أجرى الحوار : أحمد الشيخاوي
قال إن الكتابة العروضية وإن اعتدّت بالشكل تقبع نابضة بالهمّ الوجودي، وخروجي على الوزن إلى قصيدة النثر أو غيرها، جدّ وارد ،هي مسألة وقت لمزيد من الاقتناع بذلك لا أكثر.
صاحب ” أزهار نيتشه ” المُسْتَعْذِبُ بَحبوحة الموزون، يشاكس دروب الحياة والقصيدة بإصرار وسندبادية . يحلب زرافات الفلسفة الإنسانية مختومة بأسرار عالميتها التي تقذف بالحكمة كرات من نار يبرّدها شاعرنا على سجيته كي تصلنا بردا وسلاما،مدغدغة فينا جوارح التّلقّي، ومعرّية بالتّمام نقائص وسلبيات الكائن والعالم.
يناور ب” نيوكلاسيكية نصانية” تطّرد في منجزه مدشّنة لعنة أبدية اسمها القصيدة المقفّاة مزدانة بنفس تمرّها على القشيب، وطاعنة بلذّة درء الشّبهة عن القوالب الخليلية في أعمق لحمتها والتصاقها بدوّامة المعهود عن ديوان العرب من أغراض.
ها أنا ذا أزعم يقينا أنّ الشاعر المغربي محمد العياشي،استطاع وإلى حدّ بعيد أن يرقى بالكتابة العامودية جاذبة بـــ “كريستاليتها” ، وينقر بها مستويات مازجة بين الإرباكية والإدهاش ، وسائر ما فشلت في بلورته قصيدة النثر غالبا، من قبيل معالجة تفاصيل اليومي والهامشي والمعطّل ضمن رؤى وجودية صرفة ممسوسة بإقحام دوال النبض بالموروث والرّموز والمقدّس.
بداية ،ما سرّ هذا الاعتكاف على منبر الموزون؟
– تحياتي الصادقة صديقي العزيز أحمد الشيخاوي. هي علاقة تمتدّ إلى مطلع بداياتي الشعرية مع منتصف العقد الثاني من عمري ،يعني من زمان مراهقتي حيث المقدّمات الأولى في الكتابة الشعرية التي استحالت جدا وسرعان ما ضبطت معها العروض الشعري وصار جزءا من كياني الشعري وكان العروض في ذلك الوقت ضرورة نفسية قصوى طروبا لي سيما إذا استثمرت بشكل ممتاز في نص شعري،ومن ذلك الحين وأنا لا أستطيع الكتابة خارج الوزن إلى أن اعتكفت فيما بعد على البحث في الأسباب التاريخية والأدبية التي كانت وراء ظهور قصيدة النثر وحاولت فهم أدبياتها مع مجلة “شعر” العتيدة وروادها في الخمسينات من القرن الماضي وحاولت أن أقتحمها لكني مازلت فاشلا إلى اليوم.
بيد أني أجد الوزن ممتعا ومحفّزا على الإبداع، وإنّه بتنوعه الفسيح من بحور طويلة وقصيرة و متوسّطة إلى مجزوءات كثيرة يمكن أن يحتوي كل انفعالات الشاعر شرط أن يكون مستوعبا له. على أن الكتابة خارجه ممكنة جدّا بالنسبة لي وربما قد تأتي مجموعة شعرية يوما كلها من قري شعر النثر إذا اقتنعت بما كتبت فيه.
لخطاب الصّعلكة حضورا لافتا في شعرية محمد العياشي، حسب تقييمكم ما منسوب انكسار الذات المحمولة على تفجير الماهية المغرقة في تقمّص أدوار الغريب في بيته؟ بصيغة أخرى، كيف ترخي هواجس الوطن المنفى ظلالها على مشروعكم الإبداعي؟
– الكتابة تأتي عفويا ووعيا بمحيطها والكتابة استجابة لداع داخلي لحوح لا يخرج عن دائرته. يعني الشاعر ابن بيئته كما قيل من قديم. والشاعر الذي لا يمتح من ذاته ولا يحفر في أعماقه لن يكون هو. وأنا ابن هذا الوطن/ المنفى بما له وما عليه وكتاباتي هي نوع من سيرة ذاتية ،فكل ما صدر لي اليوم تبرّم كثير ورضى قليل وأنا لا أستطيع الخروج البتة مني من منفاي وطني… إذن للوطن المنفى المشفى حضور وتأثير من حيث أدري ولا أدري.
