ذ. أحمد أولاد عيسى
– أسلم الروح في ليلة قلقة.
قالت أرملة المرحوم في نبرة حزينة وهي ترد على أسئلة موفدي القنوات المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي وكذا الالكترونية المنتشرة بكثرة في هذه المدينة النائية الكبيرة..
– لم نعتقد أنه كان ينازع في تلك اللحظة ..فالمرحوم لم يسبق له أن تعرض لأي وعكة من قبل..
صحيح . كان كالبغل في قوته. اللهم لا شماتة ولا تهكم. فللموتى حرمة ..ولا بد من ذكرهم بخير ,, ويشهد الله أني ما نويت ذلك .فغاية ما قصدت أن أضع المرحوم في صورة واضحة للقارئ , فهو الزميل الذي رافقني في العمل لمدة تزيد عن الأربعين سنة ، في ذات المؤسسة وذات المدينة منذ أن رمتنا الأقدار معا و ساقنا تعيين الوزارة إلى ربوع هذه المنطقة لنعلم الصبية ما شاء لهم أن يتعلموا ..
كان المرحوم ضخم الجثة ،فارع الطول ،عظيم المنكبين ، بارز الحاجبين ،ذا جبهة بيضاء ناصعة كقطعة اللجين. مستقرة برأس كبيرة ضخمة تشد الأنظار، وتغري الأغيار بالثرثرة في كل محفل ومجمع لتفسير سر “عظمة” تلك الرأس الكبيرة ..وذلك ما دفع موفدي المواقع الإلكترونية بالاهتمام والسؤال عن سبب الوفاة ..
كان المرحوم ،بحكم الزمالة في العمل والجورة في المسكن، إذا ما تحرك بمحاذاتي في زحمة الشارع بعد آخر حصة دراسية ،يكلمني من عل. وكنت أضطر إلى رفع الرأس إذا ما أردت مخاطبته. فكنت تراني لا أصل إلى منزلي إلا وقد تصلبت فقراتي عنقي من فرط ما شددت وجهي إلى السماء. فتسارع زوجتي إلى مسد عضلات رقبتي لإزالة الشد منها قائلة:
– لست مضطرا لرفع الرأس إليه. امش بجواره وانظر الى موطئ قدميك..
وكنت أجيبها:
– لكن النظر إلى رأسه وهي فوق الرؤوس متعة لا تضاهيها متعة..
ثم أزيد بعد أن يكون خدر أناملها قد تغلغل في وبعثرني :
– هل تعلمين ماذا أفكر فيه أحيانا؟ أن أطلب منه لو يحملني مرة على كتفيه واجلس هناك بالقرب من رأسه الضخمة، وهو ويتهادى بي في الشارع الطويل وأنا أنظر إلى الناس وهم من تحتي..
لذلك كان موته فاجعة ومفاجئة.. فاجعة لأنني خسرت زميلا لم يشك يوما ولم يتبرم – خلافا لي تماما- لم يتأخر ولم تغيب . والمدهش أنه طيلة أربعين سنة من العمل لم يمرض ولم يدل بشهادة للإدارة، مما كان يجعلني محرجا من فرط ما قدمته من شواهد طبية تبرر اسباب تغيبي .و يدفعني للتساؤل والحيرة عن سر هذه القوة التي يتمتع بها ولا أتوفر عليها..
لذا كان موته مفاجأة للجميع بعدما سرى بين الناس معتقد مفاده أن الرجل “ماركة مسجلة” لا تفنى ولا تبلى.
ولذلك تقرر اخضاع الجثة لتشريح دقيق لمعرفة أسباب الوفاة..(كذا قالوا في التصريحات الرسمية في الأخبار المحلية..) والحق أقول أن الدافع كان رأس المرحوم هي من اوحت بإخضاع الجثة للتشريح، و أغرت باستقدام العلماء من العاصمة للاشراف على العملية العلمية الفريدة.. فالرغبة كانت قوية لمعرفة حجم مخ الرجل، الذي اشتغل مدة أربعين سنة أو تزيد من دون أن يتبرم من رتابة الأيام، أو يشتكي من ضعف أو سأم..
