هل نكتب عن الظل الذي يهرب منا؟ | محمود الرحبي
محمود الرحبي (عمان):
ليست فقط مرآة تجوب الشوارع كما قال “ستاندال ” عن الرواية، القصة مرآة تيلسكوبية صغيرة مثبتة في طرف مرآة الرواية. مرآة تتبع الجسد العابر تحت الأشياء. عين القاص هي الراصد الأول لما يجري في حياتنا. العابر الشعبي يرى ما تراه عيناه، بينما القاص يبحث عن الجزء الأكبر من جبل الجليد المخفي. نكتب لكي نبحث عن ذواتنا خارج أنقاض النمطي والعابر. كما كتب” أحمد بوزفور” و”محمد خضير” و”محمود جنداري” و”إبراهيم صموئيل”. كما كتب “وليم سارويان” و”جنكيز إيتماتوف” و”غسان كنفاني”. نكتب، عن الظل الذي يهرب منا ليندس تحت الشاحنات وينام قريرا في البرودة. عن النجوم الهاوية في السماء هروبا من سطوة القمر. نكتب عن آثار أرجل العناكب في الجدران والنمل في حقول البعر. نكتب عن الهالة المحيطة بالجبل، الهالة المخفية. نكتب عن الصحراء المرتع الأول للأحلام والرؤى والشعر الجاهل حيث يتحد الموت بالحرية. نكتب عن بيوت الطين ذات المروق التي يتسرب منها الضوء والحكايات.
القصة تلك الزوبعة الصغيرة التي تعصف بالرأس وهي تبحث عن ولادتها إلى كلمات. القاص وحده من يستطيع تطويعها وتحويلها إلى لوحة للحياة تعاند الموت والجمود. نعيش طويلا حين نقرأ قصص “تشيخوف” المكتوبة منذ قرن، ولكنها تعيش أبدية وبنفاذ لانهائي. إن هذه العلاقات المتشابكة بين البشر والتي يدور جزء كبير منها في الخفاء، وخاصة في مجتمعات الجزيرة العربية. حيث لا يظهر أمام العيان إلا السطح اللامع والملابس النظيفة بوجوه صارمة وجامدة يصعب أن تقرأ ما يعتمل في دواخل أصحابها بسهولة. فمن خلال هذه العينات العشوائية يمكن أن يقف القارئ أمام قصص نفسية كثيرة. تخفي بقدر ما تظهر قصصا أخرى تعتمل في حياة مجتمعات الجزيرة العربية في نزوحها المتصاعد من الحياة القديمة البسيطة إلى الحياة الاستهلاكية المعقدة..
العماني كغيره من المجتمعات التي اخترقت بساطتها، واستأصلت ظلالها أو هي في الطريق إلى ذلك. إنّ التشوهات التي تحدثها الحداثة لا تظهر بسهولة في عمان، حيث إن الفرد يحافظ على الأقل على مظهره. ولكن هذا المظهر ليس متأصلا إنما هو مفروض، ويغدو غريبا جدا وكاريكاتوريا إذا استحضرنا مثلا وضع الخنجر بجانب الهاتف المحمول. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا. استثني هنا طبعا البوادي حيث الصحراء وإنسانها مازالا يحافظان على طبيعتهما الفطرية قدر الإمكان، والتحدث يكون بطيئا لا يحمل قيما اجتثاثية كما يحدث في الحواضر مثلا. وهذا المثال يمكن أن نقيسه على مناطق الجزيرة العربية المختلفة. حيث أن لدينا حمى استهلاكية كبيرة، وبدون تفكير أو تأمل، مع الحفاظ الاستعراضي على مظاهرنا القديمة، لذلك فإن التغيير يتسلل بسرعة إلى أعماقنا ويولد ذلك كبتا على المستوى السوسيولوجي، لا يمكن طبعا تبينه عبر الصمت إنما تظهره التصرفات بصورة فاضحة.
نحن في عمان ظلمتنا الجغرافيا. كما أن الاهتمام الرسمي بالأدب تأخر جدا. والكاتب كذلك محشور في ظروف معيشية ووقته موزع بين العمل الرسمي والظروف العائلية المعقدة، لذلك فإنه يسرق الوقت لكي يستطيع أن يتواصل مع الأدب عبر القراءة والإنتاج الكتابي. ربما هو سياق عربي يعاني من مثل هذا الإقصاء والتهميش للإبداع الأدبي.
القصة نظرا لطبيعتها الكثيفة والترميزية، تكون حقلا مغريا للإبداع والتفنن. إنما الرواية هي حقل أكثر اتساعا ويكون المجال فيها أكثر لعرض ومعالجة العوالم المتشعبة وخاصة الاجتماعي والتاريخي. وتوثيق الطبيعة ورصدها تظل أحد رهانات كاتب السرد، والطبيعة مرتبطة بالإنسان وأعماقه، فهي ليست فقط أشجارا ومناخا، إنما هي مرتبطة ارتباطا عضويا بالإنسان وخاصة الإنسان البسيط، مثلا “نجيب محفوظ” في رواية “زقاق المدق” كان يصف الطبيعية التي تحولت فيما بعد وتغيرت، ولكن الروائي استطاع أن يخلدها ويوثقها وهو ما لا يستطيع أن يفعله غيره.
قصص يمكنها أن تبنى على الحكي والسرد ولكن التفاصيل دائما تستمد من الواقع، وهذا الواقع هو ما يشكل أرض انطلاق لجميع قصصي، طبعا يتدخل الخيال ولكن لا يجنح كثيرا بل يستثمر لصالح التعبير في سياق الواقع نفسه.
كل مجموعة قصصية أصدرتها تعكس مرحلة زمنية معينة، ولكن في النهاية فإن مجمل أعمال الكاتب تشكل سلسلة متواصلة تتمرحل عبر الزمن، طبعا أحيانا يغير الكاتب بعض قناعاته في بناء الجملة وفي الشكل السردي، ولكن يظل هذا جزء من تطوره في هذه السلسلة العمرية من تاريخ كتابته. مثلا أنا كتبت مجموعة ” اللون البني ” حين كنت طالبا جامعيا في المغرب، ثم توقفت ثماني سنوات وأنا أكتب “بركة النسيان” وكنت فيها أسعى للبحث عن طرائق جديدة للسرد. وهو ما تمخض عنه بعد ذلك سلسلة من الإصدارات المتوالية.
لا غنى عن الطفولة بالنسبة للكاتب. الطفولة رغم قصرها زمنيا إلا أنّها تشكل “البئر الأولى” التي لا ينضب معينها أبدا والتي يحتاج الكاتب إلى الاغتراف منها دائما مهما تقدم به العمر.
راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية محمود الرحبي هل نكتب عن الظل الذي يهرب منا؟ | محمود الرحبي 2016-01-15