مشروعنا الإبداعي صحيح أنه يعتني بالشكل ويسعى إلى صقله دائبا. ولكنه يحمل على كاهله همّا وجوديا جرّاء منفاه الداخلي الذي يأبى عليه العودة.
أشهى صور القصيدة ما كان قبضا طفوليا على جمرة الحياة.. ما مدى طغيان ذاكرة الطفولة على أعمال شاعرنا؟
– الشاعر مهما كان هو روح طفل في جسد رجل وإلاّ فستتعسّر عليه كتابة القصيدة.
أكيد أنّ للطفولة حضورا قويا محيطا بالكتابة في كلّ أشكالها عندي ولعلّ تيمة الغاب وحضور الجبل والطبيعة هي من تداعيات طفولتي. فأنا أطرب كثيرا وأسعد ويسهل عليّ أن أصغي إلى قلمي إذا وجّهته لاستعراض زمن الطفولة حيث الأيك والجبل.
كما قلت آنفا روح طفل في جسد رجل. كلما وفّق الشاعر في العودة إلى الطفولة أثناء معالجته لنص ما أبهرنا به.
يلوك وعينا نبوءة مشرقة للموسوعي الراحل محمد برادة،تنهض على جدلية بناء الإنسان والأوطان، بحيث أشار في إحدى أيقوناته الاستشرافية ،إلى كون خراب العالم إنّما هو رهين بحجم فشلنا في المقاربات المسؤولة لمثل هذه الإشكاليات، وكيف أن خطأ الصين التاريخي بارز في انكبابها على هندسة سورها العظيم توهّما ، و تفاديا للتطاولات والإعتداءت الخارجية،بينما الثغرة المغيّبة ها هنا كامنة في تغافل بناء الإنسان من الداخل، باعتبار انحرافه يشكل تهديدا جوهريا بتبعات جحيمية دونها طوفان العدو الخارجي المحتمل.
وأنا أقول” أنسنته” ثم ترك الحبل له على الغارب بعد ذلك، كضرب من تأهيل للصيانة الذاتيه والترابية.
إلى أي حدّ يشتغل شاعرنا على هذا المنوال؟
– بناء الإنسان أولا قبل بناء الجدران والأسوار، ويتأتى مع بنائه وجدانيا وثقافيا ومعرفيا ولابدّ أن تتكاثف عدّة قطاعات منها المدرسة والإعلام والمؤسسات الرسمية الأخرى وتكافؤ الفرص… لكي يتحق هذا المرام.
الشعر والأدب يتغييان في صميمهما بناء وجدان الإنسان والرقي به..؛ كيفما كان توجه ذلك الشاعر وتمذهبه،وعليه فحفري في اللغة وفي الذات والمحيط كله يرمي إلى تجسير الهوة بيننا وصيانة الذات وترقية الوجدان، الشعر رافعة من رافعات بناء الحضارة لا جرم.
طقوسيات هويتنا الأمازيغية كمفخرة لنا جميعا ، كيف يتمّ تدوير معانيها ومنحها صياغات جديدة ومغايرة ضمن دواليب لغة الضاد في كتاباتك؟
– المغرب هو الشّق الأمازيغي وشقّ العربي والج وذائب فيه وبدون الشقّ الأمازيغي لن يكون المغرب مغربا كما هو ومميّزا بين شعوب العالم، ومن بين مميّزات الجانب الأمازيغي المغربي إضافة إلى فنونه المتنوعة شعر عميق و وفير وممتاز، علينا الإلمام به وحفظه من الاندثار حتّى يكون دعامة في تكوين شخصيتنا الشعرية. على كل حال للأمازيغية حضور دائم يكاد لا يغيب لحظة، فلا ضير أنا أمازيغي محيط بلغتي المحلية وبآدابها وأشعارها وفنونها وأحاول استثمارها فيما أكتبه،لذلك هي مرجع من مراجعي الأدبية.
