“منال الشريف” تقود سيارتها بنفسها.. | ميمون حرش

ميمون حرش

     “منال الشريف” فتاة سعودية استطاعت أن تشد الانتباه إليها بعد أن بثت شريطاً لها على موقع في “الإنترنيت”، يوم الأحد 23 ماي 2011، تظهر فيه وهي تقود سيارة بنفسها، بدت وراء المقود واثقة من نفسها، تلبس نظارة سوداء، ويطوق رأسَها حجابٌ أنيق، في كامل وهجها، كانت تسوق سيارتها بثقة، تدعمها جرأة طالما احتاجتها، تجولت في شوارع “الخُبْر” بكل ثبات، وهي تنظر إلى الأمام، أكثر مما كانت تنظر في مرآة سيارتها إلى ما وراءها.

  الأرقام القياسية التي شاهدت الشريط لـ “منال” له ما يفسره، ولعل من المفيد القول إن الناس رغبوا في معرفة ملامح هذه المرأة التي تحدَّت قوانين موضوعة، لم يكن واضعها يفكر إلا بعقل رُجوليٍّ بمعنى الذكورة “الحقيقية” بدون تورية، لأن المرأة صاحبة الفرج، لا تصلح سوى للافتراع، هي من يجب أن تُركب، لا أن تَرْكب ما صُنِع خصيصاً للرجل الراكب الفاعل دوما في التربة العربية العقيمة.

  ولم لم تكن سعودية ربما لما حصدت هذا الاهتمام؛ لأن النساء مكبلات الأيدي أمام اختراع اسمه سيارة، يستعرن أيدي الآخرين، رجولية وخشنة بالضرورة، كلما احتجن لمن يقود بهن السيارة لقضاء أغراضهن، وحوائجهن، ما دامت قيادة السيارة في هذا البلد محظورة على النساء السعوديات، لأسباب هي من الوهن، والغرابة، ما يبعث على الاستنكار في زمن التكنولوجيا، وهيمنة العولمة على مجالات عدة في حياتنا.

  وممَّا لا شك فيه أن ما أقدمت عليه “منال” كسَّرَ شيئا واحداً وهو جدار الصمت، والخوف بالنسبة إلى النساء السعوديات.. استطاعت أن تطلق العنان لرغبة دفينة – لها ولغيرها- استثارت في داخلها من أجل  قيادة مطية اسمها سيارة، ولأن المرأة مهما بلغت ذروة المجد فهي مطية الرجل بالنسبة إلى بعض العقليات المتخلفة والمتحجرة، فلا حق لها في أن تقود، وهي المَقود، ولأن كل ممنوع مرغوب فيه فقد ركبت “منال” رأسها كطفلة حين ركبت السيارة المحظورة، وجسدت قول الشاعر:

مُنعت شيئاً فأكثرت الوَلُوع به       وحَب شيء إلى الإنسان ما منعا..

أحسن تجسيد، وجلوسها في سيارتها بوثوق، ويداها تطوقان المقود أسلوبٌ رأت فيه بعض النساء السعوديات تحرراً بالنيابة عنهن، وحَسْبها أنها فكرت عنهن حين أشبعت لديهن رغبة مكبوتة لفعل القيادة، وبعد هذا التحدي، وبعد أن تم القبض على “منال” بتهمة سياقة السيارة بنفسها، تجف أسئلة كثيرة على الحلق: هل هذا حق؟!، ثم بأي مبرر تمنع المرأة من قيادة السيارة؟ وبأي حق، بالمقابل، يحل ذلك للرجل؟

   بعد جريمة “منال” تكون قد فتحت مجالا ظلَّ مهيباً مثل كهف مخيف، ومدحورٌ من يلجه، لأن القهرَ هو المكتوبُ على الجبين العربي؛ فتحت “منال الشريف” الباب، وتركت المجال مفتوحاً لراغبات ليس فقط في قيادة السيارة بأيديهن، إنما أيضاً في التحرر من إرث يثقل كاهلهن بأفكار خُرْدة، آن الأوان لاستبدالها بما يليق، وبما يحفظ للمرأة ماء الوجه.. ولعلَّ حصد الزيارات كحبات الرمل لمشاهدة الشريط الذي بثته “منال” لا يعني سوى شيء واحد، وهو أن الزمن تغير، والعقليات أيضاً، فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع العواطف من أن تجيش؟ ومن يجرؤ، تالياً، أن يمنع عجلة التقدم أن تسير إلى الأمام؟..

