إعداد وترجمة: دنى غالي
تبتعد الصورة النمطية للفيلسوف عند التقرب من ميشيل أونفراي، فهو أحد الفلاسفة الفرنسيين الرواد الذي يناقش قضايا الساعة من سياسة إلى فن ومسرح وموسيقى وذائقة بالمقدار نفسه الذى يتصدى فيه للتاريخ الفلسفي للعصور القديمة مرورا بالمسيحية وانتهاء بما يراه عصرا لمذهبٍ وضعي جديد.
ميشيل أونفري من مواليد 1959، ولقّب بمحبوب الشعب، ومحبوب الإعلام «ميديا دارلنك» نظرا لظهوره الدائم واللافت فيه. تباع إصداراته الفلسفية تحت قائمة أفضل المبيعات عالميا. مؤلفاته حولته من ابن فقير، عاش بضع سنوات من طفولته في ملجأ كاثوليكي للأيتام ليصبح فيلسوفا ذائع الصيت يعيش من كتاباته، رغم أنه لم يدرس الفلسفة في إحدى مدارس النخبة التي أنجبت العديد من الفلاسفة الفرنسيين الكبار مثل، جان بول سارتر وجاك دريدا. الثروة لا تعني له الكثير غير أنها مكنّته من التقرب من حلمه الأساسي بجعل الفلسفة موضوعا شعبيا، وليس شأنا أكاديميا معزولا عن الناس ينحصر بين الكتب وطاولات المحاضرات. ويبدو أنه نجح في ذلك من خلال تأسيسه لجامعات شعبية بلغ عددها حتى اليوم أربعا، توزعت في مدن فرنسية مختلفة، تُعنى بالفلسفة بشكل رئيسي وتتيح الفرصة للجميع من كافة الفئات العمرية الانتفاع منها من دون امتحانات قبول. إن هذا السعي من أجل خلق فلسفة شعبية حقق نجاحا ساحقا وكسب الآلاف من المؤيدين، بتأكيد أونفراي الذي قال إن جميع تلامذته قد تحولوا / اهتدوا إلى الفلسفة!
والحال أن فكرة الجامعات الشعبية لها جذر دنماركي يعود إلى المؤرخ والشاعر واللاهوتي الدنماركي غرونتفي N.F.S.Grundvig 1872-1783 الذي قام بثورة فكرية تربوية غيّرت مسار المجتمع بشكل راديكالي بدعواه الشهيرة: «الإنسان أولا، ثم المسيحية»، وتأكيده أهمية أن يحيا الإنسان على الأرض أولا وأن يعمل من أجل أن يستمتع بالحياة، وأن تتاح الفرصة له في جميع مراحل حياته للتعلم. لقد كان غرونتفي وراء فكرة تأسيس المدارس الشعبية التي مازالت تقليدا قائما في الدنمارك (مدارس للرجال والنساء قائمة على اختيارهم الحر من أجل تطويرهم الذاتي ومواكبة الحياة)، وتلك تكاد أن تكون بذرة روح التضامن والمشاركة الشعبية التي توارثتها الأجيال.
أونفراي فيلسوف ذو نهم للحياة، متورط فيها، لا يكلّ، وقد تجاوزت مؤلفاته الـ 80 كتابا وهو لم يبلغ الخامسة والخمسين من عمره بعد. أنجز الجزء العاشر من مشروعه في إعادة قراءة التاريخ الفلسفي، وهو تحديدا ما يلخص رسالته الموجهة إلى الناس.
كان في زيارة إلى كوبنهاغن مؤخرا بدعوة لحضور العرض الافتتاحي الأول لعمله الدرامي «برج الحوت» وهو أوبرا تجريبية كتب نصها الدرامي الشعري كجزء من أربعة نصوص. كما لبى دعوة من قبل جريدة «الإنفورمشيون» لإجراء حوار مفتوح مع قراء الجريدة وقرائه وقد ادار الحوار الصحافي الدنماركي نيلس إيفار لارسن.
○ ميشيل أونفراي، كيف أصبحت فيلسوفا؟
-
لم أصبح فيلسوفا، بل كنت أظن دائما أنني فيلسوف. فرضيتي هي أننا جميعا نولد فلاسفة، ولكن جزءا قليلا مَن يستمر في ذلك. عقلية الطفل هي ذات توجه فلسفي استلهاما من الطبيعة. الطفل يطرح سؤالا: «لماذا السماء زرقاء؟» «ما الذي سيحصل لجدي عندما يموت؟».. الخ. إنها أسئلة فلسفية حول العالم وترتيبات الواقع والوظائف برأيي. لذا فنحن كلنا فلاسفة أو سنصبح كذلك يوما ما.
