محمد زفزاف ملاك أبيض يظهر ويختفي | سعيدة شريف
عجيب أمر الثقافة والإبداع في المغرب، قد لا يلتفت أهلها إلى أسماء بعينها إلا أثناء رحيلها، أو بعد أن تمر سنوات، وفي بعض الأحيان دهراً بحاله، على غيابها، وهذا ما يحدث فعلاً هذه الأيام مع الكاتب والروائي والقاص المبدع محمد زفزاف، الذي تتنافس بعض دور النشر العربية في نشر أعماله الكاملة، من مثل “المركز الثقافي العربي”، التي يبدو أنها حصلت على حقوق نشر أعماله من نجلته الطبيبة سهام، و”دار رؤية” المصرية للناشر محمد عوض، الذي دخل في خلافات مع “المركز الثقافي العربي” بهذا الخصوص، ثم “دار ورد” السورية لصاحبها مجد حيدر، نجل الكاتب حيدر حيدر.
لكن أين هو المغرب الثقافي الرسمي من كل هذا؟!
فباستثناء مبادرة وزير الثقافة المغربي الأسبق محمد الأشعري بإصدار الأعمال الكاملة للراحل محمد زفزاف، الذي تحل ذكرى رحيله الثالثة عشرة (توفي في 13 يوليو (تموز) عام 2001) يومه الأحد، وإقرار روايته “محاولة عيش” من أجل التدريس في أقسام الإعدادي والثانوي، وتخصيص مؤسسة موسم أصيلة الثقافي لجائزة للرواية العربية تحمل اسمه، لم تكن هناك أي مبادرات أخرى، تجاه هذا المبدع الذي وهب حياته لكتابة الرواية والقصة، وأحلهما منه محل حياته الخاصة، حيث تميزت أعماله بالروح المغربية الجميلة، والنبش في عوالم الناس البسطاء والمهمشين، ونقلها كما هي دون رتوش أو ماكياج، ورفعها بتقنيات كتابية عالية اكتسبها بنفسه بعصامية إبداعية خلاقة، مكنته من حب الكثيرين من الكتاب والقراء المغاربة والعرب له، لأنه ببساطة كاتب نبيل، متواضع، لا يبحث عن الأضواء، ولا يجري وراء سماسرة وأدعياء الأدب.
محمد زفزاف كاتب كبير، إنه “الملاك الذي يظهر ويختفي” كما وصفه الكاتب الجزائري الراحل الطاهر وطار، في إحالة على روايته “الثعلب الذي يظهر ويختفي”، وهو فعلاً يظهر ويختفي لدى العديد من الكتاب والمثقفين المغاربة، الذين احتفوا به بشكل خاص، لأنه الكاتب الأقرب إلى قلوبهم، الكاتب الذي حكى آلامهم وآمالهم، وآلام العمال المياومين، والفلاحين المقموعين، والموظفين الصغار الذين يقتلهم الفقر والرتابة.
زفزاف يحضر في رواية صدوق
هو ذا الكتاب محمد زفزاف، ذو الجسم النحيل واللحية البيضاء الطويلة، الذي خصه الناقد والروائي المغربي صدوق نورالدين بعمل روائي حمل اسم “الروائي” وأرفقه بعنوان جانبي هو محمد زفزاف يكتب “الثعلب الذي يظهر ويختفي”، صادر عام 2011 في طبعة مشتركة عن “دار أزمنة للنشر” بعمان، و”الدار العربية للعلوم ناشرون” ببيروت، وهي رواية اشتغل فيها نور الدين صدوق على استحضار العلاقة التي كانت تربطه لسنوات طويلة بالكاتب والروائي والمترجم المغربي الراحل محمد زفزاف، واصفاً، وبدقة متناهية صديقه زفزاف الذي يعتبر ملهم الكتاب المغاربة، وأحد رواد القصة القصيرة في المغرب والعالم العربي. ثم محكيات للكاتب عبد الرحيم التوراني عنونها بـ “صديقي زفزاف: الغيلم والطاووس”، وقبل هذين الكتابين، كتاب جماعي لـ “رابطة أدباء المغرب”، التي لم يعد لها وجود اليوم، حول الكاتب الراحل بعنوان “محمد زفزاف: الكاتب الكبير“.