   وكل محاولة من هذا القبيل تروم الوقوف كحجر عثرة في طريق التقدم لن تتعدَّى الناحية السلبية، وأصحابها لا مكان لهم في زمن التحرر، الذي يحفظ للمرأة مكانة رائدة تستدعي التفكير معها لا عنها..

  أصحاب هذه الأفكار التي تقصي المرأة من الانخراط في المجتمع إلى جانب الرجل وجها لوجه، لا ظهراً لظهر كما أحب أن أقول دائماً، أصحاب هذه الأفكار أعمارهم قصيرة؛ لأن رؤوسهم أكبر من الوسادة التي ينامون عليها ليلا إلى جانب زوجاتهم، يقضون الليل وهم يفكرون كثيراً، ويخوضون في أي شيء سوى الاعتراف للمرأة التي تنام إلى جانبهم بأنها كائن قد تكون أحياناً أفضل من عشرة آلاف رجل، وفي مجالات شتى.

  إقدام “منال” على قيادة سيارتها بنفسها، في شوارع “الخُبْر” بالسعودية، تجاوز الحدود، هي لم تكتف بذلك فقط، بل صورت فعلتها عن سابق إصرار وترصد، وبثتها في شريط شاهده الملايين، وكأن لسان حالها يقول لكل امرأة: “إذا ابتليتِ بما ترينه حقاً مشروعاً فلا تستتري”.. وهي رسالة أيضاً للخلف.. ذلك أن الأولاد الذين ستخلفهم “حواء”، البنات خاصة، سيرثون، إذا لم يتحرروا من نير العقليات المتحجرة التي ترى في المرأة مجرد جسد ناعم ضعيف عقلا وبنية، لا عقارات، ولا ثروات، ولا، ولا.. إنما عقليات قديمة، آن الأوان أن تزول وتندحر، وهي عقليات، إن ترسخت في أذهان صغارنا، فالعالم سيكون قرية صغيرة حقيقة لكن سكانها مجرد قطيع يسهل قيادته من تخلف وعار سيلُفُّ الأعناق وإلى الأبد.

   متى يجب علينا أن نفهم أن مجتمعاً مؤسساً على عقليات تنضبط لقوانين فارغة لا تراعي مصلحة الناس، لن ينجب سوى مزيد من تجليات التخلف التي  ستطال الزرع والضرع.

  ما معنى ألا تقود المرأة السيارة في هذا البلد أو ذاك؟

  معناه شيء واحد هو أننا لا زلنا نتحسس طريقنا، نضيع بين الفجاج، بينما غيرنا يفتحون أبواباً موصدة، عبر اكتشافات مذهلة، بغية خدمة الإنسان، بغض النظر عن جنسه، ومعناه أيضاً أننا لا زلنا أسرى لدى جنود الظلام الذين يرون في النور، مثل “دراكولا”، مقتلهم وعورتهم ..

هذا حلال للرجل، وهذا حرام على النساء،  هذا الأسلوب حين  يكرس بشكل أُمِّيٍ، وعن جهل غالباً، ويطبق بشكل عام، في كل شيء عن المرأة، يحز في القلب؛ لأن الذي يتقدم على كل شيء في كل هذا هو أن إسلامنا كرم المرأة، فكيف يجرؤ العبد على تبخيس قيمة المرأة لأنها أنثى، وفوق ذلك لأنها ضعيفة؟..

   ضعيفة؟

   ما أقبح هذه الصفة!..

  وما أصغر العقول التي تلوكها!.