○ ولكن لم لا يستمر العديد منا في ذلك؟
-
لأن الأطفال سرعان ما يلمسون أنهم لا يحصلون على أجوبة إلا إذا كان والداهم يمنحان الوقت الكافي لهم للإجابة، أو أن لديهم مكتبات غنية. إن لم نشجع تلك الرغبة بطرح الأسئلة من قبلهم فستختفي من تلقاء نفسها. هناك سبب إضافي لذلك أيضا: ففي سن الدراسة يحصل الاطفال على كم هائل من الاجوبة لأسئلة لم يكونوا ليطرحونها أنفسهم. ما هو الناتج القومي الاجمالي لإيطاليا؟ على سبيل المثال- وهذا ليس بسؤال من شأنه أن يبقي أحدنا صاحيا طوال ليله. إذن الاطفال سيعلّمون أنفسهم تعلّم الإجابة على هذه الأسئلة التي لا تطرح من قبلهم، بينما الفيلسوف هو من يكون قادرا على الاستمرار بطرح السؤال:»حسنا، ولكن لماذا؟.» والدي كان عامل مزرعة وأمي كانت خادمة تعمل في البيوت. كان لدينا كتابان في المنزل، كتاب طبخ لأمي والآخر قاموس يعود لأبي. لم يكن هناك غيرهما. لم تكن الكتب جزءا من ثقافتنا. لقد اتممت المدرسة الابتدائية وتدبرت أمري بطريقة أو بأخرى في الثانوية، لم يدر ببالي أبدا أن أكون فيلسوفا. كنت أرغب في أن أصبح سائق قطار، والسبب الوحيد الذي جعل مديرية السكك الحديد تعيدني إلى البيت هو اكتمال العدد المقرر للقبول في ذلك اليوم. لم أعرف طريقا آخر أفضل من البدء بدراسة جامعية. لم أشعر بأنه مكاني في البدء، الكم الكبير من العلوم كان ثقيلا، اللغة المستخدمة بدت غريبة عليّ. وجاءت ضربة البرق عندما قرأت لوكريتيوش حول طبيعة الأشياء.. فمنذ تلك اللحظة صار لوكرتيوش حارسي الفلسفي.
○ الوعي يموت عندما يموت الجسد.. ذلكم هو الحجر الأساس في أعمال أونفراي الفلسفية. لكن لأونفراي معلّم أهم هو: فريديريك نيتشه!
-
عموما استهل كتبي باقتباسات من نيتشه. بهذه الطريقة أو تلك يمكن قراءتها بمثابة تعليقات نيتشه – ليس لأني أفكر مثلما يفكر نيتشه، بل لأنني أفكر انطلاقا من نيتشه.
○ ربما لهذا السبب تسمي نفسك: نيتشويا يساريا وليس نيتشويا فقط؟
-
منطلق نيتشه هو أن الله قد مات. في عصر ما بعد المسيحية علينا إيجاد الوضعية الجديدة. يرفض نيتشه كل أشكال الإيمان بالآخرة وفكرة الافتداء، ليس هناك من نهاية للتاريخ وليس هناك من معنى من دون الحياة بحد ذاتها. يضع نيتشه عبر هذا مبدأه عن الرجل الأعلى أو الانسان المتفوق. يجب أن ندرك أن لا خيار لنا، وأن كل شيء مقرر. نحن محكومون بقانون الضرورة. حريتنا تكمن في أن ندرك أننا لسنا أحرارا، وأن نحب قدرنا.
عندما نتعلم أن نحب قدرنا أو مصيرنا سنتعرف بدورنا على متعة وفرحة الانسان الأعلى بالحياة. هنا يقول النيتشوي اليساري:«أجل ولكننا لا نستطيع أن نقول نعم لكل شيء. نحن نقول نعم فقط لمن يقول نعم للحياة ونقول لا لكل ما يقول لا للحياة.» وهو تماما موقف كامو في عمله الرئيسي «المتمرد». لا يمكننا أن نقول نعم لكل ما هو سيئ مثل الفاشية، الكره، القمع، القتل الجماعي وارهاب الموت الخ.
○ أعرف أن هناك شيئا واحدا مهما جدا بالنسبة إليك: وهو أن تخلق تضامنا مجتمعيا فلسفيا، وأن تعيد الفلسفة للشعب. هذا ليس ما نسمعه تحديدا من الفلاسفة الفرنسيين الذين يعرفون كنخبويين؟
-
أجل، الفلسفة يجب أن تعود الى الشارع وتخرج الى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال افلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرعين يقرأون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت: هذا هو التقليد الأنتيكي الذي أود العودة إليه والذي للأسف أخذ في التلاشي بعد صعود المسيحية. يجب القول إنني لا أعتبر أن المسيح كان شخصية تاريخية على الاطلاق- المسيح هو شخصية تبلورت في خيال الإنجيليين الذين لم يعرف كتّابها يوما المسيح، وبهذا خنق آباء الكنيسة الفلسفة التي دارت حول لحم هذا الشخص ودمه فصارت تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، حيث تأتى عليهم إثبات تلك العجائب مثل الثالوث، القيامة والولادات العذرية. هكذا نحصل على ما يزيد عن عشرة قرون من الفلسفة رُسمت انطلاقا من الرغبة في إضفاء الشرعية على شيء لا يمكن إقراره. فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. مازلت أبحث عن زميل لي في الفلسفة او أي شخص آخر يمكنه أن يشرح لي مؤلف دولوز «آنتي أوديبوس/أوديب المضاد/الضد أوديب» . كتب فوكو عن الجنون انطلاقا من قراءاته في الأرشيف فهو لم يعرف حقيقة المجانين وواقعهم. وفي عودة أبعد إلى الوراء لدينا سارتر الذي أراد أن يحشد عمال السيارات في بيلانكور، لكن لا أحد منهم فهم ما قال هذا «المثقف الذكي صاحب النظارات» الذي لم يختلط يوما في حياته بعمال حقيقيين. إنه ليس التفكير، بل تمارين التكرار المستغلقة التي تعيد استخدام ذات الطروحات القديمة. أريد عوضا عن ذلك توفير هذه المدرسية، والتقليل من شأن النقاش بأجمله المليء بالمصطلحات الضمنية والثقيلة. لهذا أسعى في فلسفتي التاريخية القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه».
