مملكتي مقابل امرأة | شريف صالح

شريف صالح (مصر):

 

دعاني زميلي الروائي الملتحي للمشاركة في مهرجان أدبي في دبي ونزلنا في فندق الجميرا الفخم، ثم اكتشفت أن الروائيين فقط هم من يحق لهم تناول ثلاث وجبات في المطعم الإيطالي أما من يحمل لقب “قاص” فلا يحق له سوى وجبة الفطور فقط. تضايقت وقررت ألا أستجيب لأي دعوة من أي مهرجان بعد ذلك إلا إذا تأكدت من حق القاص في الحصول على ثلاث وجبات.

صراحة لم أكن جائعاً إلى هذه الدرجة لكن روائية لبنانية كانت تروق لي ورغبت في دخول المطعم والثرثرة معها.

كان يقف على مدخل المطعم صبيان كأنهما من أطفال الشوارع بملابسهما الرثة ورائحتهما المغبرة. صممت على الدخول وحين لمحني الزميل صاحب الدعوة نهض بهدوء وسحبني إلى داخل المطعم لكنه اشترط عليّ أن أجلس وحدي كأي قاص محترم حتى لا ألفت انتباه مسئول المطعم، وحذرني من الثرثرة وإزعاج الروائيين، قائلاً: “عذراً.. لن تستطيع أن تجاريهم في الكلام!” ثم جاء النادل ووضعي أمامي طبقًا به قطعة واحدة من الثلج!

كان الروائيون يثرثرون حول فتاة أجنبية تعزف على البيانو. اكتفيت أن أبتسم من بعيد للروائية اللبنانية وأنا أطالع صدرها العرمرم وأتنهد وأهز رأسي حسرة. هي كانت تبتسم لي، وأيضاً هزت رأسها هزة خفيفة وراحت تنفث دخان سيجارتها في اتجاهي بطريقة مثيرة.. أو أنا تخيلتها مثيرة.

لا شك أنها روائية نزقة!

أثناء انصرافي وبطريقة لطيفة، دون أن يشعر أحد، صافحتها خلسة وأعطيتها رقم غرفتي في ورقة صغيرة وتوقعت على الأقل أن تتصل بي ونخرج للتمشية على البحر في الليل أو شرب كأسين في بار “360”.

رتبت نفسي أن أكون جريئاً أكثر وأدعوها إلى غرفتي على كأس براندي فرنسي واستبدت بي الرغبة في عضعضة حلمة أذنها.

ظللت منتظراً اتصالها إلى أن غفوت، وعندما سمعت الطرق الخفيف، نهضت وفتحت الباب فرأيت زميلنا الروائي الملتحي صاحب رواية “معًا إلى الأبد”. كان يرتدي جلبابه الأبيض والطاقية الشبيكة ويدعوني إلى صلاة الفجر جماعة.. كنتُ أشعر بعدم التوازن من أثر السكر ولا أعرف كيف نمت كل هذا الوقت!

حاولت التملص منه فقلت له:

ـ “للأسف يا صديقي أنا درزي مسيحي”

حرصتُ ألا أكون فجًا معه. ابتسم وقال بإصرار: “وليكن.. اعلم يا زميلي العزيز أثابك الله أنك لو واظبت على صلاة الفجر جماعة ثلاثين يوماً ستشعر بسعادة ولذة.. لذة لم تذق مثلها قط!”

كان يثرثر بثقة كأي روائي، وطريقته في نطق كلمة “لذة” قرصتني وذكرتني مباشرة بصدر الروائية اللبنانية وشفتيها وهي تنفث سيجارتها.

لستُ متأكداً إذا كنت قد استسلمت لإلحاح الزميل الروائي الملتحي وخرجت للصلاة معه أم لا! كل ما أتذكره بعد ذلك أنني وجدت نفسي في صحراء خالية من البشر والمباني والأشجار.. لا شيء سوى مسجد صغير الحجم.. أمامه طاولة عليها عشرات النسخ من رواية “معًا إلى الأبد”. اقتربت وجلاً من باب المسجد المفتوح فرأيت شيخاً معمماً يعطيني ظهره وهو يجلس في هيئة التحيات ويتمايل خفيفاً إلى الأمام. بدا من انحناءته أنه عجوز طاعن في السن، فناديت من بعيد:

ـ “هل أدخل يا مولاي؟”

سمعت صوتاً أجش يشبه صوت الفنان محمد السبع في أفلام الأبيض والأسود:

ـ “ستعيش لحظات سعادة عابرة.. وحزناً طويلاً طويلًا”

ناديته مرة أخرى:

ـ “مولاي! أدخل؟”

ـ “ستعيش لحظات سعادة عابرة.. وحزناً طويلاً طويلًا”

ـ “مولاي!”

أخيراً التفت الشيخ العجوز ناحيتي فرأيت وجهه محروقاً ومتفحماً.. أسرعت هارباً.. وقبل أن أتجاوز سور المسجد الخارجي جذبتني يد حارس يرتدي خوذة ويحمل رمحاً، ودون أن يتكلم معي أعطاني سيفاً خشبيًا وربت على كتفي ثم خلع خوذته ووضعها فوق رأسي.

كنتُ متضايقاً لأنني فقدت أثر الروائية اللبنانية الشقراء وبدلاً من أمسك يدها وأقبلها وجدتني أسير في الصحراء وأحمل سيفاً خشبيًا.. ثم ظهر لي من دون توقع سور من أشجار الآس بزهورها البيضاء.

رحتُ ألوح بالسيف في الهواء وأجري منتشياً، إلى أن وصلت إلى نفق مظلم ورأيت على مدخله الملك ريتشارد الثالث، ربما لأنني كنتُ مفتوناً بمسرحيته.. كان واقفاً بجوار رأس حصان مبتور وهو يصيح صيحته الشهيرة:

ـ “مملكتي مقابل حصان!”

اندفعت أقلد صيحته بطريقتي الهزلية:

ـ “مملكتي مقابل امرأة”!

كلانا راح يصيح في اتجاهين مختلفين. هو يصيح: “مملكتي مقابل حصان”، وأنا أصيح: “مملكتي مقابل امرأة”.

كنت أصيح وأجري وألوح بالسيف داخل النفق، وكنتُ أسمع خرير الماء تحت قدمي. لم أعد أرى شيئاً عدا يدي وهي تطوح السيف يميناً ويساراً. أجري وأزعق: “مملكتي مقابل امرأة”.. ثم ضاق بي النفق فوضعت السيف في فمي وأكملت طريقي حبوًا إلى أن وصلت إلى لسان صخري يمتد داخل البحر وفي نهايته بار “360”.. موسيقى صاخبة تصدح حوله.. كان البار مزدحمًا بشباب وفتيات أوروبيات.. دخلت شاهرًا سيفي فرأيت الروائي الملتحي يسكر مع الروائية اللبنانية التي كانت تدخن بنفس طريقتها المثيرة.. فصرخت منقضًا عليهما بالسيف الخشبي: “الله أكبر”.