في المشرحة بالمستشفى العسكري، المجهز بأحدث الوسائل الطبية، وبحضور ذينك العالمين الكبيرين في الطب التشريحي -حضرا على جناح السرعة من العاصمة لهذه الغاية قصد الاشراف على عملية التشريح واستخراج كنز الجثة – مخ المرحوم، والتمتع به والنظر إليه عن قرب ..كل ذلك أغرى العالمين بترك العاصمة ومتعها ،والحضور إلى هذه المدينة النائية بعدما تواترت الأخبار عن مناقب المرحوم الجسمية ،و في مقدمتها رأسها الضخمة بمخها الكبير ..
انكب العالمان الجليلان في مهمتهما بنشاط وحيوية، خاصة لما علما أنهما موصولان بالنقل المباشر على إحدى القنوات المحلية صوتا وصورة..
كانت حركات العالمين دقيقة، أرادا لها أن تظهر حذقهما في فن التشريح. كانا يصفان بعضهما بعضا بأدب جم. فلا تسمع احدهما يخاطب الأخر إلا ب : دكتور ، أستاذي. ويخاطبان باقي الممرضين معها في المشرحة بأبنائي.
حين أتما اخلاء الأحشاء وشرعا في حز الرقبة لفصل الرأس عن الجسد شرع العالم الكبير ذو النظارة السميكة في شرح الغاية من ذلك للمشاهدين : الآن نزيل الجزء الأمامي من عظم الجمجمة، التي تغطي ما يعرف بمقدمة المخ أو الناصية وهي مركز القرارات الهامة للإنسان.. لكن ..ثم سكت طويلا ولم يضف شيئا بعدما رفع رأسه في حيرة، ناظرا ناحية زميله نظرة ذات مغزى..لم منها شيئا ..قبل أن ينتقل من المقدمة إلى المؤخرة في حركة مفاجئة زادت من حيرة زميله .قال
مستدركا :سنتحول إلى الجزء الخلفي من الرأس لنباشر عملية الفتح للاطلاع على المخيخ.. سيستغرق الأمر بعض الوقت ريثما تنهي الألة الكهربائية شق العظم بروية .. لا نريد اتلاف المخ لأننا نريد اصطحابه كاملا في علبة زجاجية، نضعه في متحفنا القومي ليكون نبراسا تقتدي به الأجيال القادمة ..فالمرحوم كان مثالا يحتذى به . ومخه لا شك يعد ثروة قومية..
كان الجميع يشد أنفاسه في ذلك الصباح وهو يتابع على القناة المحلية مباشرة عملية التشريح، ويتطلع للحظة التي سيرفع فيه العالم بين يديه مخ المرحوم..وكثير راهن على أن لن تقدر كفاه الصغيرتان على حمل المخ .فلربما فاق مخ كل انسان منذ أن وجد على هذه الأرض.. أو على الأقل منذ ان عقلناه نحن الذين اشتغلنا معه.. أو لم يمدده بنشاط وقوة فاق كل تصور؟ فأكيد أن مخ المرحوم ليس كأي مخ..
تناسلت الافكار سريعا ،وطاش الخبر كما يطيش الماء في التنور. وجلست ألأرملة الحزينة مكرهة في جمهرة من الأحباب و الأصدقاء ومعها ابناءها الأربعة بين الحزن والفرح تتابع هي الأخرى الخبر كما باقي الناس ،وتتطلع هي الأخرى لرؤية مخ الحبيب الذي رافقها لأزيد من ثلاثين سنة ونيف من غير أن يكرهها على شيء أو يسئ إلى أولادها يوما ..
جلست والحزن بعينيها..
وفي المشرحة قال الاستاذ لزميله بعد أن استنفذ مجمع قوته ومبلغ علمه حين لم يجد شيئا. وكان قد نظر فلم يبصر، وأدبر ولم يقدر على تفسير الأمر فجلس حائرا خائر القوى:
– أين مخ الرجل؟
هذا الجذع الطويل. هذا الجسم السمين هذه الرأس الغليظة الضخمة بلا مخ؟
استبدت الدهشة بالحاضرين في المشرحة .واستولى الرعب على المشاهدين بلغب القلوب الحناجر فقيل: من راق؟
صاح زميله في نزق وقد فقد ورعه وأدبه ونسي التوصيلات المباشرة والنقل على الهواء:
– ابحث جيدا.
رد العالم الكبير في نزق هو الاخر:
– تقدم وافحص بيديك يادكتور .. لا شيئ بالداخل..