عدا عن كونه نيتشويا يساريا فقد وُصف أونفراي بالهيدوني أو المتعوي انطلاقا من المذهب الهيدوني، بيد أنه نفى أن يكون ذا علاقة بالمتعوية الاستهلاكية مطلقة العنان، أو العيش بمجون وفجور. يقول:
– «المتعوية قد تعني الزهد والتحرر من طغيان الاستهلاكية التي تدور حول إيجاد المتعة للنفس وللآخرين وتجنب الازعاج والألم، وكل ما من شأنه أن يكون مصدرا للحزن. الألم هو الشر المطلق وهو مثال السلبية. أن لا تعيش حياتك بشكل كامل لجريمة، نحن وحدنا من هو المسؤول فيها».
في هذا السياق يدين أونفراي الديانات التوحيدية تحديدا لأنها لجأت إلى العنف والقوة والإكراه عبر التاريخ. ولم يتوان قبل عامين من إثارة سخط المجتمع اليهودي وحاخامات فرنسا، حين ذكر أن النازيين اتبعوا الموديل العبري. فهتلر قائد الشعب كما كان موسى قائد العبريين، وكان الألمان هم الشعب المختار.
إن ما دعاه الى الانصراف في بحث مصطلح الإلحاد وجذوره كان أيضا أحداث 11 سبتمبر/ايلول التي جعلته يستعرض طبيعة الأديان، ويتوغل «ما بين مسيحية بوش وإسلام بن لادن» على حد قوله. هذا البحث انتهى بإصداره كتابا حقق شهرة عالمية واسعة وعاد عليه بثروة كبيرة عام 2006 تحت عنوان : ميثاق أو مانفيستو الإلحاد.
Traité d’athéologie والحال إننا بدأنا ندرك أسبابه، فما بين أفول الحضارة الغربية وصعود مدّ التطرف الديني، نراه يدعونا الى الاستمتاع بالحياة، بيد أنها دعوة لا تخلو من يأس كون التاريخ بات يعيد نفسه. يقول:
«قد كان لنا زماننا، ونحن نجد أنفسنا اليوم صوريا على ظهر تيتانيك. لهذا السبب ما علينا إلا أن نستقيل، نشرب الشمبانيا، نحب ونستمتع بالحياة».
رغم سعيه الى «تفكيك منهجي لكل الأساطير والخرافات التي قامت الأيديولوجيات بمأسستها»، لا يجد أونفراي أملا في أن يكون بمستطاع النهضة الفلسفية انقاذ الحضارة الغربية الآفلة. ففي تعليقه بشأن الأحداث الراهنة ورغبة فرنسا القوية في خوض حرب ضد «الذباحين» الداعشيين، أعلن موقفا في رفض تبني بلده الخيار العسكري، وتدخلها في شؤون الدول الأخرى، وانتقاده لها، شأن اليساريين هنا في الدنمارك لحكومة بلدهم بسبب جريها وراء سياسة أمريكية وتلبية لمطالبها. يقول:
«نحن لسنا في حرب مع الدولة الاسلامية بسبب حقوق الانسان والديمقراطية وغير ذلك. الأمر يدور حول الجغرافيا السياسية والامدادات النفطية. جنودنا يتقاضون راتبا ولديهم تقاعد، وليسوا متحمسين للدفاع عن قيمنا. ما الذي يجدي أن نقصف الارهابيين؟ لن يتأتى إلا المزيد من الارهابيين جراء ذلك. عدا ذلك يقف الآلاف من المسلمين والمزيد في الطريق على أهبة الاستعداد للذهاب الى الموت. من أجل أفكارهم، وتمرير حضارتهم. إنهم سيجدون أنفسهم في الموقف نفسه الذي كان عليه المسيحيون المنتصرون في القرن الرابع او خلال الحرب الصليبية. عندما تتواجه حضارتان في فترة ما، وتكون إحداها مادية تنازع محتضرة، لا تفهم سوى منطق المال والسلطة، والأخرى غازية وروحية، فإن الأخيرة تنتصر. هذا ما أظهره التاريخ».
٭ كاتبة عراقية/ الدانمارك