
بديهي أنه من الحمق الاعتراف بحب لا يحمل على سيادة الذات و ترويدها وامتلاكها،فما بالك بمحبة تفسح للآخر وتمكنه من استعبادك؟كون وجهة نظر العصفور، الشاعر الذي من المفترض أنه خلق ليغرد حرا طليقا ،وجهة نظر تتسم باللامحدودية ،ما يجعلها مستشكلة الفهم على زمرة تقتات من حياكة الأقفاص في تآمر مقيت يغتال الكلمة والكرامة وشتى جوانب النبل والجمال والطهر في الإنسان.
تلك حكمة بالغة لا يعقلها سوى المجبولين من طينة الشعراء.
” الله لنا .’.’
خلقنا من طين
وجعل لكل داء دواء
وجعل لكل سليم سقما
ولكل مبتهج بكاء.’
تلحّف بعنائك
ولا تتعرض للشوق مباشرة.
…
فرص الشفاء ضئيلة
اتبع التعليمات المكتوبة على ظهر المرآة
واحفظ صورتك بعيدا عن متناول يديك.’ “
بين يدي هذه الوحدة الباذخة في تعاطيها مع المقدس،أخاله من الغباء، أيما تفسير لا يتفق مع غير ما يرفد في الإقرار بالضعف الملم بالطبيعة البشرية والافتقار إلى قوة عظمى ومعجزة تدبر حركات وسكنات الإنسان والكون.
لكنه زخم أسرار لا تقرأ في عدا مرايا الروح.
” الباب القديم يصفق للريح..
على استعراض الراقصة برفقة الأشجار.’
الباب القديم.. ليس لديه كفان.
والأشجار لم تلتحق بمعهد لتعليم الرقص.
والريح كائن غير مرئي..
حتى عندما ترقص الأشجار.”
في ذات البعد المتناص مع إيقاعات المقدس والمنذور لتأويلات عادلة بمنأى عن وابل الاتهامات المزعومة والباطلة. قلت في ذات البعد التعبيري الثري بجماليات شعريته، تتفشى فكرة شاعرنا المعاندة والرافلة في حفريات تنقب وتصطاد المعنى الجديد.
” قيل بأن الناس كأسنان المشط
لكنهم ليسو كذلك.. سأحلق رأسي على كل حال
كي لا أضطر للمقارنة..
كذلك هو الدال الضمني في استفزازه لذهنية التلقي وتحريضها على إعادة النظر في الصلة الوجدانية بالموروث الديني ، وتجاوز العقلية الكلاسيكية في معالجة الراهن في خضم فوضاه ودمويته واضطرابه،ومن اقتراح تفسيرات ملائمة ومواكبة تستجيب لإملاءات الروح المتجددة للعصر.
” الريش الأسود
لا يتفق مع التقليعات السائدة الآن
لا يتفق وأسلاك الكهرباء
ولا مع جثث
عدّلتْ كي لا تتعفّن
كان الله على العرش
يستمع إلى التسبيح المضاد
ويعاقبك طوال الوقت..”
لأن السائد موغل في الرمادية وسوداوية المشهد، اقتضى المحاججة بالخطاب الساخر المحفز على تدارك الموقف وإنقاذ المتبقي،وحمولة ذلك لا تتأتى بسوى التسبيح المعارض والمضاد ، بمعزل عن الملاينات والمجاملات المنومة.
” ها أنت.. تعيدين احتواء قلبي السائل
ويتسرب ثانية من إنائك المثقوب.
ها هو قلبي مسكوب.. ينتظر طلوع الشمس ليتبخر.”
خلاصة القول أننا إزاء هامة في فرادة تجربة وثراء أسلوبي وشعري، هي مفخرة للغة الضاد، لذا من الإجحاف أن نقاربها في سياقات طريفة سينمار ، بقدر ما الظاهرة مدعاة لاحتفاء منصف يستجلب من درر الذاكرة ومضات تاريخية مشرفة نتملى من خلالها المقولة المأثورة لأبي طالب في مجابهة أبرهة الحبشي ” طلبي أن تعيد الإبل إلى أصحابها. أما البيت فأعلم أن له ربا يحميه” .
والنهاية ليست تخفى على أحد. كما هو مصرح به في النص القرآني/ سورة الفيل.