عزالدين بوركة:
يأتي المؤرخون على ذكر وتأكيد أن «الفنين الحديث والمعاصر» استمدا انطلاقتهما من الرجوع إلى «الفن البدائي» (الأفريقي بالخصوص)، في محاولة لاستدراج ماهيته وأشكاله في بحث عن تجريب معايير استيتيقية جديدة.
كما هو واضح في أعمال كل من بيكاسو وماتيس وغيرهما، إذ استلهم كل منهما تقنياته ورؤيته من الفن الأفريقي بالخصوص، إلا أن استخدام بيكاسو للمصادر الأفريقية، يعد أكثر وضوحا من استخدام ماتيس لها، غير أن ماتيس استمر في الحصول على مصادر إلهامه من الأشكال البدائية، وفق المفاهيم البنائية واستمراره في اتخاذ الطابع الإدراكي في المقام الأول.
فالفن الحديث والمعاصر هما وليدان، إذن، لتلك الرؤية الفنية البدائية، من حيث التوظيف الشكلي والألوان والتراكيب التشخيصية المبسطة ذات البعد الواحد. مما يجعلنا نقول إن «الفن البدائي» قدّم للفنان الحديث رؤى متجددة ومغايرة للاشتغال على العمل الفني (اللوحة والمنحوتة خاصة)، ومستمدا منه تلك التلقائية في التعامل والتفاعل مع الطبيعة (الحية والميتة) وخاماته التي يوظفها داخل العمل الاستيتيقي، كما أنّ هذا الفن جعل الفنان الغربي يطرح أسئلة فلسفية وجمالية كبرى حول الفنون البدائية وحضارات الشعوب الأخرى. ما يمكن القول إننا أمام نقل للبصمة البدائية إلى الزمن المعاصر عبر اللوحة التي تحضر كبوابة زمن.
في معرضهما الذي جاء يحمل عنوانه البارز «ذاكرة بصمات» – في المتحف البلدي للتراث في أغادير- (8 أبريل/نيسان 2016)، يُآلف الفنانان مبارك عمان ومحمد السنوسي أعمالهما عبر رؤية مشتركة تجمع بينهما، كما عبر طرق اشتغال مختلفة ومتفردة خاصة بكل فنان على حدة. عنوان هذا المعرض، الذي يستمر إلى نهاية هذا الشهر، يُراكب بين المصطلحين «الذاكرة» و«بصمات»، في طرح غني من الناحية الرؤيوية والفكرية لما جاءت تحمله أقمشة هذين الفنانين المغربيين، من حيث تلك البصمة التي تستمد قوتها من الرموز والأشكال البدائية وتلك الألوان الجدارية (للكهوف)، كنوع من إحياء الذاكرة البدائية (الأمازيغية والمغربية) عبر تقنيات وأساليب معاصرة وحديثة.
فالفنان التشكيلي محمد السنوسي يجعل من لوحته سندا تخليديا للذاكرة الثقافية وشاهدا على الهوية الأمازيغية الأفريقية. يجمع هذا الفنان، الأمازيغي الهوية والاشتغال، بين التقليد والحداثة في البناء المعماري للوحة لديه، مراوحا بين العميق والمكثف، وبين الحسي والحركي. ما يطبع عمله بنوع من التعدد في التأويل والرؤى. يترك المتلقي مشدوها أمام الأثر الفني لديه. هذا الفنان الذي لم يلج عوالم اللون والتشكيل إلا عبر دراية وإحكام وحسن بحث، فهو خريج مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء سنة 1975، وحاصل على الميدالية الفضية من أكاديمية العلوم والفنون والآداب في باريس لسنة 2010.
أما الفنان التشكيلي مبارك عمان فيطبع على أقمشته نوعا من الاستقلالية الاستثنائية، ونوعا من غرابة الفن، بصمة خاصة ومتفردة، وما يميزها اغترابها عن عصرها، لكن في الوقت نفسه التزامها المستميت والعنيد بقضايا الإنسان وهمومه وأسئلته. يقول الفنان مبارك عمان متحدثا عن أعماله التشكيلية: «في أعمالي احتفاء بذاكرة أناس مروا من هنا وتركوا آثارهم وذاكرتهم ومخيالهم الجمعي». هذا ويعد عمان من الأصوات التشكيلية الجيدة في خرائطية الرسم المعاصر في المغرب، إذ ينفرد منجزه التصويري بالجدة في بناء اللوحة بكل صورها التقريرية والإيحائية وبالجرأة الجمالية في الاشتغال على المواد غير الصباغية وتوظيفها بحس تلقائي وبإيجاز تعبيري يجعل المنجز لديه متفردا واستثنائيا. فمبارك عمّان المُولع بفكرة «أصل الشيء الفني»، يصفه الكاتب المغربي أنيس الرافعي، بأنه حامل صفةٍ ومادة مُشكَّلة وشكل مُدرك، انتقل من مرحلة استلهام مرجعياته الطفولية ضمن نطاقها الشخصي الضيق ذي الصلة الوطيدة بأضغاث الذاكرة، إلى محطة البحث في الذاكرة الجمعية الإنسانية.
يجعلنا مبارك عمان نكتشف رموزا / أشكالا تصويرية جديدة، غايتها كسر لكل الفواصل الإبستمولوجية بين الفن المعاصر والقديم (البدائي). وإعادة طرح السؤال الاستيتيقي حول المعنى الجمالي لكل ما هو قديم. فالعمل الإبداعي لهذا الفنان حامل لمواد الطبيعة (متلاشيات، أغطية قنينات، حناء، تراب… وغيرها كثير)، في محاولة ناجحة لترك تلك البصمة المحيلة للبداءة. وكما يؤكد الناقد محمد غضبان: «لقد استطاعت تجربة [مبارك] عمان تكسير الأنماط التقليدية والكلاسيكية المتداولة بحيث أصبحت اللحظة الفنية كما مارسها هو، في شكلها المتميز والاستثنائي تكثيفا لأبعاد وجودية، تاريخية، فنية، وفلسفية متشابكة في لوحته».
بالتالي يمكننا القول أن كلا من هذين الفنانين استطاع أن يجعل من الذاكرة والمتخيل نقطة انطلاق ووصول لترك بصمة، تجعل العمل لديهما منطلقا استيتيقيا لرؤية الماضي بأعين معاصرة، ورؤى حداثية، تمتح جمالياتها من المعاصر والبدائي من حيث الشكل الاستيتيقي لهذا الأخير.
عن: «القدس العربي»