مما لاشك فيه أن تماطلات الدولة في دعم الأدب الجاد والملتزم إجمالا،هي المولّد الرئيسي لكم الفراغات الممكن أن ينفذ منها فكر الإرهاب والتطرف. ما مدى تورّط بضع مؤسسات لدينا في مستنقع مثل هذه السُّبًّة، بخاصة فيما يتعلّق بنهوض ادعاءاتها واشتعال همّ رعايتها للكتاب والإبداع بشتّى صنوفه، على التطاوس الإيديولوجي والاصطفافية والزبونية..؟
– تضافرت عدّة أسباب منها السياسي والحزبي والتاريخي حتّى صار مشهدنا الثقافي والأدبي كما لا يخفى على أحد من المتتبّعين مهترئا ومشبوها وطغت عليه الزبونية والشللية كما ذكرت في سؤالك. مما يحول دون طفرة أدبية لافتة مع أن المجتمع الأدبي في المغرب حافل بأقلام نوعية وعميقة في شتى فنون الأدب.
هذا المناخ الشعري السّقيم لن يسمح بنبوغ أقلام وازنة يسمح لها بالوصول إلى العالمية مثلا،لأنه محطم ومثبط.
الشهرة والأضواء ومحافل الجوائز والأوسمة أفسدت مبدعين كثر وطنيا وقطريا ،وسرّبت إلى عقولهم غرورا أماط أقنعة الزّيف عن صدق وأمانة وسحر أناملهم، فباتوا مجرّد ديناصورات تأبى الانقراض تباهيا وصنعة خرقاء،لمنابر النقيق ورسمية الإعلام، ضلع في ترويج الخيالات المريضة لهؤلاء.
العياشي في اعتقادي ، يجدّف إبداعيا في الظل،و في معزل عمّا ليس يهبّ لصاح نرجسية الإنسان النقيّ،كائن المروءة والأخلاقيات، الذي يحترم ذاته وذائقة مريديه ،ويخلص للقصيدة حدّ وضعها فوق الحياة .
رأيكم في هذا الطّرح؟
– الغرور عدو العطاء والإبداع كما هو معروف، و أكيد ليس يغترّ إلاّ المزيّف من الشعراء والمتكسّب الذي يتخذ الكتابة وسيلة للوصولية والجوائز مع أني لست ضدّ الجوائز ولكني ضدّ الكتابة لأجلها. أعتقد أنّ الشاعر الحقيقي يتخذ منظورا للكتابة غالبا ما يكون صحيحا بحيث يكون خاليا من الانتهازية والرّبحية والنرجسية لأنّ الشاعر الحقّ إنسان يكتب لأجل الإنسان.
صحيح أني بدأت الكتابة منذ 16 سنة ونشأت بعيدا عن أي مؤسسة أو جهة ما ، إي كنت أستاذا وتلميذا في ذات الآن.
إلى أن صدر لي عملي الأول ( منابع الأشواق) سنة 2010 وتوالت الإصدارات الأخرى غير أني بقيت في ظلي الظليل الذي يقيني قيظ الزيف والتزلّف. وكنت مع ذلك أنشط وأحضر الأمسيات الشعرية وكنت مسؤولا عن الملتقى الدولي للشعر بمدينتي الجبلية ( مريرت) لدورات قبل أن ارحل ويتوقّف الملتقى وأنا الآن أنشط مع مؤسسة الموجة الثقافية.
كلمة تضيفها؟
– القادم أجمل
*شاعر و ناقد مغربي