مفلح العدوان (الأردن ):
معجزة أبي أنا!
كان يدري أني لن أترك هذا المكان، ويعلم أنّي أصير سمكة إن أردت، وأكون حوتاً بأمري.. وإذ تحاصرني الجدران وتضيق بي أغدو قطرة ماء، أتسلّل من أي شقّ، وأنزّ منتزعاً خلاصي!
وُلدت سليل الماء، فكيف بالماء يخيفني؟!
حين نأوا، كان معهم قائداً للسفينة، وكنت أُدرك أن شقاءهم بدأ مذ أخذ يزجّهم إلى جوف الفُلك غنما وبشراً، طيوراً وزواحف حتى اكتمل النصاب إلاّ منّي، فأحصاهم عدداً!
التفت إليّ.. قال: معنا أو يكن في الماء نعشك!
حدّقت به..
كانت عيونه جافّة إلاّ من دمعة، وكنت أخشى أن يطلق سراحها.. فيها يكمن السرّ!
تأملته.. تساءلت: الماء ميلاد الحياة، عرش السماء وميثاق الأرض، هذا ما علّمني أبي فما الذي أنساه معنى الماء؟!
غابوا..
أخذت السنون تسبح معهم حين ابتعدت السفينة، وما كانوا يشعرون.. أربعون عاماً في البدء قبل أن ينقطع انهمار الماء، ثم حبسهم أربعين سنة أخرى حتى ترسو السفينة، وأتبعها أربعين سنة حتى يجفّ الماء، فماذا تبقى إذن؟!
اخترت الماء..
حذّرته: يا أبت، لا تزجّ نفسك مع الحشرات وأراذل المواشي، وتُنصّب نفسك ربّاناً لسفينتهم، كن معي وأختر الماء!
رفض، فدعوت له بالرحمة..
سار باتجاه السفينة.. أغلق أبوابها وأحكم سدّ منافذها..
رفع أشرعتها البيض وأنا أتبعه حتى آخر كوّة فيها.. كانت الدمعة تكاد تطفر من عينيه وكان يريد أن يقول شيئاً، يريد أن يلوّح لي بيده مودعاً غير أن تضاريس الخوف كانت بادية على ملامحه..
عند آخر كوّة اقتربت منه، تمتمت: أبَتِ!
فأشار لي بالصمت وهمس بأذني: أخاف عليك منهم!
تأمّلت من خلال الكُوّة كل من حوله من الكائنات، لم أَرَ إلاّ اللائي يمشين على أربع بأنياب كالذئاب ولم يكن إلاّ هو بينها واقفاً على قدمين وينبض بقلبي.. تمسّكت بيده، هذيت:
يا أبتِ!
شدّ على يدي ووشوشني خائفاً: كانت مؤامرة، وهذا خلاصهم!
أبي كان حارس السفينة..
وكنت في الماء أراه يلوّح لي مثل سجّان ينهي موعد الزيارة!
أغلق الكوّة، فبدأ انهمار الماء..
سعيداً كنت، وكانت السفينة تتكئ على الماء وتمشي.. تأملتها مبتعدة فتذكرت دمع أبي.. كان سجاناً أنقذ كل الذين معه في السفينة وبقي مائة وعشرين عاماً يبحث لهم عن أرض بلا ماء يكملوا حياتهم فيها!
***