أطلق القاص المغربي إدريس الخوري على محمد زفزاف صفة “الكاتب الكبير” من باب المزاح والدعابة، ولكن زفزاف فعلاً أثبت مع مرور الوقت أنه كاتب كبير، ومبدع لا يشق لع غبار، وإنسان بمعنى الكلمة، وصديق لكل الكتاب المغاربة والمشارقة والأجانب، كان بيته بمثابة “زاوية” أو “مزار” يتبرك به الجميع، يؤمه القاصي والداني، ويدل زائر بيته في حي شعبي بمدينة الدارالبيضاء، الصغار قبل الكبار، لأنه ببساطة كان يعطف عليهم، ويفتح لهم بابه، وقلبه، كاتب متواضع وزاهد إلى أبعد حد، لم يفكر أبداً في الرحيل عن حيه الشعبي، بعد أن اشتهر، وكثر زواره ومريدوه من الكتاب والصحفيين.
زفزاف كاتب حر وفي لمبائه
شكل محمد زفزاف مع الكاتبين: الراحل محمد شكري، والقاص إدريس الخوري، قطبا ثلاثياً في الكتابة الإبداعية بالمغرب، التفت كل منهم إلى الهامش بطريقته الخاصة، ورسخ اسمه في سجل الإبداع العربي والعالمي، حيث ظل زفزاف في هذا الإطار كاتباً حراً وفياً لمبادئه، ولخصوصيته المغربية، رغم انفتاحه على ثقافات متعددة كالروسية، والأوروبية، والمشرقية، حيث كان سباقاً إلى النشر في المشرق العربي، وقد تركت قصته “الديدان التي تنحني”، التي نشرت في مجلة “المجلة” المصرية التي كان يرأس تحريرها الراحل يحيى حقي، وقعاً كبيراً على قراء القصة العربية آنذاك، كما لفتت الأنظار إلى هذا الكاتب، الذي واصل نشر إبداعاته وترجماته في أمهات المجلات العربية آنذاك (المعرفة السورية ـ الآداب اللبنانية ـ الأقلام العراقية، وغيرها..)، وهو ما حقق له شهرة واسعة على مستوى العالم العربي، وجعل مجموعة من أعماله تُدرس ببعض الجامعات الأوروبية والأمريكية، وخصوصاً روايته الشهيرة “المرأة والوردة”، التي ترجمت إلى عدة لغات أجنبية، كما اختيرت بعض قصصه ضمن المختارات القصصية العالمية.
الشهرة هي التي سعت إلى محمد زفزاف غير أنها لم تستطع أن تغير من أصالته ونبل قيمه
ورغم هذه المكانة والحظوة الرفيعة، لم يسع محمد زفزاف قط إلى الشهرة في حياته، كما أنه لم يشهد له البتة بتهافته وراء الأضواء ووسائل الإعلام، فالشهرة هي التي سعت إليه، غير أنها لم تستطع أن تغير من أصالته ونبل قيمه، ومن وفائه لمبادئه ومواقفه، وهو الذي عاش بسيطاً إلى حد الجرح ومات بسيطاً.
وإن كنت أذكر الكثير من فضائل هذا الكاتب الأبي والشجرة المعطاء، فإنني أتذكر نصائحة لي في بداياتي المهنية في الصحافة الثقافية بصحيفة “الشرق الأوسط“، حيث لم أكن أتردد في الاتصال به والذهاب إلى بيته بالدارالبيضاء، وكان دائما يستقبلني بابتسامته العريضة، ويده تتلمس لحيته البيضاء، وهو يقول لي “تفضلي ماما، أنا في الخدمة”، كما أنه لم يكن يبخل علي بالكتب والترجمات المهمة، ويحثني على القراءة والمتابعة الدقيقة، حتى تكون للثقافة المغربية مكانة مخصوصة ومتميزة في الصحافة العربية.
