الدكتور عبدالرازق مختار محمود
مع أمواج ملايين الطلاب المنهدرة إلى قاعات الدرس، والمزدحمة بملايين الأجساد التي أنهكها تعب الواقع، وألم الحياة، وتطلعات في غد مشرق، ومستقبل باهر يؤشر الوقع إلى صعوبته، بل استحاله الوصول إليه.
مع أجراس المدارس تدق أيام تحمل في طياتها كل المتناقضات: مسؤولون حزموا أمرهم على تكرار ذات الأخطاء منذ عشرات السنيين بقرات جوفاء، وتغييرات شكلية، خاليه من كل مضمون، بل تعالت كل الأصوات بتغيرها، فجاءت التغييرات خاليه من العمق، قاصرة على بعض الإضافات والحذف لموضوعات هي في الأساس وضعت بلا معايير، وحذفت بلا معايير، وللأسف الشديد وضعها خبراء، وربما قام بحذفها ذات الخبراء.
هو ذات المسؤول الذي قرر بحرفية حذف اختبارات منتصف الفصل الدراسي ( الميد تيرم) وساق لذلك سيلا من المبررات، وعندما خرجت بعض الأمهات، واحتضنتهم بعض الفضائيات تم التراجع وكأن الدفة بيد هؤلاء، وهو هو ما حدث في العام الماضي وبذات السياق.
أما المعلم فوقع الأجراس عليه أكثر ألما، فالمجتمع، والمسئول يريدون منه كل شيء ويبخلون عليه بكل بشيء، فهو وقد تخرج من منظومة تعليمية أصابها الوهن، وزج به في أتون معركة طاحنة من متطلبات المجتمع أن يكون نموذجا وقدوة ومثاليا ومتمكنا، وبين مسئول بخل عن عمد أو عجز ورفض أن يحتضنه لرفع كفاءته، وأبى أن يوفر له الحد الأدنى لمعيشة كريمة تؤهله؛ ليتفرغ لرسالته، وتساعده؛ ليظهر أمام طلابه أنيقا متألقا، بل وضعته مع قرارات بالية تعرقل أكثر مما تدفع، وتحبط أكثر مما تشجع، فهو يسمع وقع هذه الأجراس، وهو يلهث للبحث عن متطلبات الحياة ممتهنا من الأعمال ما قد يعرضه للخجل أمام طلابه، وهو القدوة، ولكن لا مفر عنده فهي إما حياة وإما موت يلاحقه هو وأطفاله الصغار الذين تركهم في بيته، وهم يحلمون بأب حنون يحمل إليهم الضروري من متطلبات الحياة.
أما أولياء الأمور فحدث ولا حرج، فهم يستقبلون تلك الأجراس، وقد أثقلتهم مشاغل الحياة، وألهبتهم سياط الأسعار، ودفعهم العوز إلى النظر في وجوه أبنائهم بانكسار المحب، فحلم الأطفال في ملابس جديدة، وأحذية لامعة، وأدوات مكتبية مضيئة، أصبح صعب المنال على الكثيرين، وأصبح معركة تستدعي التجهيز المسبق بشهور وخصوصا مع هؤلاء الذين لديهم أكثر من تلميذ في مرحلة الدراسة وهم الغالبية الغالبة.
ناهيكم عن تلك الآفة المدمرة التي أصابت كل كل الطلاب، وهي الدروس الخصوصية الفريدة في ضغوطها وأهدفها، والتي تدمر أكثر مما تبني، وترهق أكثر مما تريح، وتزف الطلاب إلى ساحات الجهل، بدلا من ميادين المعرفة.
أما الطلاب فقد تحولت تلك الأجراس إلى كوابيس مزعجة، وكأنهم يساقون في صباح يومهم الدراسي إلى ساحات العذاب. فهم يستيقظون بصعوبة، ويرتدون ملابسهم بألم، ونفوسهم قد سدت عن أهم الوجبات، وأقدامهم صارت مثقلة في سيرها إلى المدرسة، وعندما تقع أعينهم على أبواب المدرسة المشرعة يتمنون لو أغلقت إلى الأبد، وعندما تنزلق أقدامهم في فناء المدرسة المبتلة بعرق المهملين، تطاردهم كوابيس العصا المتطايرة من المعلم المسئول عن النظام، فإذا نودي إلى طابور الصباح، وقفوا وكأن على رؤوسهم الطير يستقبلون كلمات جوفاء بصوت أجش مملوء بالغلظة تدعوهم إلى النظام في جنبات الفوضى، وتحدثهم عن الالتزام في منافذ التفريط، وتشد على أيدهم بالتشجيع، وأياديهم مثقلة بالعقاب، وتزرع فيهم روح الأمل في واقع زاخر بالإحباطات، وهم فوق ذلك قد أعيتهم الأمعاء الخاوية، وألهبتهم أشعة الشمس مخترقة رؤوسهم العارية، وملابسهم الرقيقة.
فإذا سيقوا إلى قاعات الدرس ذات النوافذ المخترقة والمقاعد البالية – إن وجدت – والسبورات العتيقة، والمساحات الضيقة، وقد تلاحمت أجسادهم الهزيلة من كثرة التزاحم، فأصبح صراع العقول إلى التسابق في التقاط الأنفاس للحياة بدلا من ملاحقة الأفكار.
مع تلك الأجراس خرج كل هؤلاء: مسئول تنصل من مسئوليته وأصبح مرتعشا يقضي أيامه العجاف راغبا في السلامة، والسلام تطارده الكاميرات، وكلمات الاعلام، وتعليقات وسائل التواصل الاجتماعي.
ومعلمون وقعوا بين فكي رحي، مسئول لا يبالى، وطالب تمني لو استمر الليل، وما بزغ النهار حتي يبقي حاضنا تلك الليكات، ومداعبا لكل التعليقات، ومجاهدا في سبيل المشاركات، ومقتنصا للمزيد من الأصدقاء.
وأولياء أمور يستحقون كل الثناء؛ لأنهم ما زالوا صامدين صامتين في معركتهم القاسية مع الحياة ومتطلباتها المتلاحقة.
ومع كل هذا ينبغي أن يبقي الأمل أن تتحول هذه الأجراس إلى إنذار حقيقي لمسئول ينبغي أن يحول التعليم بقرارات إلى ميدان إعداد وتأهيل وتدريب وتعليم فضلا عن التربية .
ومعلم يقبل على مهنته وكأنها رسالة حملها من قبله الأنبياء، وجهد لا ينفذ في تطوير نفسه، وإجراءات مشروعة لا تنتهي للمطالبة بكل حقوقه حتي ينتهي إلى حياة كريمة.
وأن يقبل أولياء الأمور على الاستثمار في تعليم أبنائهم وكلهم أمل أن يحصدوا في قابل الأيام ثمار هذا الاستثمار.
وأن تصبح المدرسة للطالب ذلك المكان المرغوب فيه، الذي يجد فيه الطلاب متنفسا لتفريغ الطاقات، وساحات لإثراء المواهب، وحلبات لصراع الأفكار، ومنصات لإطلاق المبادرات، ومحاريب لترسيخ القيم.
وأخيرا فإن أمة بلا تعليم جاذب، هي أمة تجتهد لإعداد أجيال نافرة من محبتها، محرضة على كراهيتها.
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط