سعيد بوخليط
هكذا، باتت مشاهد الطفولة في المغرب :
على امتداد شوارع المدينة، قوافل من الأطفال يتسكعون، يتسولون، يكشفون،حالات من البؤس والفاقة في غاية الفظاعة والقساوة… ،( إن دموع الطفل لأشد إيلاما من دموع الرجال، مي زيادة)…
أمام المساجد، تناوب دوري لفرق أطفال، من مختلف الأعمار والأجناس والأشكال والأنواع، باختلاف القصص والروايات والدواعي والمسببات، يُسخرون صباحا مساء، للاسترزاق، فمن المطلقة إلى المغرر بها، والمتخلى عنها، واليتامى فالعاجز،ثم المصاب بمرض لعين…،(هناك أغنياء وفقراء وأطفال، لاينتمي الطفل إلى أي من الطبقتين،إنه طفل فقط ) (مالك المطلبي)….
عند الإشارات الضوئية المنظمة للمرور،أطفال يلحون إلحاحا قدر امتلاكهم للحيل، بمعروضاتهم من مناديل كلينكس، أو تنظيف بحركات سريعة لواجهة السيارات، مقابل ما ستجود به عاطفة العابرين…، (ليس هناك مكان ينام فيه الطفل بأمان مثل غرفة أبيه) (مثل عربي)….
في خلوة الزوايا المختبئة للأحياء والدروب والأزقة، لا بد أن ينط أمامك بالضرورة، مع كل خطوة تخطوها، سلسلة أطفال، فرادى ومثنى أو زرافات، ينمون عن حالات سيئة جدا، ومحلقين أيما تحليق بلا وعيهم صوب أعالي السماوات العشر، يتوسلون دريهمات لسد الرمق…،(إن تربية الطفل يجب أن تبدأ قبل ولادته بعشرين عاما وذلك بتربية أمه)(سيمور سارسون)….
في الحافلات ودخل محطات المسافرين، تواتر حشد عرمرم من الأطفال المنكوبين، كأنهم غادروا للتو ساحة حرب ضروس، يتدبرون بالكاد الفواصل الناسجة لمراثي عذاباتهم المريرة، ويلعنون مصيرهم…، ( إذا أردنا أن نعلم السلام الحقيقي في هذا العالم ونخوض حربا ضد الحرب، علينا البدء بأطفالنا)(المهاتما غاندي)….
مشاهد، يصعب الانتهاء من سردها، لأنها لا تنتهي، مع شعورك بأن اللغة تصير لحظتها صعبة المراس، عنيدة، متصلبة،شحيحة، بخصوص ما تريد الإفصاح عنه من أحاسيس.
إذن، واقع الطفولة هذا، يجسد عنوانا فاضحا،لواقعنا ككل المتراكمة اختلالاته، المستفحلة مساوئه، المتسعة يوما بعد يوم ثقبه. مما يؤكد على نحو جلي، بأن قضية إنجاب الأطفال لدينا صارت مأزقا أكثر منه قفزة، وتعديما أكثر منه صناعة للحياة، إذا استحضرنا سر تقدم المجموعات الإنسانية، التي راهنت أولا وأخيرا، على ثراء خزانها البشري، طفولة وشبابا وشيبا وكهولة، لا شيئ يضيع هباء، فكل مرحلة من تلك المراحل العمرية، تضمر طاقات لانهائية، الكفيلة وحدها بتحقيق نتائج مذهلة، إن استثمرت الاستثمار الفعال.
كل نجاح، ينبعث من دائرة الطفل وينتهي إليها، باعتباره الكائن/الأولاني، للمشروع المجتمعي عموما. إنه ملتقى إشعاع، الرجل والمرأة، الأسرة والمدرسة، الفضاء العمومي، ومختلف المؤسسات الاجتماعية. لذلك، فمستقبل كل وطن يتحدد بناء على طبيعة وضع أطفاله، إيجابا أو سلبا، مثلما أن واقع كل بلد ينعكس بناء أو هدما، على حاضر ومستقبل أطفاله. وبغض النظر، عن كيفيات توضيب العناوين الكبرى أو الجزئية الممكنة، حين توخي محاولة البحث في تفاصيل الإجهاز على حق الطفل الكامل حتى يحظى مطلقا بطفولته، كي يحب بعد ذلك نفسه ثم يتماهى مع مجتمعه، فلا شك أن المتهم بصيغة الجمع مع تعدد الفرقاء، هم الكبار.
الطفل، تسحقه دون وجه حق أوزار حماقات الكبار، بدءا من بذرتي الأصل الأول لوجوده، أي أبيه وأمه، اللذين يتحملان قبل العالم أجمع، مسؤولية القذف بابنهما والرمي به دون روية ولا مبرر، وسط لجة مستنقع يجرده من كل مقوماته الآدمية، محولا إياه إلى مجرد طحلب. إدراك نتيجة كهذه، لا يقتضي حصافة ذكاء مذهل، بل هي فقط مسألة شعور بسيط بدقات ضمير، توخز على الدوام بلادة استهتارنا، بأسئلة تندرج رويدا رويدا، من تجريدية الأنطولوجي إلى حسية الموضوعي : هل يتحتم بالضرورة أن أخرج تعسفا كائنا ثانيا؟ من سوغ إلى وجودي سعيا كهذا؟كيف أكون واعيا حق الوعي، باختيار حر وليس جبرا، كما تروج له وترسخه المنظومات الشمولية للمجتمعات البطريركية؟.
الإنجاب أفق نوعي بامتياز، رؤية فلسفية تتكامل استدلالاتها، تقتضي سياقا عقلانيا وعاطفيا مميزا،كي تتخذ قرارا بإضافة شخص. إنها قضية دقيقة جدا،في غاية الجسامة والتعقيد. وإذا صرح حكيم كبير من عيار جان جاك روسو، ملهم أسس نظريات التربية الحديثة، قائلا :(قبل أن أتزوج كانت لدي ست نظريات في تربية الأطفال،أما الآن فعندي ستة أطفال وليس عندي نظريات لهم)،فما بالك بآباء، لم يعرفوا ولا يتوخوا في نهاية المطاف أن يعرفوا، من خريطة الكون،سوى وخز حمولة أجهزتهم التناسلية.
http://saidboukhlet.com/