زفزاف مسيح الأدب المغربي
الكبار وحدهم هم الذين نتذكرهم، ونتذكر نبل أخلاقهم، كما أتذكر اليوم هذا الكاتب الغرباوي النحيل، القادم من مدينة فقيرة هي مدينة سوق الأربعاء الغرب (التي تبعد ببضع كيلومترات عن العاصمة الرباط)، وأتذكر أعماله التي أحفظها وأعود إليها كلما ضاق بي ما يروج من أدب اليوم، غير أن اسمه وحياته وإبداعه وشهرته، كما هو الحال بالنسبة لموته، ارتبطت جميعها بمدينة الدار البيضاء، المدينة “الغول”، التي فجرت طاقته الإبداعية، ووجد فيها ضالته التخييلية، حيث ظل وفيا لها، وتمثل عوالمها السفلى والهامشية، ورصد تحولاتها المتسارعة، وتطور شخوصها، إلى أن دُفن بها، رحمه الله.
ومحمد زفزاف من مواليد 1945 في سوق الأربعاء الغرب، درس الفلسفة في كلية الآداب بالرباط، ومارس مهنة التدريس في المدارس الثانوية بالدار البيضاء، انضم إلى اتحاد كتاب المغرب عام 1968، وحصلت الترجمة الفرنسية لروايته “بيضة الديك” على جائزة الأطلس للكتاب عام 1998، وهي الجائزة التي تنمحها مصلحة الكتاب والثقافة بالسفارة الفرنسية بالمغرب، في حين لم تخصص له وزارة الثقافة المغربية ولا التفاتة تذكر في جائزة المغرب للكتاب. وقد أرجع الشاعر العراقي سعدي يوسف قلة الاهتمام بزفزاف إلى سببين: “الأول أن أعمال زفزاف العفوية الصادقة تحترم جمهورها وتعنى بقضاياه ولا تقدمها كما يشتهي الآخر، والثاني: أن زفزاف لم يكتب بلغة أجنبية“.
أصدر الأديب الراحل تسعة مجاميع قصصية هي: “حوار في ليل متأخر” 1970، و”بيوت واطئة” 1977، و”الأقوى” 1978، و”الشجرة المقدسة” 1980، و”غجر في الغابة” 1982، و”ملك الجن” 1984، و”الملاك الأبيض” 1988، و”العربة” 1993، و”بائعة الورد” 1996. ومن أعماله الروائية: “المرأة والوردة” 1972، و”أرصفة وجدران” 1974، و”قبور في الماء” 1978، و”الأفعى والبحر” 1979، و”بيضة الديك” 1984، و”محاولة عيش” 1985، و”الثعلب الذي يظهر ويختفي” 1985، و”الحي الخلفي” 1992، ثم “أفواه واسعة” 1998.
ومن بين الكتاب والمبدعين المغاربة، ظل محمد زفزاف الأكثر وفاء لمسحوقي شعبه، حريصاً الحرص كله على أن يظل هذا الوفاء متألقاً واضحاً عبر الإبداع، لا عبر البيان الصحافي أو السياسي، لقد كان الأدب المغربي بحاجة إلى مسيح، يعذبه الفقر والمرض، ويموت بدلاً عن جميع الكتاب والأدباء المغاربة، فوجد الكاتب محمد زفزاف، الذي اختارته المستشرقة الروسية أولغا فلاسوفا على رأس أربعة كتاب عرب لهم مكانة خاصة لديها، وتشعر تجاههم بود خاص يتعدى الصداقة إلى نوع من الأخوة والأمومة، وهم: سعد الله ونوس، ويوسف رزوقة، والطاهر وطار.
محمد زفزاف 2017-01-29