وفي حركة مفاجئة، نمت عن عصبية نزقة أخذ المبضع الحاد من يد زميله وتقدم إلى الرأس المفصولة، وشرع يقلب ناظريه داخل الجمجمة، باحثا عن مخ المرحوم، عله يجده في إحدى أركانها المظلمة. طلب مزيدا من النور فجيئ له بمصباح كهربائي قوي. مد أصبعه الطويلة في حذر شديد مخافة أن يتلف المخ المبحوث عنه. ثم أدخل يده كلها وحركها ذات اليمين وذات الشمال. ولما لم يجد شيئا قرر أن يطل برأسه داخل رأس المرحوم الجوفاء.
وحين عاد من رحلته الطويلة منهكا تعبا، وكان العرق يتصبب من جبينه، تبدو عليه أمارات الحيرة والشفقة انتصب الممرضان إلى جواره بمناديل شفافة بيضاء يجففان عرقه ويحاولان تهدئة روعه.
افترش الجميع بلاط المشرحة في استسلام تام لجبروت الظلام لا يفهمون شيئا ما يحدث. ولا يعلمون كم طال بهم الزمن وهم على هذه الحال حتى استفاقوا على صوت العالم وهو يقول:
– الواضح أن المرحوم كان يعيش بلا مخ.
وجاءه صوت زميله هادئا هذه المرة:
– لو قلت هذا الكلام في مؤتمر طبي لوصفت بالجنون يا دكتور.
ولم يكن في حاجة للتعليق على كلامه. فهو يعلم أنه لو قاله في مكان غير المشرحة (المعزولة عن البث المباشر بعد صدمة عدم العثور عن المخ) لعد من المجانين بلا شك .فالانسان يمكنه العيش بلا معدة ، بلا رئة واحدة .بلا كلية بلا رحم . بلا رجل، بل بلا قلب(بعضهم لهم قلوب شتى ولكنها ميتة) ويمكن أن يعيش بلا عقل . أي نعم . ممكن فقدان هذه الأجزاء جملة لدى انسان واحد و مع ذلك تستمر الحياة..
لكن بلا مخ؟ فهذا أمر لا يصدق.. فأين مخ الرجل؟
– لا بد من تفسير علمي يا دكتور
– ذلك ما أريد.. أمهلني فرصة للتفكير ..
– لست قادرا على استيعاب ما أرى .
واضح يا دكتور.
-و لا بد من كتابة تقرير طبي في هذه النازلة ورفعه إلى المسؤولين .
– ونقول لهم أن الرجل عاش بلا مخ. نقول لهم أن الرجل الذي درسهم في مدارسنا زهاء نصف قرن وتخرجوا على يديه كان استاذهم بلا مخ؟ فكيف سيكون وقع ذلك عليهم؟ هل تعلم كم من مصداقية ستسقط على ألاطر والمسؤولين بالبلد؟
صاح العالم محتجا :
– أنا لا يهمني ما سيقع من تبعات ذلك..أريد أن افهم ماذا حصل؟ أين مخ الرجل؟
– رويدك دكتور رويدك. سنبحث في الامر مليا. لكن جنبني عصبيتك هذه واتركني أركز قليلا لفهم ما يجري.
ثم قام إلى أطراف الجثة فأعاد بناء أجزائها من جديد على الأرض، والحق الجمجمة إلى الجسد المسجى والمقطعة أطرافه لكنها الموصولة بعضها الىى بعض .. ثم شرع يقيس طولها بخطواته عادّا: واحد. إثنان. ثلاثة. في كل خطوة تكاد تكون يقياس نصف متر أو يزيد قليلا.. ثم عاد من جديد يتفقد العرض. وهذه المرة استعمل الذراع كوحدة للقياس، ليخرج باستنتاج تساءل معه:
– الا يمكن أن يكون طول الجثة سببا في اختفاء المخ؟
ظلت علامات الاستغراب مستبدة بزميله ومتسلطة على وجهي فريق التمريض. وظلت أعينهم مركزة عليه تستحثه الاستمرار في تفسير تحليله بما قد يرفع عنهم سوء الفهم:
استطرد قائلا:
– ببساطة الرجل أكل مخه مع توالي السنين. وبانتهائه منه، مات ،لأنه لم يكن يغذيه طوال حياته..
الذين كانوا يستمعون إليه في المشرحة في تلك اللحظة لم يستوعبوا شيئا مما ذكره لذلك ظلوا يحدقون إليه في بلادة تامة.. أما هو فقد ظل بدوره يحدق فيهم تارة وفي الرأس الضخمة تارة أخرى لكن من دون أن يتمكن من زيادة تفسير لنظريته الجديدة في “النشوء والارتقاء” ..